Thursday, December 27, 2012

المواجهة

مرحبا مجددا، هذه المساحة مخصّصة لتقبّل آرائكم بخصوص أقصوصة "المواجهة".. تجدونها في كتيب بسيط الشكل بعنوان "الخروج عن الخطّ" .. لم تعثروا عليه في المكتبات؟ اتصلوا بي اذا :)


هل سمعتم صوتا ما؟ ماذا كان ذلك؟ هل هي المخيّلة؟ أم أنّكم تحاولون اقناع انفسكم بذلك؟ ليس من السهل على المرء أن ينهض ليستطلع مصدر صوت سمعه، خصوصا لو كان يجلس وحيدا في ليلة لا قمر فيها.. شيء ما بداخله يلحّ عليه أن يتناسى الأمر و يعتبره هذيان آخر الليل... شيء ما سيدعوك لأن تفرّ من المواجهة.. أنت جالس هنا بسلام.. لا تدع صوتا غريبا يفسد كلّ ذلك.. لنعش بسلام.. لنمت بسلام..



Iori Yagami
27 كانون 2012



الأغنية الواردة في القصة، عن كرتون "لحن الحياة" المقتبس من رواية "حكاية مغنّي العائلة (تـْرَابّ)" The story of Trapp Family Singers و التي ألهمت أيضا الفيلم الموسيقيّ الشهير "صوت الموسيقى" The Sound of Music
 

Monday, November 19, 2012

الخروج عن الخط

مرحبا،

لماذا أخترتُ عنوان هذه الأقصوصة عنوانا للكتيب؟ من المؤكد أن كل أقاصيص الكتيب تحمل شيئا منّي، لكن ربّما كانت هذه القصة أكثرها شبها بي.. الأكيد أنني لم أعش طفولة كئيبة كأحمد.. لكن الخروج عن الخطّ كان محنة عشتها ..

إليكم مقطعا من الأقصوصة، و لا تبخلوا علينا بآرائكم و اقتراحاتكم :

لا أحد يعرف إسم "سَتِي"، لا أحد يعرف إلى أين تذهب في المساء، و لا متى تأتي.. "ستي" رهيبة قويّة، صوتها يجلجل في أركان القسم كأنه يسكن فيها، لكنّها ضحوك أيضا، تجيد صنع المقالب، تجيد اضحاك الصبية متى أرادت.. "ستي"، "ستي".. من طرقات حذائها على الأرض، تعرف أنك في برّ الأمان، أو أنّ نهايتك قريبة! 


و للقصة بقية.. 
فاروق الفرشيشي
ليلة 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012



Wednesday, October 10, 2012

شاهدتُ : مملكة النمل

مملكة النمل، حلم المخرج التونسي شوقي الماجري أخيرا في القاعات. معاناة طويلة عرفها الرجل، كي يتمكن من تصوير الفيلم، ليس أيسرها جمع المال الكافي للانتاج.

مملكة النمل، قيل عنه الكثير، و سبق اسمه كتابته، و سبق الحديث عنه، حديثه. و بات الانتظار مشوبا بشيء من الخوف من الاحباط. الاحباط ديدن الاعمال التي تنتظر منها الكثير.
خصوصا أن شوقي الماجري انطلاقا من أعماله الدرامية ( التي شاهدتها على الاقل) جدّ مؤهل لذلك (يمكن أن نذكر "هدوء نسبي" كمثال قويّ لذلك.)
لكن، مع كل ذلك، قتل الفضول القطة كما يقولون، لم أجرؤ أن أضنّ على نفسي بعمل انتظرته منذ سنوات في الواقع..

الانطباع؟
الفيلم بدا لي أشبه بومضة اشهارية عن المعاناة الفلسطينية. ومضة طويلة جدا، لكنها ومضة : اتقان في الشكل، التزام بالفكرة الواحدة، و وضوح في الرسالة. شيء أشبه بومضات : الارهاب لا دين له. لكن تجمع بينها علاقات عضوية : الشخصيات مثلا. كل ومضة تصوّر موقفا ما : مشهد العرس في المغارة. مشهد العريس في الشارع، مشهد الأطفال في المدرسة، مشهد الدفن، مشهد السجن. كلها مشاهد مستقلة بذاتها، يمكن أن تقدم بمفردها رسالة بليغة و واضحة.
ما يُلزم الومضة، ان الدراما تغيب في الشخصيات، لا تتطور الشخصية، و لا تتغير، هي صورة ثابتة، تقدم فكرة واضحة، ترمز إلى صورة ما. و هو ما يتجلى تماما في الفيلم. الجد بدأ منقبا بين الرفات، و انتهى كذلك. و الجد بدأت عبوسا تحمل مأساة فلسطين البكر، و ظلت كذلك، الزوجان بدآ بالحلم، و انتهيا به، الجندي الاسرائيلي، بدأ جنديا كل همه أن يجعل الحياة مستحيلا و انتهى كذلك. ربما صبا مبارك هي الشخصية الوحيدة التي شذت عن القاعدة و لو قليلا. و هو ما جعلها شخصية أكثر حيوية و أكثر عمقا (بقليل)..

أسلوب الومضة هذا، أضر بنظري بالعمل كثيرا. بدا، أبعد عن الدراما السينمائية، و بسّط كثيرا من الشخصيات فيها : الفلسطينيون ملائكة على وجه الأرض. بسطاء، احلامهم جميلة و بسيطة، ثقافتهم الفن و الحياة. الاسرائيليون : الاشرار، يقتلون بدم بارد، ثقافتهم الموت و الدمار. قد يعجب الأمر المشاهد العربي المتحمس، لكنّه حتما سينفّر المشاهدَ الاوروبي الفضوليّ. فنّيا هو أمر سيء جدا.

كما ذكرت، الشكل كان متقنا، لولا بعض الهنات الفنية البسيطة (المشاعل عند مدخل المغارة يمكن ان ترى على بعد أميال، اصابة الطفل في قلبه تلقي به في الحال، الجنود حينما اكتشفوا مدخلا للمغارة، لم يفكروا باقتحامها.. الخ) و تصوير مشاهد حرب الشوارع، هي عادة ماجريّة محببة، برع الرجل فيها و خبِر. لكنّ أكبر العيوب شكلا كانت الموسيقى، كانت فشلا تاما برأيي، لم تقدم للفيلم شيئا، و كان من الممكن اعتماد موسيقى فلسطينية بطريقة أكثر حرفية و مهارة وسط الفيلم.

صبا مبارك، كانت من أجمل ما ظهر في الفيلم تقريبا، و قد حاول المخرج تقديمها في صورة شاعرية تخرج عن الواقع المحيط بها، فهي جميلة في كامل زينتها دوما، متأنقة في أحلك المواقف، إلى حدود تثير الغيظ أحيانا (حينما فجرت دلال نفسها) و أشياء أخرى..

فكرة الفيلم نفسها ليست سيئة أبدا، صورة الفلسطينيّ الذي بين امواته و تاريخه تحت الارض، لايزال يناضل من أجل أن يعيش، لا يزال يمارس "الحياة" و يحتفل بها، كعنوان أعظم للجهاد و المقاومة. فكرة تحاول كل "الومضات المتفرقة" تقديمها، لكن كما ذكرت، كل ومضة كانت "كافية" جدا. بدا الفيلم و كأن الماجري، يملك فقط هذه الفكرة، و يحاول جاهدا أن يملأ منها فيلما كاملا..
بعض الومضات كانت كلاسيكية جدا (في القدس، في المدرسة)، بعضها رغم كونه كلاسيكيا، كان مؤثرا إلى حد كبير (زفة العريس في الشارع)، بعضها كان بالفعل مبتكرا و رائعا و هنا أشير خصوصا إلى قصة التفاحة، التي كانت من اجل مشاهد الفيلم. و مواطن الجمال هنا ثلاثة : المغارة (و قيل إنها في تونس)، فلسطين (عاداتها الجميلة و فن الحياة فيها)، و صبا مبارك!

عموما، فالفيلم برأيي مخيّب، ليس فيه جديد تقريبا، لكنّه خير مذكّر لمن ينسى، و هو بروباغندا لا بأس بها، فلا تبخلو على أنفسكم بمشاهدته، و لا تبخلوا على العالم بمعرفة الحقيقة..
 
 

Monday, September 17, 2012

حديث في الهوية ـ 3 ـ

هذا ليس تدوينة مفردة، انما تكملة للحديث السابق بخصوص الهوية. و هو حديث ـ على قصره ـ لا يلخّص، و الاسلم أن تبذل أصابعك شيئا من الجهد و تنزل الى التدوينة السابقة، و كن واثقا أنها لن تأخذ منك وقتا أكثر من زمن استهلاك سيجارة...

 كنتُ قد لخصتُ في نهاية حديثي إلى طابع الهوية الجماعية الديناميكيّ، و إلى تعدد أوجهها التي يشعّ أحدها أكثر من الآخرين، و يخفت بريق بعضها حسب الحالة و حسب المكان و الزمان و الوضعية التي يمرّ بها المجتمع.
كما تعظم بعض الوجوه و يكبر سطحها مقارنة ببعض الوجوه الاخرى التي قد لا تكاد تُرى لولا بعض كلمات متسللة إلى اللغة، أو بعض آثار لا تزال صامدة بوجه الزمن.. و كي نقترب أكثر بمثال الشكل المتعدد الاوجه لشكل الهوية، يجب الاشارة أنّ كل وجه من وجوه الهوية، ليس "مسطّحا" تماما و انما هو نفسه يتكوّن من ملايين الوجوه الصغيرة غير المتداخلة بشكل غير مرئيّ حتى يبدو للناظر كأنه وجه واحد. ففي هويتنا مثلا وجه عربيّ، و وجه أمازيغيّ، و وجه اسلاميّ، لعلها أبرز الوجوه و أكبرها مساحة، و بها تتلوّن هويتنا أكبر تلون، لكن لا يمكن نسيان بعض الوجوه الاخرى فقط لأنها صغيرة لا تكاد ترى، كالجرمانية مثلا، او الفندالية، فنحن لا نلحظ في ثقافتنا أي طابع "فنداليّ"، لكن هناك يقين أن هذا الوجه هنا، في مكان ما من انفسنا و عاداتنا... لكنّ الوجه العربيّ أو الاسلاميّ ليسا مسطحين تماما، بمعنى ليسا خالصين، بل إن كلا منهما خليط دقيق من الوجوه المجهرية التي لا تكاد ترى، فوجهنا الاسلاميّ قد لا يخلو من عادات و طقوس ذات أصول يهودية، بل وثنيّة أحيانا، و هذا لعله موضوع آخر، و وجهنا العربي هو خليط من الوجه اليمانيّ، و الشآميّ، و ربما الآشوريّ، و الفينيقيّ، و العبرانيّ... 

هذه حقيقة هويتنا، معقدة، مركبة، ضخمة، عسيرة الاستيعاب، حيّة، متحركة، متشكلة بتشكل الاحوال و المجتمعات. فما الذي يجعلنا نرفع لواء وجه دون غيره، و ما الذي يجعلنا نرفض وجها دون آخر و هو فينا؟

أمين معلوف الذي انطلقت من كتابه (الهويات القاتلة) في بداية حديثي، لم يهتم كثيرا بطابع الهوية الجماعية المركب و الديناميكي، و انما تحدث عن ذلك في بداية الكتاب كميزة لهويّة "كل فرد" فينا، و خلص في النهاية إلى استنكار ضرورة الانتماء الى "هوية" (يقصد وجه من وجوه الهوية) ما دون غيرها، و رأى أن ليس على الشخص الافتخار بأن يكون عربيا أو كرديا أو تركيا، فهو لم يختر ذلك، و مهما تكن هويته فسيفخر بها و هو ما يجعل هذا الفخر سخيفا. مع ذلك، قدم في قالب حديثه عن الهوية الجماعية (الثقافة) تفسيرا واضحا لهذه الظاهرة.

يقول بن خَلدون "الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران" و لأن كل حاجة اجتماعية (كالتكاثر) تقابلها حاجة نفسية (كالحبّ) تدفع الانسان إلى تحقيق الاولى، فحاجة الانسان إلى الاجتماع، تفرض عليه الحاجة إلى الانتماء، و لا يوجد انسان قادر على التخلص من الحاجة إلى الانتماء. أنت تبحث أن تنتمي إلى أشياء بسيطة جدا، موسيقى الفلامنكو، فريق كرة قدم، جمعية خيرية، كارهو اللون الرماديّ، أحباء الننتاندو، أو كارهو الـiPhone، لذلك، ستفرح كثيرا حينما تقدم الـplaystation لعبتها الجديدة، أو ستضحك كثيرا على النسخة الجديدة من الـwii، ستغني بفخر آخر أهازيج جماهير اليوفي، لأن الفخر ليس المعنيّ بحد ذاته، و انما النشوة التي يحدثها الانتماء.. و يمكن لذلك أن نسوق ذات المعنى على عظيم الامور : الانتماء إلى حزب سياسي، إلى مذهب دينيّ، إلى فلسفة، إلى وطن، إلى عرق، إلى لغة، الخ.. الانتماء فطريّ في الانسان و لا يمكن أن يرفضه عاقل. و لأن التعصب هو اسراف في الانتماء، فلا يمكن الحكم على شيء من خلال الاسراف فيه، فالاسراف في كل شيء سيء و مضرّ، اما لماذا يحدث الاسراف في الانتماء فهذا ما سأعود إليه لاحقا.

لكنّ حاجة الانتماء، تقابلها حاجة أخرى يمارسها الانسان بكل امتياز، ألا و هي الحاجة للتميّز. و الحاجة للتميّز هي حاجة الانسان الفطرية لأن يشعر بذاته الفرد. لأن لا يذوب وسط الجمع الذي ينتمي إليه. لذلك فالانسان في خضم نخوته بالانتماء لجماعة، يبحث أيضا عمّا يميّزه عنهم. و في هذا التواتر بين التميّز و الانتماء، تتكون شخصية الانسان، اما ثائرا مفرطا في ثورته عن جماعته حتى ينعزل، و اما ذائبا تماما وسط القطيع، منسحبا مع التيار ناسيا وجوده الفرد تماما، و اما على شيء من التوازن بين هذا و ذاك.

و لأن الحاجة البشرية إلى الانتماء و التميّز فطرية بالاساس، فالمفرط في ثورته، سيبحث عن الانتماء إلى جماعة أخرى غريبة عما حوله، سيبحث عن تلك الجماعة في عالم آخر، أو تاريخ آخر، أو جنس آخر، أو لغة أخرى... و الذائب في تيار الجماعة، ستمرّ به لحظات كثيرة من الشك و التفكير بذاته الغارقة، فيرهبه البعد، و ترهبه المحاولة، فيعود إلى السطح مرتبكا "مستغفرا" من أحساسيسه... قد اذهب الى اعتبار أن الدول الشيوعية، بالغت في طمس فعل التميّز و تضخيم فعل الانتماء، بينما حاولت الليبرالية قتل الانتماء و التكريس "لأنا و من بعدي الطوفان"، لكنّ هذا سيجرّنا إلى متاهات لا يتحمّلها حديثنا.

ان هذه الطبيعة البشرية المتأرجحة بين التميّز و التماهي، بين التمرد و الانتماء، تجعل من المحال أن يتوحد البشر تحت هوية واحدة، او ثقافة واحدة، مهما كانت متعددة الاوجه مركبة، سيظل دوما هناك اختلاف باختلاف المناخ، و التاريخ، و المعتقد، و طريقة النطق، و غيرها. لكنّ العالم اليوم، مع تطور وسائل التواصل و الاعلام، بدأ يكوّن وسائل تلقي مشتركة، كالتلفاز و الانترنت، و من خلال هذه الوسائل، باتت ثقافة الآخر متاحة لكلّ مجتمع (تقريبا) و كلّ بيت، و لم يعد بعد المسافة حاجزا لتفاعلات ثقافية لا تقل أهمية عن التفاعلات التي تحدث في حالات الغزو، أو التواصل التجاريّ المكثف (و قد كانا أكثر الطرق التي كرّست للتلاقح الثقافي عبر التاريخ).. و لكنّنا حينما نتحدث عن التلاقح فإن هناك دوما مجتمعا سيفرض ثقافته على مجتمع آخر، و لو عبر من الثاني شيء إلى الاول. و هذا بالضبط ما يحدث اليوم. فوسائل التواصل لا تقدم ثقافة المجتمعات بصفة متوازنة، و انما للأقوى الحظُ الأوفرُ، و هذا لعمري أمر طبيعيّ، لكنّ نتائجه ليست طبيعية بالمرة. فالتلاقح الحضاريّ اليوم ليس عموديا فحسب، بل و سريعا إلى درجة تفوق الاستيعاب أحيانا. ما الذي سيحدثُ إذا؟ ستحدثُ ردّة فعل قويّة تجاه ذلك. تبدأ بتضخم نزعة الانتماء إلى أحد وجوه ثقافة المجتمع المتلقي، تضخما كبيرا، قد يصل حد التعصب، و التطرف أيضا.


تقدّم العولمة على أنها ثقافة مشتركة، قيم كونية، و مجمع لثراء التراث البشري و تراكماته، لكنّ الامر أبعد ما يكون عن الصورة المثالية التي تقدم. فلو اعتبرنا بموجب تعريفنا السابق للثقافة أن العولمة هي ثقافة العالم، فهي ككل ثقافة، متعددة الاوجه، و طبعا هناك وجه ما (أو أوجه) ستحتل أغلب المساحة، بينما تكون بعض الوجوه مجهرية تماما. لذلك يستقبل مجتمع ما هذه الثقافة الجامعة، على أنها مألوفة، فهو يرى فيها وجهه بوضوح، بينما لا يجد مجتمع آخر مساهمته فيها، فيعتبرها دخيلة، و في غالب الاحيان مخالفة لثقافته، فيعاديها و يرفضها، خصوصا حينما تلعب عناصر أخرى غير الثقافة دورا في هذا العداء (كالمصالح الاقتصادية).

و لكن هذا التفسير لا يمكن أن ينطبق طبعا على كل حالات التعصب الثقافيّ، لأن الامر معقد و تتداخل فيه امور كثيرة، لكنّه دوما الاحساس بالتهديد هو ذاك الذي يدفع للتعصب. الخوف كان و لا يزال المفتاح. خوف الغجر من الذوبان في الاوطان التي تأويهم، تجعلهم منغلقين على ثقافتهم، خوف اليهود من زوال ثقافتهم جعلتهم أكثر المجتمعات انغلاقا، خوف البريطونيين من ذوبان  ثقافتهم في الثقافة الفرنسية، جعلتهم ينغلقون على انفسهم، كذلك المطالبات بالاستقلال في اسبانيا، أغلبها رفض لاسقاط الثقافة القشتالية اسقاطا عليهم، فلكل منهم لغته و مكوّنات هويته. و مادام لا يرى في القشتالية شيئا من مساهمته هو، فلا يمكن أن يتقبلها.
و لأن عالم اليوم، يجعل من التواصل حتميا، فإن هذا التهديد قائم لكل الثقافات بلا استثناء. فما الحل اذا؟ المساهمة! قواعد اللعبة سهلة : دافع عن ثقافتك، انشر ثقافتك، ستجد انعكاسها في ثقافة العالم، و لن تبدوَ حينئذ هوية العالم غير مألوفة لناظريك، و ستتقبلها على أنها نابعة منك، و من ذاكرتك. حينما تنقذ ثقافتك من الذوبان، فانت تحقق حاجتك من التميز و الانتماء.

و لم الانتماء إلى ثقافة خاسرة؟ لماذا الانتماء إلى وجه مجهري؟ اليس من الطبيعيّ ان تذوب ثقافات و تنشأ ثقافات جديدة؟ لأن الانسان ولد مختلفا عن اخيه الانسان، لأنه لو ذاب وسط ثقافة اخرى، فسيخسر العالم ثقافة كاملة بكل ما فيها من قيم و افكار و فلسفة و رؤى مختلفة للعالم. لقد جُعل الانسان شعوبا لتعارف فيما بينها، و تتواصل و تتبادل الافكار و الرؤى و الفلسفات، و ما يجعل هذا ممكننا هو اختلاف هذه الشعوب. إنه سرّ اختلافنا و اجتماعنا.

لقد خلص أمين معلوف أن جهود الامم في الدفاع عن هوياتها مردها الخوف من الذوبان و التلاشي، لكنه ـ ربما لعدم اقراره بحاجة الانسان الفطرية للانتماء و التميز ـ لم يخلص إلى مشروعية هذا الدفاع. أن تدافع فرنسا على لغتها من الغزو الانكليزي، لا يعني قط ان تحارب اللغة الانكليزية، بل هي تحاول ان تحتويها في قالبها الفرنسيّ، يساعدها في ذلك تقارب اللغتين، و اليوم و ان طرأت كلمات انكليزية كثيرة على اللغة الفرنسية، فإن عدد الكتب المترجمة من الانكليزية الى الفرنسية، و قدرة فرنسا على الانتاج الثقافيّ، تحد كثيرا من ذلك. كما أن تأثير الثقافة الفرنسية على الامريكية حول الكثير من الثقافة الفرنسية إلى الثقافة العالمية المشتركة.
رغم كل ذلك، و رغم حجم التأثير الثقافي الفرنسي على العالم، أجد نفسي جالسا امام عجوزين فرنسيين في أحد ضواحي باريس، اواخر تشرين، بينما الرجل يسأل المرأة : "لكن هذا "الهالوين" ليس من عاداتنا. لماذا علينا الاحتفال به؟"
ان هذا التطلع للمشاركة في الهوية الجماعية، ترنو إليه كل الشعوب و اكثرها تأثيرا في العالم، و لأنني سقت فرنسا مثالا، فلاواصل و لأسق مثال اللجنة الاولمبية العالمية، التي اسسها الفرنسيّ بيار دي كوبرتان، فأصرت فرنسا أن تظل اللجنة معتمدة على الفرنسية كلغة رسمية لها. انها البصمة التي تريد ان تتركها. انه الوجه الذي تريد أن تراه في الهوية العالمية، حتى تتقبله كاملا كأنه منها.

لكنني قبل أن اختم، أعتقد أن عليّ العودة إلى عالمنا الصغير، نحن العرب مثلا، مادمت اسوق الحديث بلغة الضاد، كي أبيّن أننا على اختلافاتنا الكثيرة بفعل المكان و الزمان و الاحداث، فما يجمعنا كثير، لم يزد ما حصل في المنطق مؤخرا الا تأكيده : فبمجرد هبوب رياح الثورة في تونس، تبعتها مصر، فاليمن، فليبيا فسوريا، و عمت الاحتجاجات كامل المنطقة العربية، و ان نجح بعضها في قلب النظام و فشل آخرون، لكن كان ذلك دليلا ان همومنا واحدة و ما يحركنا واحد. بل اننا نعاني الالم ذاته، و ربما دواؤنا سيكون واحدا. فصغتُ هذا الحديث في الهوية، لأبين من نحن، و ما نبغي، أو على الاقل ما ينبغي أن نبغيه. و خلصتُ أن اختلافاتنا طبيعية، و ان اجتماعنا طبيعيّ ايضا، و ان خوفنا شرعيّ، و حقنا في الدفاع عما يجمعنا ليس فيه ما يصمُ، لأن انقاذ العروبة، هو انقاذ لأحد وجوه الهوية العالمية الاكثر ثراء.

إن الهوية قاتلة بقدر ما هي مقتولة، و لا يمكن التخلص من التطرف و التعصب الا بمحاربة الخوف أولا. حينها، لن تقدر الاصوات الجاهلة و الحمقاء أن تؤثر قيد انملة في الشعوب. لأن الفطرة سوية.




 فاروق الفرشيشي
17 ايلول (سبتمبر) 2012

Sunday, September 9, 2012

حديث في الهوية ـ 2 ـ

هذا ليس تدوينة مفردة، انما تكملة للحديث السابق بخصوص الهوية. و هو حديث ـ على قصره ـ لا يلخّص، و الاسلم أن تبذل أصابعك شيئا من الجهد و تنزل الى التدوينة السابقة، و كن واثقا أنها لن تأخذ منك وقتا أكثر من زمن استهلاك سيجارة...


و التدوينة السابقة توقفت عند الاسئلة التي طرحها التونسيون، كما المصريون و غيرهما من الدول العربية، بخصوص الهوية. و لعلّ مسألة الهوية من نوادر المسائل التي يكون فيها السؤال أسهل من الاجابة. فلكل اجابة واثقة و معتدّة بذاتها، أسئلة تقصمها، و تفتت غرورها. كأن يقول أحدهم (التونسيين) "نحن عرب."، فماذا عن الاتراك الذين يملأون المدن العتيقة؟ و ماذا عن الذين وجد آباؤهم في هذه البلاد من قبل أن يأتيَ العرب أصلا إلى هنا؟ أنطردهم جميعا من حاء "نحن" و نحصر المعنى في شراييننا؟ ثم من "العرب" أصلا؟ بنو هلال؟ بنو رياح؟ لو خضنا في مسألة الأعراق لتراءت لنا حقيقتان بديهيتان قد تفزعان كل قوميّ متعصّب : هل كان الرسول صلى الله عليه و سلم عربيا؟ هو من قريش طبعا، لكنّ نسبه ينتهي عند إبراهيم عليه السلام، فمن أي القبائل العربية كان إبراهيم؟ و لو أن من نسله جاء بنو إسرائيل، فهم عربٌ أيضا. و حينما نوغل في هذا المعنى يَعرض السؤال الثاني : فماذا كان أوّل العرب؟ و ماذا كان أول البشر؟ أليس العرق واحدا؟
هنا يمتدّ لسان أحدهم بالاجابة : انما نعني الثقافة العربية. فهل الثقافة العربية كافية لتعريفنا؟ و ماهي الثقافة العربية؟ هل هي المعلقات السبع، و كرم حاتم الطائي، و وفاء السموأل، و حكمة قسّ بن ساعدة، و حرب داحس و الغبراء، و أصنام قريش، و اسماء الابل التي لا تنتهي؟ فماذا عن اسقفية الاسكندرية؟ و ماذا عن خبز "الطابونة"، و الكسكسي المغاربي؟ و ماذا عن الطربوش التركي، و الحلوى الحلبيّة، و موسيقى الراي الجزائرية، و ما تبقى في بغداد من الرقوق الآشورية الثمينة؟ حتى في قلب شبه الجزيرة العربية، مالعربيّ في معمار الرياض و جدّة اليوم؟ حتى معمار المدينة المنوّرة بل المسجد النبويّ نفسه، ستجد خبراء يدلونك عن تفاصيله ذات الاصول الفارسية او البيزنطية.

ما الذي يعنيه كل هذا؟ يعني أن الهوية الجماعية ليست قالبا تماما كما الفرد، و انها ايضا مركبة، خليط من روافد أخرى كثيرة، او ربما للدقة تراكمات لا تنتهي يرسّخها التاريخ يوما بعد يوما، و الا فما الذي يفرّق بين مصريّ و ليبيّ مثلا؟ أليست الاصول اللوبية التي تختلف حتما عن الاصول المصرية الفرعونية؟ و ما الذي يجعل لبنان اقرب شبها للفلسطينيّ من البحرينيّ؟ أليس تاريخ الفينيقيين المجيد الذي جمع بين تلك الربوع قبل ازدهار الثقافة العربية فيها؟

و بهذا المعنى، يمكن هدم كل محاولة لاختصار الهوية الجماعية في دين أو عرق أو لغة أو ثقافة من الثقافات الرافدة (هذه الثقافات الرافدة نفسها خليط من ثقافات مركبة اخرى)، و لن تبقى سوى عبارة وحيدة : نحن تونسيون، نحن جزائريون، نحن عراقيون أو اماراتيون أو سعوديون. 
و هي في الواقع عبارة شديدة الالتصاق بالارض و الزمن، فالغجر بهذا القول لا هوية لهم، و اليهود أيضا (أعني بني اسرائيل طبعا)، كما أن بن دارفور كان بالامس سودانيا، فتحول بجرّة قلم إلى جنوبيّ!
و لو اقتربنا أكثر مما نسميه "هويّة تونسية" فسيحيّرنا الاقتراب، و سيزيد من أسئلتنا، يقال إن لغتنا العربية، و يقال إن لنا لغة بذاتها يمكن أن نسميها "تونسية"، فكيف نقول "أنا" بتونسيتنا؟ على الطريقة العاصمية؟ أم "آني" على الطريقة الساحلية؟ ام "أني" كما يقول أهل قابس؟ أم "نايا" و هو المصطلح المستعمل في اغلب ارياف الشمال؟ ثمّ إننا لو اقتربنا من الحدود الليبية، فسيطالعنا السؤال : مالذي يجعل هذه الاماكن تونسية لا ليبية غير التقسيم الاداري؟ فلهجتهم أقرب إلى الليبيين من تونسيي الشمال، و بالمنطق نفسه، سنجد اهل بنغازي اقرب للمصريين منهم الى الليبيين، أو لعلّه العكس.

هكذا تسقط افكارنا الصماء بخصوص الهوية الجماعية، و هكذا توجّب علينا اعادة تشكيل مفهوم الثقافة (اي الهوية الجماعية) بالبحث مرة اخرى، عن منطلق جديد. لكنّ المنطلق هنا، موجود منذ البدء، و ان اسأنا استخدامه. ألم نقل منذ البداية، إن هوية الجماعة كهوية الفرد في خصائصها؟ لم لا ننطلق من الفرد لنقيس على الجماعة؟ أين أجد فردا أسوقه مثالا؟ 
هل قال أحدكم "انظر الى المرآة"؟

انا لستُ ربع مهندس، أنا مهندسٌ كامل، هل يعني ذلك أنني أتماهى مع بقية المهندسين؟ حتما لا. ففضلا عن كوني مهندسا، فأنا "فرشيشيّ"، و حينما أقول إنني كذلك، فليس رأسي فرشيشيا، و لا يداي، بل انا كاملا، احمل كلي الصفتين. كنت أيضا طالبا بالجامعة. و كان عليّ ان اتعامل بشيء من الاحترام مع استاذة درستني، هي منذ سنتين صديقة لي تقريبا. حينما ينتهي الدرس، تنتهي هويتي كطالب و هويتها كمدرسة، و نعود صديقين.
و هويتي كطالب لا تنتفي و لا هويتي ككاتب أو كرئيس ناد جامعيّ، بل كل منها يتقدم على الاخر باختلاف الحال و الموقف دون ان يذهب أي منها دون رجعة.
و لو قسنا على ذلك، فأعتقد أن نصف مشاكلنا قد انزاحت جانبا، فنحن متوسطيون ان بحثنا عمّا يجمعنا بالايطاليين مثلا، و نحن عرب اذا بحثنا عن ما يميّزنا عنهم. نحن امازيغ ان اردنا التميز عن العرب، و نحن شرق ان اردنا التميّز عن الغرب. نحن تونسيون ان بحثنا ما يجمع بيننا و نحن "منازلية" و "قراوة" و "سواحلية" لو بحثنا في ما يميّزنا..

الثقافة شديدة الديناميكية، و هي و ان كانت واحدة فمتعددة الاوجه، بتعدد الناس الذين يمثلون الجماعة. و من الحمق نكران بعض الوجوه و ان كان وجها شاحبا أو لا يكاد يرى لضعف تأثيره.. خصوصا اذا كان تأثير ذلك "الوجه" ملحوظا في حياتنا. لذلك فمن ينكر وجهه الامازيغيّ من التونسيين، تعصبا لفكر قوميّ مثلا، هو شخص لا ينظر إلى نفسه جيدا في المرآة، و من يرفض وجهه العربيّ، لتعلات ايديولوجية أو ميتافيزيقية ضيقة، لا أظنه يملك مرآة أصلا...

و لأن الأمور لا تحلّ بهذه البساطة، فالاسئلة لا تكفّ عن الهطول، و تزداد ازعاجا كلما ازداد المرء توغّلا.. فالقول الاخير يشي بوجود ما يجمع بين الناس و ما يميّز بينهم، مهما اختلفت احوالهم و مهما بعدت المسافات ما بينهم. و مثال ذلك ما يجمع بين الاسبان و اهل امريكا اللاتينية من اللغة، و ما يجمع بين اليابانيين و الامريكيين من حب كرة القاعدة (البايزبول)، و قد تكون العلاقة أكثر عمقا و اثارة للحيرة، مثلما يشهد بذلك التشابه المريب بين اهرامات الجيزة في مصر و اهرامات الازتيك في المكسيك.. فللتاريخ أيضا خباياه بخصوص حقيقتنا... و لأن الانسان سيجد دوما ما يجمع بينه و بين الآخرين، فلِم يبحث عمّ يميّزه؟ ألم يكن ذلك مهدا لصراع الحضارات؟ أليست الهويات كما يقول معلوف "قاتلة" لتفريقها بين الناس و حملهم على التعصّب؟ ألا تمثل العولمة مخرجا من كل هذا؟ و هل هويتنا او هوياتنا هي سبب تخلفنا و نكبتنا؟





(يتبع)

حديث في الهوية ـ 1 ـ

تفاديتُ دوما الخوض في مسألة الهوية، لأمور كثيرة، أولها أنني لن أبلغ الضفة الاخرى مهما توغّلت في المعنى، و مهما أجدتُ التوغل، و ثانيها أنها تستلزم نمط كتابة مرهق أيما ارهاق، لا يتحمله الوقت النادر الذي يتاح لي. و ثالثها أنني لا أحبّ للقارئ أن يزج بقولي في معترك المطاحنات السياسية الحاصلة في البلاد، فيتعبرها انتصارا لجهة ما. 

لكن أعتقد اليوم أن الحاجة ملحّة لمعرفة من نحن، لما أراه من لخبطة تاريخية و حضارية في أحاديثنا و أفكارنا. و أيضا تمهيدا لما قد أكتب لاحقا في خصوص مشاكلنا مع التاريخ و هو من أوثق مشاكلنا و أكثرها اثارة للصداع...

و كان لكتاب أمين معلوف "الهويات القاتلة" أثر كبير في قراري الخوض في الأمر، لسببين : الاول أن أغلب من عرفتهم قد قرأوا الكتاب، أساؤوا قراءته أو لعلهم تعمدوا الاساءة في قراءته، فأخذوا بعضه و تركوا البعض الآخر. و لكنني سأحسن الظن، و أحاول تبيين ما نقص من قراءتهم بما أوتيت من مودّة. أما الثاني، فلأن الكتاب و قد اجتهد صاحبه في تنظيم أركانه و فصوله، قد سهّل لي مهمة الخوض في المسألة، و تشكيل حديث على شيء من التناسق، من فوضى الافكار المتناثرة في اركان خلاياي الرمادية.

لا يعني هذا أنني سأكتفي بتلخيص قول أمين معلوف في هذه الاسطر المعدودات و امضي هانئ البال، فلئن أعجبني اجتهاد الرجل و حسن قوله و دقّة عباراته، فإنني لا ازال أؤاخذ عليه مناقضته لنفسه بين قسميْ الكتاب. و لعلّ ذلك ما أحدث المغالطة التي تبناها أكثر من قرأوا الكتاب، فكأنهم قرأوا جزءه الأول دون الثاني.

و لكي لا يكون الكلام ضاربا في التجرّد، أذكّر أن الكتاب تحدّث عن شكلين من الهويّة، هوية الفرد، و هوية الجماعة. فبيّن من خلال الهوية الفردية، خصوصيات الهوية، فهي ليست قالبا، و القالب كما تعلمون، هو ما يشكل أجساما متماهية تمام التماهي، فهل الهوية كذلك؟ طبعا يسهل دحض الامر بمجرد تطلع المرء إلى أول شخص آخر يصادفه.
و الهوية أيضا ليست أحادية الخليّة، بل هي مركّبة شديدة التركيب و التعقيد، إلى حدّ يصعب تكراره و هو ما يجعل قولبتها مستحيلة. فكل امرئ متفرّد بذاته من خلال الروافد التي شكلت هويّته : عائلته، زمن ولادته، الناس الذين عرفهم، الكتب التي لم يقرأها، الحوادث التي عاشها أو عايشها، الحب الذي آلمه، الدين الذي دان به، الربّ الذي عبده، اللغة التي شتم بها، الفيلم الذي اعجبه، التاريخ الذي لم يعرفه، العظماء الذين تأثر بهم، العادات التي أنكرها، و حتى الفريق الذي تعصب له... كلها روافد تشكّل هوية المرء، و تختصرها الدولة في رسم تسلسليّ على بطاقة بلاستيكية صغيرة. اما نحن فنختصرها كل حسب أفكاره إلى "تونسيّ" أو "عربيّ" أو "مسلم" أو "انسان"... و هذا الاختصار هو لبّ حديث أمين معلوف كله و منتهاه كما سأبيّن لاحقا.. 

و فضلا عن القولبة، فللهوية سمة الحركية (الديناميكية)، فهويّة المرء حين ولادته تختلف حتما عن هويته حين وفاته. و لا يمكن لشخص أن يظل نفسه و لو عزلوه سنين طوال، لأن الهوية تنمو و تتحوّل كما الجسد تماما، او تباعا للدقة.

من أنا؟ انا اذا خليط تشكل قبل ولادتي فورثته، و خليط تشكل بعد ولادتي فعشته. أنا اسمي الذي لم يسمّ به غيري و الذي ينتهي عند أول البشر. و اسمي لو عرفته لاختزل أمورا كثيرة في هذا الموقف، ففيه مفردات من الجزيرة العربية، و أخرى من تركيا، و أخرى بربرية، و ربما بونية، و ربما عثرت في رحلتي على اسم مسيحيّ او اثنين، حتى اذا بلغتُ الاسماء اللوبية، أو القبصية، تلفتت في ذعر باحثا في ظلمة التاريخ عن بقيّة الطريق، فخبتُ، فعدتُ إلى حيث أنا و قد عرفتُ أن ما بلغني من هويّتي هو بعضها لا غير.

على أنّ الهويّة لا تشكّلها الثقافات فحسب، بل هي تؤثر عليها تأثيرا مباشرا و قويا، و تحدد سبل تشكلها و نموّها، لكنها قطعا لا تشكلها بمفردها. إن الهوية اكثر تعقيدا و خصوصية من الثقافة. فالثقافة جماعية بالاساس، لكنّ الهوية يمكن أن تكون فردية. و لعل من السليم القول إنّ الثقافة هي الهوية الجماعية. لكنني لن أتعمق في هذا المعنى لأن الصداع بدأ يكتنفني، و لأنني لم أرد بهذا القول إلا التمهيد للخوض في الهوية الجماعية، و هو بمثابة الخوض في الجحيم برأيي.

و لأنّ هوية المجتمع هي "هوية" بالاساس، فهي تحافظ على ذات خصائص هوية الفرد و ميزاته مع اختلاف بسيط في المصطلحات، فالتجربة عند الفرد، تصبح عند الجماعة تاريخا، و اللغة عند الجماعة لا يلتزم بها الفرد تماما، و انما لكل فرد لغة خاصة يختلف بها و يتميز بها عن اقرانه من الجماعة نفسها، (و هكذا، يتعرّف الناس بيسر و سهولة على الشخص الذي أعنيه حينما أقول "بحيث.. انما.. " و انثر النصوص القرآنية و النوادر في كل ركن من حديثي..*)، و تصبح آراء الجماعة و أفكارها، دينا، كما يمكن تسمية خيارات المرء في حياته (كطريقة الاكل و الشرب و اللباس و غيرها) عند الجماعة عادات و تقاليد.
فالهوية الجماعية تشكلها اللغة، و التاريخ و الدين و العادات و التقاليد. أو هذا ما درج علماء الاجتماع على اعتماده. لكن لا يجب أن ننسى ابدا، ان الهوية الجماعية ليست قالبا، و لا هي احادية الخلية، و لا هي ثابتة. و هو ما يقع فيه معظم الناس في توصيفهم لهوية مجتمع ما.

هكذا، ينظر اليوم بعض التونسيين إلى بعض الاصول العرقية التي تعرّفهم دون غيرها، فيقول إننا أمازيغ و لسنا عربا. و بنفس المنطق أيضا، يختصر المتديّن هويته في "الاسلام" فكلنا مسلمون، و هذا كافٍ عنده. بينما يحاول آخرون التخلص من هذا الصداع بالحديث عن "الهوية التونسية". من المحقّ و من المفتري؟ أين المشكلة وسط هذه الفوضى الفكرية تحديدا؟ أعتقد أنه من الافضل الاجابة عن كل ذلك في المقال التالي. 

(يتبع)




ـــــــــــــــــــــــــــ
* سيعرف التونسيون من القراء أنّ المعنيّ هو الباجي قايد السبسي، بيسر شديد. و قد اخترت مثلا يمكن تعرفه من اناس كثر. لكن الامثلة يمكن ان يقابلها المرء في حياته، فقط تأمل في أصدقائك و المقربين منك ستجد أمثلة كثيرة.

Sunday, July 1, 2012

هوراس*


ـ أيها السادة! لقد فزنا بالانتخابات، و لكننا لم نظفر بنصف المقاعد. فكيف يمكننا أن نحكم و نمرر مشروعنا؟ ألم تعدونا بذلك أيها السادة؟

ـ طبعا أيها الصغير، نحن نعلم ذلك جيدا، نعلم أن كثيرا من الناس يخشونكم و يخشون ما 
تخبئون لهم.

ـ لكننا نخبئ لهم الديمقراطية و الخير الكثير، ألم تبشروا بذلك يا سادة العالم؟

ـ أجل طبعا، ههه، لا تخف، لهذا السبب طلبنا أن تدعموا شركاء لكم.

ـ و قد فعلنا و كان لهم الظَفر أيضا. لكننا نختلف في كثير من الامور. انهم مندفعون، لا يعرفون واقع الأشياء، و يريدون اصلاحات ثورية قد تقلب كل نظام هناك و تفقدكم كل سيطرة. يريدون أن يفضحوا كل الفساد و قد يكشفون عن جروح قبيحة جدا، و قد تخرج من قروحها حرب اهلية لا قِبل لنا بها! أعينونا يرحمكم الله!

ـ الرحمة من عندنا أيها الصغير، و نحن لا نريد لرجالنا أن يفتضحوا، و لذلك مكّناكم من السلطة، و ستكون لكم السلطة المطلقة، فلا تبتئس!

ـ أية سلطة هذه التي سنملكها بأقل من 40 بالمائة من الأصوات؟ خبرونا يا سادة!

ـ انتم لا تواجهون 60%، بل تواجهون قبائل متناحرة مشتتة، لا يملك الواحد منهم أكثر من 5% من الاصوات، مختلفون، متهالكون على السلطة، لم يدرسوا بعد طبيعة المرحلة، و لم يستوعبوا فكرة الثورة و لم ينسجموا معها، و لن يفعلوا و لو بعد حين. و لأنهم كذلك فلن يقدروا على مجابهة هيكلتكم التي امضيتم سنين تعدونها.

ـ هذا حق، و لكنهم سيعارضون مشاريعنا، و سيعرقلونها بتفوقهم العدديّ، انهم متعودون على قول "كلا"، و خبراء في المعارضة. 
ـ هنا عبقرية الديمقراطية! ستضمون اليكم شركاءكم، و ستعرضون عليهم التحالف، و التحالف يعني أن تأتوا الآخرين بكلمة واحدة و قول واحد تتفقون عليه في ما بينكم، و ستسمون هذا توافقا! ان التحالف مع هؤلاء سيجعلكم أغلبية صريحة و مريحة، و ستعملون ما تشاؤون بسلطة الديمقراطية!

ـ و لكن شركاءنا سيختلفون معنا في البرامج و الرؤى، و سيحاولون فرض أفكارهم!

ـ Bingo! هذا هو الجزء العبقريّ في الديمقراطية! ستمارسونها معهم، في دائرتكم الضيقة، انتم أغلبية ساحقة حينما تجتمعون بشركائكم، و سيرضون طبعا لأنهم ديمقراطيون، و سيتبنون مشاريعكم بكل ديمقراطية، و حفاظا على التوافق، و ايمانا أنهم ـ الحمقى ـ اقلية معكم، سيرضون بقراراتكم، و سيصنعون دون أن يشعروا، الاغلبية التي تنشدون، امام معارضات مشتتة طفلة تتخبط في صبيانياتها.. قاعدة ديمقراطية شهيرة، تنويعا لمبدإ "فرّق تسدّ" الشهير!

ـ يا الله! ان الديمقراطية لعجب عجاب!

ـ و أكثر يا صغيري! ستكبر و تفهم قيمة الديمقراطية، حينما يمارسها الحمقى!



---------------------------

Tuesday, June 26, 2012

مورفي و البلاد التونسية


قانون مورفي الشهير الذي يقول : لو ان أمرا سيئا يمكن أن يحدث، فإنه حتما سيحدث. له لوازم عديدة تطبّق في مختلف المجالات. فمثلا في عالم الكمبيوتر نقول "الخطأ بشري، و لكن لتحدث كارثة فأنت بحاجة إلى كمبيوتر." في العلوم العسكرية يقال "إذا كان عدوك في مجال رمايتك، فاعلم انك أيضا في مجال رمايته." اما في السياسة فهناك القانون الشهير الذي يقول : السياسي شخص يبحث عن حلول لمشاكل لم تكن لتوجد لولا وجود سياسيين."...

لا أدري لمَ انتبهت اليوم أن قانون مورفي ينطبق كثيرا على تونس، و هذه بعض لوازم هذا القانون : 

ـ حين يدعو رئيس الدولة المجلس التأسيسي الى مساءلة الحكومة، فهذا سيعني سحب الثقة منه.

ـ تتشكل هيئة عليا للانتخابات من أعضاء الاحزاب الفائزة في الانتخابات السابقة، لضمان "التداول على السلطة".

ـ مساءلة الحكومة تتم داخل المجلس التأسيسي الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم.
 
ـ يمضي رئيس الدولة على الاتفاقيات و القوانين، لكن توقيعه رمزيّ كمنصبه.

ـ اذا كان هناك انتهاك "للمقدصات" فهي تحدث دائما في الوقت المناسب

ـ لا يوجد قناصة، و انما اشخاص اعتلوا اسطح المنازل و اقتنصوا الناس من عل.

ـ تستدين الدولة لتسدد ديونها

ـ تطلب الدولة مالا من دول تحتجز أموالها.


ـ وزارة التشغيل ليس مهمتها التشغيل.

ـ التفاؤل وهم، و التشاؤم مهلك، حينما تنهض صباحا، اكتف بالضحك.
 


Sunday, June 24, 2012

فانتازيا سياسية ـ الجزء الثاني


لا يوجد تلخيص لما سبق هنا، لأن ما سبق هو بالفعل مختصر جدا، فتخلصوا من الكسل يا سادة. و تذكروا أن أي تطابق في الأسماء هو محض صدفة ليس إلا، فخذوا بما فهمتم، و لا تتهموا غير أنفسكم.

هل صدقت فعلا أنني المتسبب في موت مبارك؟ و لِم لا أكون أنا؟ الرجل قد نجا من فرص كثيرة ليتخلص من الحياة، و آخرها حينما أُعلن الحكم عليه بالسجن المؤبد. فلِم يسقط الآن حينما كتبت اسمه في المفكرة؟ هل أملك سلطة الموت فعلا؟ أي قدرة رهيبة تلك التي بين يديّ؟! أي هول هذا الذي أحمله؟ كيف تتحول الكتابة من وسيلة للحياة إلى آلة دمار؟! آمنت دوما أن الكاتب امرؤ علم من الدنيا ما لم نعلم، و نقل للناس حيوات أخرى عاشها كما عاش حياته. كنت أؤمن أن المداد هو اكسير الحياة الذي تحدثت عنه الاساطير و الخرافات.. و أنه بجرة قلم تخلق عالما جديدا و أناسا جددا و تاريخا آخر! فكيف يتحول الورق اليوم إلى ساحة حرب، و يتخذ المداد لون الدماء؟

كانت الفكرة مرعبة جدا، و أنا اتأمل التلفاز، الذي يعلن وفاة الخرتيت المصري. و ارتعشت يداي لهول الفكرة. لقد قتلتُ شخصا! هل أنا قاتل؟ أم ملك الموت؟! متى كان ملك الموت مجرما؟ انه يقضي أمر ربه، و أنا اليوم أقوم بذات المهمة! اللعنة! ما الذي يحدث لي؟! لا بد و أنها صدفة. انها صدفة مثيرة لا أكثر، لوثة عقلية تصيب كل من يبلغ السادسة و العشرين بأفكار مبعثرة ثورية و محبطة. لا يمكن أن يكون الأمر صحيحا. لا يمكن...

 لكن ما علق بذهني من السلسلة اليابانية الشهيرة ما انفك يحوم حول رأسي.. كان هناك صور كثيرة من "Yagami Light" الشخصية الرئيسية، التي كنت اطلق عليها "ولد عمي" لاسباب قد يتفطن لها سريعو البديهة.. أعترف أنني كنت أوافقه الرأي يخصوص المجرمين، و ضرورة العقاب القاسي حتى يكون الردع فعّالا. صحيح أنني مبدئيا ضد فكرة الإعدام، لكننا هنا لا نتحدث عن الدولة، بل نتحدث عن القضاء و القدر. إن الموت قدر الانسان، فما بالك لو كان مجرما! سيكون ذلك الانتقاء الطبيعي الأكثر دقة و جودة على مرّ التاريخ! تخيلوا شعبا بدون جريمة أو فساد! تخيلوا شعبا يعيش في سلام تام  و أية حضارة يمكن أن ينتجها! 

عادت الأحلام تعبث بمخيلتي و تنير الظلام الذي يملأ غرفتي.. هل من الشوفينية أن أبدأ بوطني؟ كلا، هو نوع من اعادة التوازن ليس الا. بن العم أيضا بدأ بوطنه، و كانت النتائج رائعة جدا. الوطن ينادي يا فتى، الوطن يدعوك أن تكتب!
تأملتُ المفكرة و قد عادت الكتابة تتخذ صورتها الاولى في مخيلتي.. الكتابة ثورة، الكتابة عمل انقلابي، هكذا تعلمتُ، و هذا ما سأفعله هذه الليلة حرفيّا! سأحارب بقلمي كما حلمتُ دوما أن أفعل، و لكن هذه المرة، لن أنتظر طويلا لأرى النتائج. لا أعتقد أن أعظم القصاصين العرب قد حلموا بفرصة كهذه! لقد اختارتني الأقدار لأكون و إياها واحدا! فلأقض بأمر الله إذا!

بمن نبدأ؟ رفعت رأسي للتلفاز فطالعتني الإجابة على شريط الاخبار الأحمر المسافر بلا نهاية من يمين الشاشة إلى يسارها.. "يسافر الجنرال قائد الاركان غدا إلى قطر، للتباحث بخصوص اللاجئين في الحدود الليبية... الخ"
لماذا يصرون على اختلاق هذه الاكاذيب المضحكة؟ مرة يتخذ دور وزير التشغيل، و مرة يتخذ دور المشرف على مخيمات اللاجئين.. أي هراء هذا؟ كيف يستبيحون الاستخفاف بنا إلى هذا الحد؟ هذا الرجل يخفي حقيقة الثورة، و أسباب نجاحها، و الاهم يخفي حقيقة القتلة، لذلك سأبدأ به. و سأدبّر له ميتة درامية شبيه بتلك التي دبّرت لسلفه كي يخلفه على رأس جيش البر... الشيطان يعزف الكارمينا بورانا بين أذنيّ، و قلمي تراوده ارتعاشة الجنون!

"يسافر الجنرال عبر طائرة مدنية خاصة. و في الاجواء التونسية، يحدث عطل في الطائرة بسبب تلف بسيط لا يلبث أن يشتد و يتطور بسبب غياب التقنيّ المشرف. أين التقنيّ المشرف؟ غاب لأسباب مرضية..." 

فسخت الجزء الأخيرة و أنا أغلّب أن الرجل لو غاب فسيقع تعويضه حتما.. يجب أن يكون الغياب مفاجئا.. 

"أين التقنيّ المشرف؟ انه مغيب عن الوعي داخل الطائرة، بسبب مرضه الشديد، لكن لأنه لم يحضر شهادة طبية و لم يجد من يعوضه، اضطر بحكم المهنية ان يركب الطائرة، و اختار أن يرتاح قليلا لأنه عادة يحضر احتياطيا لا غير. لكن المرض اشتد به، و ارتفعت حرارته و سقط في غيبوبة لم تنفع معها محاولات المرافقين لافاقته."

حسنا، هناك أيضا برج مراقبة يتولى الاشراف على الطائرة مادامت داخل الاجواء التونسية. يجب أن تتخلص الطائرة من المراقبة...

"في ذات الوقت يشتعل حريق بسيط داخل البرج، لكن معدات الاطفاء كانت تحوي مواد قابلة للاشتعال فتسبب استعمالها في اثارة حريق ارعب الجميع و اخرجهم من قاعة المراقبة قسرا."

لم أقدر أن أمنع ضحكتي الجذلى و أنا أتخيل ما سيحدث غدا في المطار. الواقع أن تخلق قصة ثم تشاهدها لا في قاعة السينما بل في عالم الواقع، لأمر لم يحلم به انسيّ قط، ربما حتى Jules Verne نفسه. و لذلك يجب أن أحسن كتابة ما سيصبح بعد غد تاريخا!

"هكذا، يضطر القائد إلى الاستعانة بمهارة لانزال الطائرة من دون خسائر بشرية. لكن سقوط الطائرة وسط الغابات يجعل المهمة شبه مستحيلة، و مع سقوط الطائرة و تهشم النوافذ، يخترق جسم الجنرال جسم حديدي تملص من الطائرة، فيرديه قتيلا."

و رسمت نقطة النهاية كما يرسم المايسترو بيديه شارة ختام السينفونية، لقد أعلنت اليوم رسميا عن ميلاد كاتب جديد. كاتب قصص قاتلة! الغد القادم سيخبر عني، كما لم يفعل أي صباح آخر. فلأنتظر!

************
هذا جزء لم أشهد حدوثه طبعا، و يمكنكم أن تتخيلوا اي طريقة بلّغتُ بها بما حدث، الساحرة الشريرة، العصفور الذي يطل من الشباك، الاحلام، الشيخ الحكيم، تخيلوا ما شئتم، المهم أنكم ستعرفون ما حدث...

اسمه سعيد، و يعمل تقنيّا بالخطوط التونسية، و قد استيقظ على غير العادة مزكوما، يعاني صداعا شديدا. اللعنة، المفترض أن يسافر إلى قطر مع الجنرال، و لا يمكنه أن يتغيب هكذا. أطلق سبابا سوقيا و هو ينهض من الفراش... كان طول الطريق يفكر في وسيلة للتملص من الرحلة، لكنه لم يجد الطبيب في مبنى الإدارة. اللعنة ماذا سيفعل؟ هل يطلب من أحد الزملاء تعويضه؟ إنه يعرف أن لا أحد سيقبل. فكر في الأمر كثيرا قبل أن يطلق سبابا أكثر سوقية و يقول : "بقلة (بالقاف المشبعة) ليها، برة ينعن ز****** الخدمة و الفلوس و الجنرال متاع ز***** و تونس. نمشي نرقد و عـ*** من فوق. غدوة كان صبحت بطال توة نمشي نعتصم.. باش يذلونا على 600 دينار؟"

هكذا قدر للهادي الذي لا يعاني أي مرض يذكر من تعويض سعيد، طبعا مطلقا سبابا أكثر شاعرية. الواقع أن لا أحد يريد أن يصحب عسكريا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"هنا برج المراقبة، الحالة طبيعية، انت تتجه 34 درجة شرقا، وفق المسار 3B24 المتفق عليه. هل من مشكلة؟"
"هنا قائد الطائرة 757، لا مشكلة هناك. انتهى."

اسمها غادة، و هي الفتاة المسؤولة عن التواصل مع قائد الطائرة التي بدأت اقلاعها بالفعل. كان ذهنها شاردا في ما حدث لها بالامس، مع أحد أصدقائها. هل كانت تنتظر أن ينقلب حديثه إلى غزل صريح؟ و هل ستقبل دعوته اليوم إلى العشاء؟سيعني هذا أن تتواصل السهرية طويلا.. كان هناك شيء من الإثارة في الموضوع، و هي لا تنكر على نفسها ذلك. لكن ما تخشاه أن يكون غزله ضربا من الفذلكة، و ابتسامته شيئا من السخرية، و أن يكون الامر برمته هذيانا بين جرعتي نبيذ.. الهاتف يرن! إنه رقمه! اللعين! لماذا يهاتفها في هذه اللحظة العصيبة؟ انها تتحرق شوقا للرد عليه.. لكن الطائرة؟

تأملت بعض الشيء شاشة المراقبة، ثم شاشة الهاتف، قبل أن تحسم أمرها : المتابعة الروتينية لم تكن يوما مصيرية، لتذهب الطائرة إلى الجحيم، لكن يجب أن أعرف! هكذا، تركت الجميع و تسللت بسرعة كي لا يفتضح أمرها. و مع خروجها، دوت فرقة صغيرة في المكان، و تصاعد شيء من الدخان من الآلة ال و تصاعد شيء من الهلع وسط الفريق. 
"جيب اكة الـextincteur جيب!"
لكنّ الـ "extincteur" او قارورة الاطفاء لم تكن هناك أصلا، ان العشوائية تملأ هذه البلاد حقا!
"يا كمال! يا كمال المكينة تحرقت! تي جيب extincteur من اي بلاصة!"

لكن كمال كان أكثر فاعلية حقا!، لقد قطع التيار الكهربائي و سكب دلو مياه على الآلة التي أضحت خرابا! الكثير من السباب و اللعنات، بينما عادت غادة لتجد الفوضى تعم المكان. اللعنة، لقد اتلف الجهاز الذي تعمل عليه بالكامل، و هي تحتاج إلى جهاز آخر لتواصل متابعة الطائرة! قالت ذلك في توتر لزميلها فسلمها جهازه و هو يقول "لو ظللتِ في مكانك لاتلفتِ مع الجهاز!"

"هنا برج المراقبة، انقطع الاتصال لأسباب تقنية. هل من مشكلة؟"
"بالفعل هناك مشكلة، و لكن أصلحها التقنيّ هنا، نريد توجيهاتكم للنزول الاضطراري."

هنا أدرك الجميع أن شيئا ما قد حدث... 

أما الطائرة، فقد اضطرت للنزول، و طبعا لأن تونس الخضراء لا تعج بالغابات كما يتخيل الاخوة العرب، فلم يكون نزولها معقدا.. 

**************

لم يحدث شيء.. لقد كان حادث مبارك مصادفة اذا..
و لعله لم يمت.. 
ان العشوائية في ديارنا تفسد كل خطة ممكنة، و كل برنامج طموح..
تأملت الجنرال و هو يسلم على الأمير البدين، و في ذهني فكرة واحدة : هناك حالة رداءة عامة هنا.
ثم رميت بالمفكرة في القمامة..




Translate