Friday, March 13, 2009

الوسام


كان التراب ثقيلا فوق المعول، و كانت يداي تعملان بحزم شديد...

*****

قلت لجدي و أنا أواريه تحت التراب:"لِم لم ترو لي قصتك مع النضال؟"
غشاوة من الدموع صمت أذني، و لعله لم يقل شيئا. أبعدني أحدهم و تناول المعول عني و شيئا من الأجر.. وحّدت مبتعدا عن المكان أو هاربا، و عيناي لا تفارقان تلك الحفرة العميقة المتحفزة.. اصطدمت قدماي بالنعش الذي كان على كتفي منذ دقائق... كان مركونا بعيدا عن القبر، و كان بجانبه العلم الأحمر الذي كان آخر ما ضمه إليه. و غير بعيد عنه، رأيت وسادة بيضاء رقيقة، عليها وسام أحمر صغير كتب عليه : الإستقلال.
لا أذكر كيف علق جدي على صدري ذلك الوسام يوما ما، و لكن الصورة التي التقطها أبي، تشهد على ذلك.. كان ذلك الوسام الذي قدمه له بورقيبة ذات احتفال، كل ما تبقى لجدي من سنواته التسعين أو نيف... مرضه أنساه كل شيء تقريبا.. القصرين، عمله بالمزارع، بالحضائر، بشركة المحولات، أرياف منزل بورقيبة، رحلاته مع الخمّار، ذكريات الصبا مع أخيه خليفة، رحلة عودته من سجن 9 أفريل (نيسان).. فقط بعض الأشباح التي لم تزل تراوده، فيحاول أن يصوغ ما شاء الله له أن يصوغ من الكلام المعقلن و الأحداث التي يمكن للسامع أن يستسيغها، لكنه لحسن حظه لم يكن يتكلم كثيرا.. جدي من المولعين بمقولة : ليس عندي ما يقال! هكذا عاش، أو هكذا عرفته..
قديما كان يحدثني عن بعض الأشباح التي لم تزل بمخيلته، "عمر البهيم" الذي ـ أعني جدي ـ أصر طوال حياته أن ينادوه "عمر الغزال"، و "الروامة" الذي حاز عنهم "دياره" و من ثم قدمها طبقا من فضة لأولاده.. لكن أكثر الأشباح مراودة له، كانت تلك التي تدعوه إلى مسقط رأسه "جومة".. لا يمكنني أن أخطئ ارتعاشة حاجبيه و شفتيه و هو يمتدح جومة.. حبه لــجومة جعلني أتخيلها في صباي جنة ضائعة.. فيما بعد، اكتشفت أنها منزلان و مقبرة على سفح جبل مهجور عند ضواحي منزل بورقيبة... ربما لم تكن كذلك بالأمس، لكنني حينما لامست نسماتها، أمكنني بشيء من الخيال أن أتفهم حب جدي لها.. لعلها كلما علق في ذاكرته المتآكلة..



" و ما الذي علق بذاكرتي أنا عن جدي؟"
تبادر السؤال إلى ذهني و أنا في طريق العودة مع والدي، فعرجت إلى ثنيّة أخرى طالبا من والدي أن يعود بمفرده... من بعيد، يلوح كتّاب بن شعبان، الذي تعلمت فيه أبجديات اللغة و القرآن و الحساب و الحياة، و بجواره تلك الضيعة الشهيرة التي تعلن بداية "طريق الكالاتوس" أو طريق مقبرة النصارى الجميل... أذكر كيف كان جدي ينتظرني عند مدخل الكتّاب باسما، يكتفي بأن يأخذ بيدي و يمضي في تلك الطريق بتؤدة...
ما ظل بذاكرتي عن تلك الأيام، يصور طقسا حزينا هادئا، مثل هذا اليوم تماما، و كان وقع المطر حينئذ كذلك الذي أسمع الآن : ثقيلا، بطيئا، كحركة جدي... يقف جدي ببرنوسه الثقيل القصريني، قبالة أشجار الضيعة و قد كسا الماء معظم أراضيها، و بعد بعض أزهار الربيع الأولى التي نسيت أو تناست أمطار آذار، كناجيات من مركب غارقة.. كان يقف صامتا. لا أخاله كان يتفكر في أمر ما، أو يتأمل.. بل لعله كان يتذكر، تماما كما أفعل أنا الآن.. هو ذا المشهد ذاته يتكرر أمامي بذات التفاصيل، و لكن من دون جدي... و هذه البقرات الناعسة؟ أكانت هناك أيضا؟ أعتقد ذلك.. في الواقع، صار من الصعب صنع حاجز بين المخيلة و الذاكرة، خصوصا مع شخص مثل هذا الرجل الذي لم يترك لفضولي غير أضغاث ذاكرة و سيلا من التخيلات...
جلست أتأمل المشهد و أحاول أن أقارنه بتلك الصورة التي اختزنتها ذاكرتي طوال أكثر من ثمانية عشر سنة كاملة.. من الغريب أن لا يتغير المشهد كثيرا، رغم تفاصيله الدقيقة، لكنني خمنت أن ذلك ليس بغريب عن مدينة مثل منزل بورقيبة.. هنا يصبح للزمن وحدات قيس جديدة، و تصبح الساعة ترفا قياسيا لا طائل منه. أ هذه هي المدينة التي ناضل جدي من أجلها؟ أكان يقف عند هذا المكان وقفة رضا أم حيرة؟ كل ما أعلمه أنه اعتزل الحياة تماما. لم يكن هناك شيء يشغله سوى الشاي و السيجارة.. لم يتابع الأخبار، و لا أحوال البلاد أو العباد. كأنما يقول : "لقد أنجزت مهمتي، و لم يعد من أمر آخر أجيد فعله. الآن بدأت مهمتكم، اصنعوا بلدا و عمروه، ابنوا جيلا طموحا لم ير مشاهد الذل و الهوان، لم يعمر عقله خرافات الجهل و تداعيات التخلف!" هل قدم جيل والدي ما دعا إليه جدي؟ هل وفروا التعليم و الصحة و الاستقرار؟ من المرجح أن نعم.. فما الذي تبقى إذا يا جدي؟ ما الذي تبقى؟

*****

قال لي جدي مجيبا : " قصتي مع النضال لم تنته حتى أرويها. قصتي مع النضال تنتظر أن تكملها أنت..."


Translate