Tuesday, November 1, 2011

مباركة : آمال عريضة




فاجأتنا العريضة، قبل أن تفاجئ الآخرين... فاجأتنا العريضة، و جعلتنا نتلفت حولنا في ارتياع، و نبحث بعيدا عنا، عمّ حصل، كابوس رهيب أحس به كثيرون، ربما الفائزون بالانتخابات قبل الخاسرين.. بعضنا كان يضحك ساخرا من تصريحات الهاشمي الحامدي منذ يومين او ثلاثة بشأن حيرته بين الاقامة في قرطاج او في ضاحية شعبية. و بعضنا الآخر لم يسمع عن حزب الهاشمي الحامدي الذي ساند قوائم العريضة الشعبية المستقلة (مثلما ساند حزب العمال قوائم البديل الثوري مثلا) . لكن الغالبية العظمى لم تكن تعرف شيئا عن العريضة الشعبية، بل و سمعت من يتساءل في حذر : من هو الهاشمي الحامدي؟!

طبعا لن أنطلق من هذه النقطة، فلا يهمني الكثير عن تاريخ الهاشمي الحامدي و تاريخ اذاعته المستقلة سوى كونها كانت قبلة كل المعارضين، و محط اهتمام التونسيين، قبل ان يقع الهاشمي في غرام ليلى بن علي و تقواها و يقتل كل تجربة اعلامية معارضة من بعده.
سأبدأ منذ ذلك اليوم الذي نزل فيه ممثل حزب المحافظين التقدميين ضيفا على برنامج ساحة الاحزاب.. كان واثقا، معتدا، يتحدث عن الدكتور الهاشمي الحامدي حديث الواثق المتيقن من نتيجة الانتخابات. و انتظرت الهاشمي في الحملة الانتخابية، انتظرته في الاعلام التونسي، فلم أر منه شيئا، و اعتقدته أنه لم يكن جدّيّا تمام الجدية في ما يذهب اليه، و رسخ ظني حينما سمعت حديث الحامدي على قناته، و  حيرته بشأن مسكنه الجديد. كنت مستغربا أن يصدر عن رجل مثله كلاما كهذا. أ أصيب بلوثة عقلية؟ لم يكن كذلك قط. أي لعبة يلعبها؟ طبعا لم أتخيل أن يوم الاحد كان قادما باجابة سريعة جدا..
لماذا نجح الحامدي و فشل آخرون؟ هذا هو السؤال و التفسيرات الكثيرة لم يشأ أصحابها أن يتعاملوا مع الافكار الاخرى التي قد تمسّ منهم و تنتقدهم، لكنني هنا أؤثر أن أبحث في جميع الاسباب التي تظافرت لانجاح العريضة.

التجمع :
تقول سهام بن سدرين الصحفية المختصة في تتبع التجمعيين و البوليس السياسي و اقتفاء آثارهم، ان العريضة يقف وراءها تجمعيون و يسهرون على انجاحها. و دعمتها هيئة كمال الجندوبي باسقاط بعض قوائم العريضة. العريضة مدعومة بالتجمعيين لا من خلال ممثليها فحسب، بل من خلال عملية الدعاية اليها. فقط التجمعيون يعرفون مسالك تونس المظلمة. وحدهم التجمعيون يحسنون الغوص في أعماق البلاد، و يسيطرون على العمد و الشيوخ، في القرى و الأرياف. وحدهم التجمعيون يملكون القدرة على التجميع و التسويق في مناطق كثيرة قليلة السكان، لكنها مجتمعة قد تمثل قوة انتخابية لم يفكر فيها الكثير من الاحزاب.
من المعروف أن التجمع أخرج من رحمه احزابا كثيرة لا قبل لنا بحصرها، يقودها ولاة و وزراء و قيادات تجمعية سابقة يسهل كشفها، هل كانت تلك خطة التجمعيين لتمويه الجميع و العمل سرية؟ لا أخال ذلك. أعتقد أن التجمع لعب على كل المستويات الممكنة. كثرة الاحزاب تعطي فرصة اكبر من المقاعد. اللعب على الجهويات لها مفعولها أيضا و هو ما قدم 5 مقاعد لكمال مرجان. لكن رهان العريضة الشعبية كان الاكثر فاعلية. لماذا؟ لأسباب أخرى.

الأرياف :
أغلب الأحزاب التونسية تعمل في المدن. أعتقد أن الأمر عاديّ تماما، فكل الاحزاب تقريبا حديثة النشأة و لا تزال في مرحلة البناء و تأسيسي المكاتب المحلية. من الصعب جدا أن تنجح الاحزاب اذا في الدخول الى الأرياف فما بالك بتأسيس قواعد بشرية لها. أما العريضة، فكان ذلك موجودا و جاهزا للاستعمال أيضا.
لم يصل خطاب الكثير من الاحزاب الى الارياف، و بعض الاحزاب اكتفت بزيارات عابرة في حدود ما تسمع به امكاناتها المادية، و اكتفت بتوزيع منشورات على أناس لا يقرؤون أصلا. منشورات لا يعيرها الناخب اهتماما حقيقيا حين عملية تقرير المصير.
هل اعتقدت الاحزاب أن الارياف بضعف كثافتها السكانية، لا تمثل قوة انتخابية كبيرة؟ ربما. ربما فكرت جميعها بهذا الشكل، و تقاتلت من اجل اقتسام غنيمة المدن، بينما كانت خلايا العريضة تعمل منفردة في هذه المناطق.
أما الاحزاب التي تتهم العريضة و تهاجمها، فتقول اليوم انها لم تر العريضة في الحملة الانتخابية. أجيبها ببساطة، ان العاطل عن العمل، المستلقي في مخدعه، لا يمكنه أن يرى عمل الآخرين.

الإعلام :
لم تكن الاحزاب المنافسة فقط من عمي عن هذه الارياف و المناطق، بل الاعلام أيضا. الاعلام في الواقع لم يتنبه للارياف فقط، بل لم ينتبه الا للمدن الكبرى الثلاثة لا غير. كان اعلاما متقوقعا جدا في استوديوهاته، يناقش الاحزاب الشُوس العارفين، بعضهم يتحدث بصوت الحكمة و بعضهم يتحدث بصوت الثورة، و ربما يتحدث الاخرون بصوت الشعب. و لا أحد فيهم زار الشعب أو عرف احتياجاته.
حينما قدمت قناة "حنّبعل" مشاهد من جولتها حول المدن و الأرياف المغيّبة، فزعنا و اعتبرنا خطابها استهبالا للمواطن، و قامت عرائض احتجاج من جندوبة و من مدن اخرى رفضا لشكر باعث القناة، و ترشيحه رئيسا من الكثير من الناس. و لم يدر بخلد أحد منا أن الامر يتجاوز التمثيلية الرخيصة، الى  مطلب حقيقي من أناس وجدوا لأول مرة في حياتهم من يلتفت اليهم و الى معاناتهم. لم يدر بخلدهم أن التلفاز الذي يرون فيه تونس الغريبة عنهم، جعلهم لأول مرة تونسيين.
مارس الإعلام اذا اضطهاده المعتاد لاغلب مناطق الجمهورية و لم يزرها الا لو حدث طارئ، اما الاكثر خطورة، فهو أنه لا يتبنى خطابهم، بل مثلي أنا الآن، يعتمد خطابا يحضر فيه الجمع الغائب بكثافة، فأعظم سكان تونس "هم" و سكان المدن التي توجد فيها اذاعاتنا و قنواتنا "نحن"! كان خطاب "هم" و "نحن" حاضرا بصفة ضخمة لم يتنبه اليها احد "منّا" ربما لأننا "نحن"!
هذا الاعلام لم يصور حملات العريضة الشعبية، و صورتها بعض الهواتف منذ أفريل|نيسان الماضي، فتبيّننا أن العريضة قدمت حملة شعبية عادية جدا، لم تكن في جنح الظلام، و لم تكن تقدم المعونات الضخمة كما رأينا الاتحاد الوطني الحر، و لا "الاعمال الخيرية" التي تقوم بها النهضة "بدون مقابل"..
و لأن الاعلام التونسي الرائع لم يلتفت الى تونس و اهتم باستوديوهاته و ما جاورها، فهو لم يعلم بالظاهرة التي تسمّى عريضة، و لم يستدع أيّا من ابنائها، و هنا يمكن لي بشيء من الخيال أن أرى جماعة العريضة يقدمون برنامجهم الخيالي امام اعين الناس، فيجيبهم بعض الخبراء و يثبتون لهم (ان صدقوا فعلا كلام الحامدي) و لمنتخبيهم استحالة ما يذهبون اليه.
و لأن الاعلام التونسي الوطني، مقروءا و مسموعا و مرئيّا بات غريبا عن البلاد، يتحدث بلغة لا يفهمونها، يستعمل ألفاظا فرنسية كثيرة "يتوه" معها المواطن خصوصا اذا ما انحشرت ـ مجانا ـ في كلام النخب (حتى يبدوَ اكثر نخبوية ربما، او ربما لأنه بالفعل لا يعرف لغة القوم الذين يواجههم بالخطاب)، فقد كانت القطيعة بينه و بين التونسيين (و هنا حينما اتحدث عن التونسيين، اعني "هم" )، و كان التفسير لعدد الناس الذين تسألهم الاذاعات عن الانتخابات فيجيب تلك الاجابة الشهيرة "ماني فاهم شيء من هالانتخابات."
لكن الاعلام استمر طبعا في مسايرته للنخبة، و كأنه ينتظر من المواطنين ان يتحولوا بين عشية و ضحاها الى اكاديميين، او حملة شهائد او على الاقل اصحاب تعليم ثانوي. الحقيقة غير ذلك.. الحقيقة أن 23% من التونسيين لم يقرأوا في حياتهم كتابا. و الحقيقة أن نسبة الأمية لاتزال مرتفعة، و الحقيقة أيضا ان تونس ليست فرانكوفونية برغم كل ما ذهبنا فيه من فرنسة.
بين عتمة الاعلام و تعتيمه، جاءت العريضة بعيدا عن عدسات الكاميرا، بعيدا عن المعارضين، بعيدا عن من يكشف للناس حقيقتها، فقدمت خطابا كان أيضا سببا رئيسيا في نجاحها.

الخطاب :
من الممتع أن أتخيل عم حمد، الرجل الطيب في حومتنا، و أمامه الهاشمي الحامدي و حمّة الهمامي يحاولان اقناعه ببرنامجيهما و تصوراتهما للمستقبل. عم حمد ليس أميّا و لا جاهلا، بل يملك السيزيام، و يطالع ما أمكن له أن يطالع. أتخيل أمامه حمّة الهمامي الذي سمع أنه شيوعي (لم يصل به الحد الى قراءة رأس المال و لا عن المادية الجدلية)، يحدثه عن المسار الثوري، و صندوق النقد الدولي و النضال التقدمي، صراع الطبقات، و جمهورية البروليتاريا و الكادحين (و هو كادح جدا بالمناسبة)، ثم أتخيل الهاشمي الحامدي يخاطبه بلهجته البوزيدية و كلامه الشعبي، فيختصر له المسافة و يقول له الصحة بلاش، و النقل بلاش للكبار، و نزيدو في تسكرة الطيارة و غيرها كيف ما تعمل تونيزيانا، الخ الخ... اي خطاب منها سيقنعه؟ طبعا الثاني، على الاقل، هو لن يذكر شيئا من خطاب الاول سوى انه خطاب شيوعي (ملحد و هي فكرة تظل في باطن الشخص و قد تطفو احيانا).
قد يكون لعم حمد بعض التحفظات بشأن الاشخاص المرشحين عن البديل الثوري في جهة بنزرت، لأنه يعرف بعضهم و يعرف شهرة مقاعدهم في حانات المدينة، (و هو ما يعتبر عيبا عند التونسيين ـ هم ـ مرة أخرى). لكن ماذا عن سليانة، و ماذا عن قفصة، و ماذا عن سيدي بوزيد؟؟؟ الم يكن كبار مناضلي اليسار مثلا يعولون كثيرا على هذه المناطق؟ اين رأينا حمّة يقود حملته الانتخابية؟ كيف لم يحط علما بشعبية العريضة في تلك المناطق؟ كيف لم ير علامات الاستغراب في وجوه القوم و هو يحدثهم حديثه الذي ساقه؟
التجمع قاد العريضة الى تلك المناطق، لكنه لم يشتر الاصوات ( على الاقل لا اخاله يملك ثمن كل هذه الاصوات) بل أقنعهم و انتصر على اليساريين مثلا الذي كانوا في الميدان نفسه و عادوا بمقاعد ثلاث مثيرة للشفقة.
للخطاب قيمته، الخطاب الذي يتوجه مباشرة الى الصحة و النقل و ضروريات الحياة التي يحلم بها المواطن التونسي، بدون مواربة و لا تخف وراء لغة ايديولوجية غير مألوفة للأذن التونسية. قد يقول المرء ان خطاب الهاشمي الشعبوي هو في نهاية الأمر ضرب من التحيل، بل هو الاحتيال بعينه، و هو أمر لا يتجادل فيه اثنان، لكن الخطاب الشعبي لا يتناقض مبدئيا مع الواقعية و تقديم البرامج الدسمة. قد لا يفهم عم حمد مصطلح العدالة الاجتماعية، لكنه يفهم نتائجها : الصحة في متناول الجميع، ليس مجانا و ليس غدا، لأن ذلك غير ممكن، و لكن يجب توفير المال للدولة أولا، و لتوفير المال للدولة، يجب ان نقضيَ على السرقات، و يجب أن نتخلص من الديون. و كي نقضي على السرقة، يجب أن نحاسب السارقين، و كي نحاسبهم يجب أن نوفر قضاة شرفاء. اذا يجب أن نبدأ من القضاء، الخ..
التونسي ليس غبيا، حتى و ان لم يقرأ كتابا في حياته، فهو حتما ليس غبيا و هو حتما يمكنه ان يستمع اليك، و يفهمك، لو قدمت له خطابا قابلا للفهم، لو قدمت له برنامجا بلغته التي يفهم. بل ربما تكون اللغة عاملا في استمالة التونسي و الظفر بمودته، في ظل احساسه بالعزلة و الاختناق و التهميش من قبلـ"نا" نحن، "المتحضرون" أصحاب اللغة الراقية، او اللغة "التقدمية" او "الحداثية" أو "الاسلامية"..
لقد عبر إبراهيم القصاص عن ذلك أحسن تعبير حينما هاتف الهاشمي الحامدي على قناته، و أكد له أنه يعمل جاهدا من اجل اقناع قبلي بالتصويت للهاشمي، لا حبا فيه، بل نكاية و شماتة في الاحزاب الاخرى التي تنزل ضيفة على القنوات التلفزية، فتقذف مشاهديها بما شاء لها ان تقذف من بغائها الخطابيّ و تعاليه، فلا هو يفهم شيئا و لا عائلته تفهم شيئا، سوى أنهم غرباء تماما عن وطنهم كمعظم اهاليهم.


قداش تتحملي يا مباركة -- جمهورية قبلي المستقلة -- from ibrahim chedli on Vimeo.


ان ما حدث في الواقع، هو مجموعة من الظروف البريئة و غير البريئة التي اجتهدت و تعاونت، لا كي تكسر عرس الانتخابات، بل كي تعرّي حقيقة فاتت كثيرين منا. تونس كانت لنحو 20% من سكانها، بينما يعيش الاخرون في ظلنا. تونس ليست ساحلا سعيدا و داخلا منكوبا، بل ان التعساء بيننا، يعيشون في ظلنا، قد تقابل بعضه في طريق عملك، فلا تتساءل البتة أية حياة تراه يحياها، و اية لغة تراه يتحدث بها، و اي فكر يعتمل في نفسه، و اية آمال بسيطة تجول في خاطره.. ان ما حدث هو أن الهاشمي الحامدي كشف لنا ـ في لوثة ركضه وراء السلطة ـ عن وطن نغتصبه من أصحابه باسم "مباركة"...




Translate