Monday, July 27, 2009

الجلسة السابعة

جلست في هذا المكان للمرّة الأولى منذ سبع سنين.. و منذ ذلك التاريخ و أنا أحاول إيجاد موعد دوريّ معه..

هو موعد غراميّ و لا شك، ففي مواعيد الغرام وحدها ما يجعلنا نرتجف هيبة و نتحرّق شوقا. و في مواعيد الغرام وحدها نحرصا حرصا أن نبدو في خير حال، بينما نشعر هلوسة أننا في أسوإ حال..

كنت قد هيّأت نفسي لكل نشاط ممكن، و كل نشاط على هذه الرمال ممكن، و جميل الإمكان أيضا. لم أنس أن أدّخر مجهودا طفوليا للسباحة، و مزاجا رائقا للمزاح و التندر، و استعدادا تاما للجنون، و ربّما حصة للنّوم و طبعا بطنا خاوية للأكل!

لكنني أفاجأ بي، أترك كل هذا جانبا، و أمسك القلم! إنها حاجة الكتابة. و قد تعلمت أن لا سبيل عن تلبية حاجة الكتابة. لكنني تساءلت أيّ سبب يضطرني اليوم أن أكتب عن هذا المكان بعد سبعة مواعيد بدون تعليق؟

أذكر أنّني فكرت سابقا في الحديث عن مواعيدي هذه، لكنني في كل مرة أحاول فيها ترجمة مشاعري إلى كلمات، أجدني ظالما مقصرا، فما الذي جدّ هذه المرّة؟

كنت جالسا أتأمّل الجزيرة بعين خاوية و أخرى لا شيء فيها كما يقولون، و في مبادرة غريبة منّي، تناولت القلم و الكراس، أنا أريد الكتابة إذا! أكان ذلك أمرا أمرتني به الجزيرة خفية دون أعيه؟ لن يدهشني ذلك أبدا، فلهذه الجزيرة سرّ غريب، و أمر مريب، و إنّ الناظر إليها، ليشعر بذلك أيّما شعور..

و كأنّها تخاطب فيه مكامن حسّه فتأمره بالسعادة حينا، و بالحنين إلى الذكريات حينا آخر.. هذه الجزيرة العارية من الخضرة، الحبلى بالأسرار.. لم أكن أتخيّل أوّل أيامي هنا، أن لها كل هذه السطوة على المكان..

كم تندّرنا بها حينئذ، و كم أمضينا الساعات نبحث عن تشبيه مناسب لها.. سمّاها الكثيرون الباخرة، و سمّاها آخرون الحذاء، بينما رأى أغلبنا أنها تشبه أنف أحدنا، فاستقرّ رأينا على هذا التشبيه بعدما غلبنا الضحك..

لكنني اليوم أرى فيها كبرياء يفوق ما لأنوفنا جميعا، و أن سلطتها على المكان لا جدال فيها.. أحاول عبثا تخيّل البحر بدونها، فترتسم صورتها في ذهني و يختفي البحر و الناس الذين يضم جميعا!

رأيتها و البحر هادئ مستقرّ، فإذا بها المشرف على هدوئه، المؤمّن لسكونه. و رأيتها و أمواج البحر تلتطم، فإذا بها من يرسل الأمواج في وقع مستفزّ متعمّد ! حتّى الناس كانوا في دخولهم إلى المياه الخفيفة الصافية و كأنهم يحجون إليها، و في خروجهم من الماء كأنهم عائدون من الحجة..

أيّة رسائل تحمّلها تلكم الأمواج، و أيّة كلمات تتبعثر بتيعثرها (الأمواج) على الرمال، و سيقان الرائحين و الغادين؟ استدرت إلى الخلف فطالعني الجبل المتدثر بالسباسب و الأعشاب. فاجأني المشهد الأخضر، و كأنني ألحظه للمرة الأولى. و عدت أتأمّل صحراوية الجزيرة. و لوهلة خيّل إليّ أن الأمواج قد ازدادت عنفا!

ترى ما الذي يحدث بين اليابسة العامرة بالناس و الحياة، و بين الجزيرة التي و كأنّها مصدر كل تلك الحياة؟ أيّ صراع يدور بينهما طوال السنة؟ لقد بات المشهد غريبا فعلا، و بتّ أتخيّل المياه حبلا يتجاذبه الطرفان. و كأنّ كليهما يبحث أن ينسب البحر إليه! هذا بما فيه من حياة و مرح، و تلك بما تحمله من سحر و غموض، و للناظر أن يحار بينهما طويلا، حيرة هذا البحر التي لا تنتهي!

لكنني أعلم أنّ هناك أمرا ما لا ريب فيه في كل هذا... و نهضت متوجّها إلى تلك المياه الطفلة أداعبها، و أنا أحمد الله على نعمة هذا الصراع!


فاروق الفرشيشي
27 ـ 07 ـ 2009

14 comments:

Anonymous said...

يبدو لي أنّك تعيش حالة من العشق اللاّمتناهي...
لا شفاك الله منه :)

Unknown said...

شكرا يا ليلى
:)

Anonymous said...

كيف عرفت أنّي ليلى؟

Unknown said...

:)

لنقل إنني أجيد الاستنتاج ;)

Amal said...

فعلا تشبه الباخرة

هل ذهبت إليها فعلا أم هو إيحاء الصورة؟

Unknown said...

هي وجهتي في كلّ صائفة.
الخاطرة نقلت ما كان يحدث فعلا و لا خيال هنا
:)

Amal said...

ما شاء الله

أغبطك

وبعد النظرة الثانية أشعر أنها اقرب للغواصة منها للسفينة

أرجو أن تغفر لفضولي, أين تقع هذه الجزيرة (أي في اي بلد)

Iori Yagami said...

في تونس، في قرية رفراف شمال البلاد بين العاصمة و مدينة بنزرت.

أذكر أننا أمضينا نصف يوم نحاول ايجاد تشبيه ملائم للجزيرة.. في النهاية استقر الأمر على "أنف" أحدنا!

Amal said...

أه كم أتمنى زيارة تونس

أنا لا أرى الأنف ولكن ربما المنظر الحيوي يختلف عن الصورة

منظرها ينذر بميلاد قصة

ما أسم الجزيرة؟

Unknown said...

اسم الجزيرة قمناريّة او Pilau كما سماها الفرنسيون.

Anonymous said...

يهيء إلى أني لو كنت اسكن قرب هذا الشاطيء لأنجبت ألف قصيدة

ترى هل يصنع الكتاب الأماكن
أم أن الاماكن هي التي تصنع الكتاب؟

أفضل إسم قمنارية

ماذا يعني الإسم؟

Unknown said...

يقال ان اصله ثمة نارية، لأن الشمس تطلع من وراء قمة الجزيرة فتعطيها منظرا أشبه بالنيران المؤججة..
لم يتسن لي رؤية المشهد بعد..

rasha said...

السلام عليكم والرحمة ..

غاية في الروعة .. مشاعر دافئة .. حاسة حالي اسبح في تآملات نسجتها تشبيهاتك ووصفك الرائع .. رأيت منظر خلاب .. ماشاءالله .. اشعر بالحزن لتأخري عن هذي المدونة

Unknown said...

و أنا أشعر بالسعادة :)
من المثير أن يكتشف قارئ ما المدونة، و يعود إلى الكتابات التي خلت ان الزمن قد دفنها معه. هذا يشعرني أن ما كتبت لا يزال هنا

Translate