Tuesday, December 31, 2013

الدخول إلى الفراغ

لم يكن ديكارت يؤمن بالفراغ، بل كان يعتقد أن الكون مليء بالحبيبات الدقيقة التي تمرّ عبرها المادة كما يمرّ الجسم الصلب عبر الماء. و في زمن ليس ببعيد كان العلماء يقدّمون الأثير على أنه ما يحمل الذبذبات حينما لا يوجد هواء. كان الانسان يرفض فكرة الفراغ، و يلحّ في رفضه حتى تبيّن له أن الفراغ لا يملأ مساحات ضخمة من الفضاء الرحب فحسب، بل إن جسده نفسه أغلبه فراغ و شيء بسيط من المادة!

عادتي مع الأفلام أنني أكوّن عنها فكرة مسبقة تشكّلها صورة البوستر، و طبيعة الأشخاص الذين نصحوني بها، و ربما شريط التقديم (trailer).. و عادتي هذه لا تخيب كثيرا، غير أنها هذه المرة أساءت التقدير أيما إساءة. و ما ظننتُ بفيلم Gaspar Noé سوءا قطّ، و لكنني اعتقدتُ أنه فيلم افضل ما فيه طابع الصدمة و روح الجرأة التي تلوّن بلونها. فإنك تلقاه تقريبا في كل قائمة لأكثر الأفلام جرأة أو استفزازا. خصوصا و أن الرجل ضالع في ذينك الخصلتين أيما ضلوع. و كاد اعتقادي يمضي نحو اليقين مع مشاهد الفيلم الأولى، الاضاءة الضبابية، و المكان الفوضويّ القذر، و عالم المخدرات و الموسيقى التي تنبئ بالكثير من الفساد في الأرض. هذا فيلم آخر عن الادمان.. لقد كان شريط "صلاة للحلم" (Requiem for a dream) شافيا و وافيا في هذه المسألة، و لا أدري أي جديد يمكن أن يقدّمه فيلم آخر. و ازداد ضيقي حينما أطال المخرج مشهد الهلاوس البصرية التي رافقت البطل (أوسكار) خلال رحلته مع عقار الـ LSD .. لماذا هذه الإطالة؟ كم طول الشريط؟ ساعتان و نص الساعة؟ هل سيمضيها المخرج في هلاوس سخيفة من هذا القبيل؟ فجأة لاحظتُ أن القُمرة (أعني الكاميرا طبعا، و أدعوك أن تتعوّد على هذه التسمية ـ الأصيلة ـ :v ) تصّور تماما ما يراه أوسكار كأنما هي عينه الثالثة، و حينما وقف قبالة المرآة كانت القمرة تبدو بالفعل كإحدى عينيه، ترى وجه الرجل منعكسا على المرآة و هو يغسل وجهه. اللعنة! كيف فعلها المخرج؟! هنا فقط أثار الفيلم انتباهي، و أعدتُ الشريط إلى بدايته...

أوسكار شاب أوروبيّ أوجدته الظروف في طوكيو رفقة أخته ـ عائلته، فعاشا فيها يسترزقان من تجارة المخدرات و فنّ التعرّي، طبعا لكم أن تستنتجوا دور كلّ منهما.. هذا صديق اوسكار المراهق، يطلب جرعة جديدة من المواد المخدرة. إنه فتى غرّ معجب بأوسكار و يبدو أنه يتعاطى المخدرات لأنها طريقته الوحيدة ليتواصل مع صديقه هذا.. في ما بعد سنعلم أن أوسكار واعد أمه غير مرة.. لكنّ هذا ليس مهمّا، سيمضي أوسكار و صديقه إلى محلّ التعرّي الذي تعمل فيه أخته، ليسلم البضاعة إلى صديقه المراهق فيكتور. كان أوسكار نصف واع، و كانت القمرة تصف حالة اوسكار ببراعة مذهلة، حتى لكأنك أنت المخدّر. ألاكس صديق أوسكار يحدّثه أشياء مبهمة عن تناسخ الارواح، و النفق الطويل الذي ينتهي بنور أبيض، و عن هيام الروح حيث كانت تعيش زمنا قبل أن تستقر في جسد جديد. و لكنّه لا يهتمّ كثيرا، كان خائفا من أن يُفتضح أمره، بدت له المدينة مكتضة، بدت له كثيرة الأضواء تماما كذلك المجسّم الذي صنعه صديقه لمدينة طوكيو. هو ذا المحلّ.. هو ذا فيكتور.. هنا يبدأ الفيلم!

لن أخوض في تفاصيل الفيلم، لأنه لا يترجم إلا كلام، إنما هو تجربة تعيشها كما يعيشها بطل الفيلم تماما.. القُمرة تتحرّك عبر مدينة طوكيو المضيئة في ظاهرها، المظلمة في باطنها. سلاسة تتنقل بها عين المخرج بين جدران المدينة و طوابق ناطحات السحاب فيها، كأنها سلاسة الروح الهائمة الضمآى إلى الراحة الأبدية.. و بمثل تلك السلاسة، ينتقل الحديث بين ماضي أوسكار و عقد الطفولة، و الصدمات التي شكّلت شخصيته، و واقع حياته في طوكيو و تفاصيل الأشياء من حوله، التي شكّلت مستقبله، أو لنقل، كانت سببا في ما حدث له.
لعبة البازل (Puzzle) الممتعة التي يقدمها لك المخرج لتلملم شتات قصة أوسكار منذ خروجه من رحم أمه، حتى موته، هي الجزء الممتع في الفيلم. أما الجزء المثير، فهو حتما ما سيتبادر إلى ذهنك من أسئلة و أنت تشاهد شيئا محبوكا بعناية كهذا. و لو أنك تابعت الفيلم بشيء من الاهتمام، فقد ترهقك الأسئلة و الافكار و الاستنتاجات، لكثرتها و ثرائها، حتى إن النهاية لن تفاجئك كثيرا، بل أعتقد أن عليك أن تتوقعها منذ منتصف الفيلم تقريبا، و إن المفاجأة حقا، هو أن لا تلقاها في آخر الفيلم.

لقد تجاوز Gaspar Noé فكرة الاستفزاز المجاني، و قدم ملحمة شاعريّة تذكرنا كثيرا بأوديسا الفضاء، حينما يكون العنصر السمعيّ البصريّ كافيا لمخاطبة المشاهد، و اثارة الافكار في ذهنه، و اثارة المخاوف و الشكوك و التوجس في قلبه. تنتقل القمرة بذات السلاسة و يصحبها النغم الهادئ المستفزّ، مع كوبريك في ربوع الفضاء الصامت، و هنا خارج الزمان و المكان، في عالم .. احم.. اترك لكم متعة الاكتشاف! بل لعلّ Noé عمد إلى التشابه عمدا، حتى كانت النهاية واحدة تقريبا.

------------------------- SPOILER ------------------------
و لئن بدا رضيع كوبريك ايذانا بميلاد "الأرقى من الانسان" Der Übermann كما صوّره نيتشه، فإن لسائل أن يسأل عن هذا الرضيع الذي انتهى به فيلم Gaspar Noé.. انها البداية الجديدة حتما، لكن هل لها علاقة بـ "الأرقى من الإنسان" النيتشويّ؟
غير أن الاختلاف الحقيقيّ بين الصورتين، هو الطبيعة الصارمة للخيال العلمي في اوديسا الفضاء، بينما كانت رحلة أوسكار روحانية أبعد ما تكون الروحانية، موغلة في أعماق الميتافيزيقيا، و حينما تساءل كوبريك عن مستقبل الانسان، تساءل Noé عما بعد المستقبل.. ذلك السؤال المرعب التي يحاول الانسان اجتنابه ما أمكن، حتى تجده الاجابة قبل أن يجدها.. ماذا بعد الموت؟

بدت كل أفعال الشخصيات في العالم محاولة للهروب عن هذا السؤال، و بدا أن الوحيد الذي جرؤ عن الحديث عنه، كان صديقه الذي أخذ صورة العاقل الأكثر حكمة و هدوءا. ماذا بعد الموت؟ هل هو العدم؟ هل هو الفراغ؟ تعود إلى تقسيم الفيلم، إلى قسمين، مشاهد ما قبل الموت و مشاهد ما بعد الموت.. سيدهشك أن مشاهد ما قبل الموت كانت شحيحة بالمعرفة، غارقة في الضبابية و الابهام، لا تكاد تدرك منها شيئا، ثم فجأة تبدأ رحلة الروح فوق المكان و فوق الزمان، تؤتى المعرفة و الحكمة، و يظهر لك ما خفي من أمرك، لماذا تحبّ أختك؟ لماذا واعدت والدة صديقك الذي بدا كما لو كان يشبهك؟ فوق المكان و الزمان، لم شيء عبثيّ أو رهين الصدفة، بل بدا كأن كلّ شيء يتكوّن منذ ولادة أوسكار من أجل غرض واحد : الولادة من جديد!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ END OF SPOILER ---------------

يبدا الفيلم بكلمة أدخل "ENTER" و ينتهي بكلمة الفراغ THE VOID، ليجعلك تتساءل، أيها كان الفراغ؟ الحياة أم الموت؟ لا يجيب Gaspar Noé عن السؤال و لكنّه يصوّره تجربة سينمائية فريدة من نوعية، لا أنصحك أن تفوّتها!


Saturday, December 21, 2013

الفيلم اللقيط

هناك قاعدة في عالم السينما تقول : حينما تنتظر شريطا ما لمدة طويلة، فاعلم أن الشريط سيخذلك حتما.
طبعا القاعدة من اختراعي، و لكن أعتقد أنها تعمل بشكل جيد، خصوصا مع السينما الامريكية، و التونسية. ربما لذلك كنت أعرف جيدا ما سينتظرني حينما وقفتُ امام باب دخول قاعة الـ RIO لمتابعة الفيلم التونسي Bastardo .. 

نجيب بلقاضي أثبت في السابق أنه ـ سينمائيا ـ شخص مختلف تماما، VHS كحلوشة، عمله السينمائي الأول، يعتبر بالفعل تعبيرة سينمائية نادرة الحدوث في تونس. حينما تجمع شيئا من المال لاستثماره لأول مرة في هذا العالم ـ المخاطرة، فأكثر ما تفكر فيه هو أن لا يذهب المال سدى، ستفكر في كثير من الصور التي اعتاد التونسيون على الاستمتاع بها، ستفكر في الكثير من "القضايا" التي يدمن التونسيون اجترارها، ستفكر في الكثير من الجنس المجانيّ، لأن الاخوة الفرنسيين سيدفعون المال لذلك البغاء الثقافيّ.. لكنّ نجيب بلقاضي لا يهتمّ بكل ذلك، و هو حتما ما أثبته في Bastardo ..

الصورة، العنوان، حديث بعض الأصدقاء المقتضب، و اسم المخرج، هو كل ما كنت أملكه من معلومات قبل أن ألج إلى القاعة المظلمة. الصورة الوحيدة التي يمكن أن أركّبها من هذا الخليط، تتمحور أساسا حول فكرة اللقيط، و ما قد يعانيه في احتقار و تهميش في المجتمع، و ما يجرّه عليه غياب اسم الأب في بطاقة الهوية من ظلم و تعسف.. ربما يعالج المخرج "القضية" بشيء من الكوميديا مثلا، على غرار شريط "Cinecitta" لو تذكرونه، لكن الفكرة مفهومة و واضحة.. كم كنتُ مخطئا!

في الواقع، بدت فكرة اللقيط أشبه بخيط اجتذاب لا أكثر، احيانا تجاه الفكرة الرئيسية، و احيانا بعيدا عنها.. فكرة رئيسية؟ سيبدو مشطّا الحديث عن "فكرة رئيسية" كما لو أن ذلك كان همّه الاول. كما قلت رؤية نجيب بلقاضي أعقد من هذا التمشي السطحي. هنا، يرسم المخرج عالما متكاملا، بعلاقات متشابكة و مكثفة، و يترك لها صنع الفكرة التي تتشكل رويدا، و بصورة طبيعية طوال مشاهد الفيلم. العنوان اذا قد يكون مراوغة خبيثة من المخرج، دعوة للتركيز على مسألة هامشية، حتى تتكون الصورة التي ارادها هو، امامك دونك أن توليها اهتماما.. أرى بعضكم يتململ في مجلسه و يتساءل همسا : ماذا يقول؟ أليس مالأجدى أن يحدّثنا عن قصة الفيلم حتى نفهم عمّ يتحدث؟ لا لن أفعل، لأنني أحب أن تشاهدوا الفيلم و تستمتعوا بتشكل صوره أمام أعينكم، و لكن سأذكر بسطة عنه حتى تتبيّنوا حديثي..

يروي الفيلم اذا، قصة محسن، Bastardo (عبد المنعم شويات) في حيّ عشوائيّ على هامش العاصمة ـ كما يبدو. و عشوائيته لا تتمثل في طرق البناء الفوضوية فحسب، و انما في كيفية سير الأمور هناك. يطرد محسن من عمله بسبب حبيبته الجميلة التي تجاهلته تماما و صنعت بصمته نجاحا لم يذق منه غير الاحذية.. و في الوقت الذي كان يفكر في حل لمعضلته، تأتيه عبر صديقه السائق (توفيق البحري) فكرة مشروع يجني ارباحا كبيرة من دون أي شقاء. الفكرة لم تلق نرحيبا كبيرا من زعيم الحيّ الارنوبة (الشاذلي العرفاوي) و أمه. يستمر الصراع بين الرجلين الى نهاية الفيلم. و دون الخوض في التفاصيل، فقد شكل هذا الصراع تلك الصورة التي تمثل ربما فكرة الفيلم الرئيسية. أعتقد أن مقاربة بلقاضي كانت عبقرية جدا، و تستحق تنويها خاصا، كعمل سينمائي تونسيّ يتجاوز الرداءة السينمائية التي اعتدناها من سينمائيي الأمس .. لكن السؤال، هل أحسن الرجل استغلال أدواته السينمائية لحبكة هذه الصورة؟

في الواقع أبرز الأدوات التي يجب الحديث عنها هنا، هي الموسيقى. في فيلم VHS كحلوشة، يبدو طبيعيا غياب الموسيقى في عمل وثائقيّ تقريبا. أما هنا، فغياب الموسيقى ـ تقريبا ـ يطرح سؤالا رئيسيا : لماذا؟! بحق الله لماذا؟!
حسن، غياب الخلفية الموسيقيّة في المشاهد، أو في المقاطع الانتقالية، عادة تونسية أصيلة، ربما بسبب تبعيّة التونسيين للمدرسة الفرنسية.. السينما الفرنسية تجاوزت هذه المسألة، و ستجد هذا الشكل في أشرطة بعينها، أما في تونس، فقد ظل التقليد أعمى. (سأستثني بابا عزيز لأنه أصلا يقوم على الموسيقى). غياب الموسيقى يوحي بجوّ من الجدية، و نمط شديد الالتصاق بالواقع. شيء أشبه بالأشرطة الوثائقية. و هو احدى أهم ركائز مدرسة Dogme95 الشهيرة. لا موسيقى، لنترك السينما طبيعية. لكنّ المشكلة هنا، أن لا شيء طبيعيّ في فيلم بلقاضي.
يمارس بلقاضي في كثير من المشاهد كثيرا من فنون الكوميديا : المبالغة، الكاريكاتور، الخيال، الصدمة.. هذه أمور برأيي تصطدم تماما مع غياب الموسيقى الذي يعطيها طابعا جديا غير محبب. سأذكر مثلا مشهد الأم حينما أطلقت كلابها على محلّ ممتلئ بالعباد، و أغلقت الباب. و أيضا صورة "لاعق الأحذية" (و قد أدى دوره ببراعة فائقة) و هو يتلقى لكمات أرنوبة و عضات كلابه الشرسة.. صور كثيرة تجانب المعقول بمراحل، كان يمكن هضمها بكثير من الـ yeah و الـ "بليييدة!" لو رافقتها بعض الموسيقى. لكنّك تبتسم في اعجاب بينما تشعر بشيء من الضيق في داخلك.

----- SPOILER

هذه الجدية قد تؤثر أيضا على موقفك من السيناريو. أشياء كثيرة غير معقولة في السيناريو، و كان يمكن أن تتجاوزها من قبيل : لا بأس انه مجرد عبث من المخرج.. لكن الجو الجاد يجعلك تفكر، ان كان بلقاضي مجبرا على ذلك لأنه لا يملك حلولا أفضل. مثلا فكرة عمود الاتصال هذا، كان يمكن أن يطيح به ارنوبة ثم يطلب من شركة الاتصال أن تضعه عنده، لنقل إن أفضل مكان ممكن هو سطح دار محسن، فالسلطة التي كانت لأرنوبة تمكنه من أن يبتاع منه المنزل بالقوة، أو على الاقل، يطيح بالعمود و ينتهي الفيلم من قبل أن يبدأ. سنقول أيضا إن أرنوبة بحكم الصداقة القديمة و ما شابه، كان عاجزا، كان يريد لصديقه شيئا من الربح. هذا ممكن، لكن ماذا عن ذلك المشهد المضحك : الناس ثارت على محسن، فصعد إلى السطح و بضغطة زرّ قطع الاتصال بالشبكة على الحي كله. هكذا؟ ألم يجد المخرج حلاّ أقل كوميديا من هذا الحل؟ لستُ ضد الفكرة، و لكنه كساها بطابع جديّ يستحيل تقبله. ما يجعلني أفكر أن كاتب السيناريو كان محدود الخيال بالفعل، و أنه لم يجد فكرة أفضل. طبعا ما يهمنا هو رمزية ذلك، أنا لم أستعمل القوة معكم. أنا صعدت إلى السماء و قطعت عليكم النعمة (يذكرني هذا بقصة سيدنا موسى مع بني اسرائيل، هل تراه استوحى الفكرة منها؟). لكن هذه الرمزية يمكن استخراجها بطريقة أكثر معقولية. لو شئت أن تبني موقفا كاريكاتوريا، فاستعمل الادوات المناسبة لذلك!

السيناريو لم يكن ضعيفا في هذه المسألة فحسب، هناك أيضا تطور الشخصيات، و أعني خصوصا الشخصية الرئيسية. الشخصية الرئيسية تغيرت و لم تعد كما كانت، تسمع ذلك تقريبا في أغلب فترات الشريط، و لكنّك لا ترى تغييرا. فقط أمران قد يشيان بذلك : تدهور صحته، لأسباب مجهولة على ما أظن. و مشهد اغتصابه لعاشقته "بنت السنقرة". هنا يجب أن أشير إلى مشهد الاغتصاب (و لعلني نسيت تفصيلا مهما) فبنت السنقرة تحب محسن، و مع ذلك، تمضي لياليها مع الارنوبة لتحصل على المال. حينما يريدها محسن، ترفض. لماذا ترفض؟ سنقول إنها تريد الابقاء على صورة الحب الجميلة، أنقى ما تملك تقريبا. لماذا عرضت عليه نفسها منذ البداية اذا؟
بنت السنقرة من أجمل الشخصيات و أكثرها ابتكارا في الفيلم. يمكن ايجاد دلالات كثيرة لعلاقتها الأبدية بالحشرات، يمكن تقديم قراءات كثيرة مختلفة بشأن ذلك، لكننا سنجمع أن الصورة فريدة و على قدر من الجمال. و حتى تطور الشخصية لم يبدُ بهذا السوء أبدا. هناك الفتاة الحالمة بقصة حب تنتشلها من واقعها الكئيب، واقع الفتاة المنبوذة، "القذرة". ثم رضاها بما هي عليه، معاشرتها لأرنوبة بمقابل، كاكتمال لصورة "القذرة" التي يراها الناس عليها، ثم اتخاذها لموقف ايجابيّ (تجاه نفسها خصوصا) حينما اختارت قتل الأرنوبة...
أما الأرنوبة، فلا أعتقد أنها شخصية فريدة، و لكن بلقاضي أحسن التعامل معها. الزعيم الذي فشل أن يكون زعيما، لأنه "أرنوبة".. أرنوبة هو فكرة أن "الزعيم" يولد "زعيما"، و ان القاتل يولد قاتلا. حاولت الأم كثيرا تغيير طباع ابنها، حاول هو نفسه أن يتغير، لكن جيناته كانت أقوى من أن يتغيّر. أرنوبة هو المقابل التام لمحسن. هو يبحث عن السلطة فتهرب منه، بينما يتهرب محسن من السلطة فتأتيه راجية. هو يمارس السلطة بكل أنواع البطش، بينما محسن يمارس السلطة بدون أن يحتاج إلى العنف. لأن السلطة لا تتمثل في القوة الطبيعية (physical) بل في كونها سلطة في حدّ ذاتها.. هل كان اختيار بنت السنقرة لمحسن، اختيار الانثى، للاقوى طبيعيا؟ ربما لم يقصد بلقاضي هذه الصورة، لكنني أراها صورة معبرة جدا لقانون الطبيعة.
أرنوبة شخصية لم تتطور، بل اتضحت. منذ البداية كان مترددا، كان حنونا، كان أرنبا يحاول أن يأخذ شكل الأسد. لكن المخرج لم يبيّن ذلك منذ البداية لا غير. بالمثل كانت أمّه أيضا، التي رغم الصورة الجميلة التي كانت عليها، لم تبد إلا تكملة لشخصية أرنوبة.
تبقى شخصية سائق سيارة الاجرة، مساعد البطل كتصنيف كلاسيكيّ، لم أجد له في الواقع قراءة مناسبة. ربما لا توجد في النهاية. سأنتظر تعليقاتكم (لو وجدت) بشأنه. لكن لنتفق أن توفيق البحري، كان من أفضل الممثلين آداء هنا.

آداء الممثلين عموما تراوح بين الجيد جدا و الرديء. سأصم بالرديء، صاحب دور الأم خصوصا، و زوجها الذي ظهر في مشهد وحيد في البداية. و سأعتبر آداء عبد المنعم عاديا جدا. ربما لأن الدور لم يكن يتطلب أكثر من ذلك. في النهاية شخصية محسن كانت مفعولا بها أكثر مما كانت فاعلة. أيضا لم تبد لي بنت السنقرة أنها قامت بعمل مذهل. اما لاعق الاحذية، فالأغلب أن هيئته ساعدته كثيرا على التميز. عدا أن عباراته لم تكن بتلك الاهمية، فكان له هامش من الحرية في انتقاء بعضها، و هنا ـ اعتقد جازما ـ ما جعل آداءه طبيعيا جدا. عكس البقية. سبب الرداءة الأساسي اذا، هو الحوار. لقد كان نقطة ضعف رئيسية في الفيلم!
سأظل أذكر طويلا تلك الصورة الممتعة للحرب "الاهلية" الدائرة بين انصار محسن، و أعدائه في الحي، و مشهد النيران، و الكر و الفر.. كان مشهدا جميلا سرعان ما أغرقه في البشاعة صراخ أحد الانصار : ربحنا يا سي محسن! ربحنا!
ما هذه الرداءة؟!
أغلب عبارات الأمّ، مضحكة تقريبا عوض أن تكون مخيفة. و أعتقد أن الوحيد الذي أنقذ نفسه من هذه العبارات المتخشبة المهترئة، كان خليفة سائق التاكسي. كان أكثرهم طبيعية. و أعتقد هنا، أن خبرته لعبت دورها.

أعتقد أن الفيلم مبشر بثقافة سينمائية جديدة في تونس. ثقافة لا تستهين بالمشاهد، و لا تقدم له فنا ضحلا. سأذكر طويلا صورة عمود الاتصال و كيف طافت حوله القمرة (الكاميرا و اعتادوا على هذا المصطلح رجاء >_< ) في مشهد جميل ذكرني بمشهد القالب الأسود المهيب في فيلم أوديسا الفضاء. (لا تعرفونه؟ تداركوا أمركم اذا!)
السلطة عبر وسائل الاتصال، هذا ليس اختيارا بريئا طبعا. ان من يتحكم في وسائل الاتصال، هو من يقدر أن يفرض سلطته في هذا العالم. وداعا للطرق البدائية و العنف الأبله. الكلاب (و خمّنوا من هم الكلاب هنا) سيقفون عاجزين أمام سطوة الهاتف النقال. لكن السلطة أيضا لا تقف أمام منزل أي شخص يبحث عنها. للسلطة ذوق غريب في اختيار مالكها. في الواقع، يولد أشخاص سلطويون بطبعهم، قد تتهيأ لهم الظروف لممارستها و قد لا تفعل. الشخص إما سلطويّ و إما فلا. و الناس إما مطاعة، و إما مطيعة. فجأة تحول الجميع إلى عبيد للهاتف.. فجأة تحولوا إلى عبيد للزعيم الجديد. هل يحبون عبوديتهم؟ لا يبدو ذلك، و الا لما رفضوا تسديد اتاواتهم لمحسن في البداية. لكنهم على استعداد لها دائما. هل هذه صورة للواقع التونسي كما يراه نجيب بلقاضي؟ ربما، و لكنني لا أملك ما يكفي من الأدلة لاسقاط ذلك. حتى المشهد الأخير، بدا على صنعته، مبتذلا، مسقطا و مفتعلا الى حد كبير. و لكن بعيدا عن تحجبها، فشخصية مرجانة التي تتميز بثنائية الحضور و الغياب، تقدم أيضا صورا كثيرة و متنوعة. فبداية، هناك صورة الحبّ العصيّ على السلطة. يمكنك أن تملك السلطة التي تشاء و لكن الحب يتجاوز السلطة. حسن تبدو القراءة متعسفة، و لكن علاقة محسن و الارنوبة ببنت السنقرة تدعم هذه الفكرة. لا توجد علاقة حبّ سليمة هنا، في هذا الجوّ المتخم بالصراع على السلطة. لكن أيضا، مرجانة تقدم أيضا صورة ذلك الشيء الجميل الذي بحث عنه محسن فلم يجده، و وجد السلطة مكان ذلك. ما الذي أراده نجيب بلقاضي من هذه العلاقة؟ تحفيز محسن على قبول السلطة؟ تحفيز محسن على شق سيره نحو الزعامة و المال؟ ربما و لكن تبدو شخصية مرجانة موحية بأكثر من ذلك.. 

----------------- END OF SPOILER

الفيلم نفسه يبدو موحيا بأكثر مما ستشاهده، لذلك هو يستحق المشاهدة و التنويه أيضا. أعتقد أن هناك نقائص جوهرية على مستوى الشكل (الحوار و الموسيقى خصوصا)، و لكنني أعتبره فيلم ناجحا. أريد للجميع أن يشاهد باستاردو. لا لتشجيع اصحابه فحسب، و انما لأنه يشق الطريق الصحيح للسينما التي يجب أن ينتجها سينمائيونا. لأنه سيعاود تحديد مفهومنا للعمل الفني الناجح عموما و السينما خصوصا. باستاردو فيلم لقيط، لأنه ـ ربما ـ لا أب له، لا سابق لمثله في السينما التونسية. و هذا لا يعني قط أنه فيلم وضيع، بل ربما العكس تماما!

21 كانون 2013

Tuesday, October 29, 2013

تقديم الخروج عن الخطّ بمعرض تونس الدولي للكتاب 2013


في لقاء قصير، جمع الكاتب بأحباء الكتاب (و رفاقه القدامى) في معرض تونس الدولي للكتاب، تفضل الأستاذ يوسف عبد العاطي ـ مشكورا ـ بتقديم كتاب الخروج عن الخطّ. و قد نظّم اللقاء نادي مصطفى الفارسي للابداع الفنّي.

و قد قدّم الأستاذ جملة من الملاحظات بخصوص الكتاب، لم يجد الكاتب وقتا للاجابة عليها، فضلا عن أنها لم تأخذ قالب الأسئلة بقدر ما أخذت قالب الدرس الذي يعطيه الأستاذ إلى تلميذه. و هو بالفعل أستاذ، و أنا بالفعل تلميذ، و ما أكثر أن يخطئ أستاذ من حيث يصيب التلميذ. على أن الردّ هنا لا يأخذ صفة قطعية و لا حاسمة. و إنّما يقدّم الكاتب ما رآه و للقارئ أن يبحث و يفكّر بنفسه و يتقصّى عن الحقيقة بين الموقفين.

فبداية، لاحظ الأستاذ أن تقديم الكاتب في خلفيّة الكتاب، فيه انتقاص الكاتب لنفسه، و لمؤلَّفه، و أنّ ذلك لا يستقيم و لو لكاتب "شاب" يخطو خطواته الأولى. فالقول "يزعم أنه يجيد الكتابة" بحسب
استنتاج الأستاذ تعني أنه لا يجيدها حقا. و هذا ينافي معنى "الزعم" في اللغة. ففي لسان العرب نجد ما يلي :

زَعَمَ زَعْماً وزُعْماً وزِعْماً أي قال، وقيل: هو القول يكون حقّاً ويكون باطلاً، وأَنشد ابن الأَعرابي لأُمَيّةَ في الزَّعْم الذي هو حق: وإِني أَذينٌ لكم أَنه سَيُنجِزُكم ربُّكم ما زَعَمْ.

فالزعم هنا، يحتمل الحق و الكذب، و الكتاب بذلك يتنصّل من رأي الكاتب، أي أن الكاتب يعتقد أنه يجيد الكتابة، لكنّ الحكم لا يكون الا للقارئ، إذا ما أمسك بالكتاب و قرأه و حكم عليه بنفسه. و بذلك فالراجح هنا، أن لا نقص في الثقة بالنفس كما ذهب إلى ذلك الأستاذ يوسف عبد العاطي، و إنّما قد يكون العكس تماما، أي أنه حاول إخفاء ثقة قد يبدو مبالغا فيها.

الملاحظة الثانية التي أبداها الأستاذ، و أيضا رئيس النادي، الدكتور المختار بن إسماعيل، في قول الكاتب "ينظم القصص". و قد رأى كلاهما أن النظم لا يكون إلاّ في الشعر، لا في النثر. و هنا أتساءل إن كانا بالفعل يعتقدان أن الكاتب تفوته مثل هذه المعلومة البديهيّة التي لا يجهلها طالب في التعليم الثانويّ، أم أنّ تجربتيهما الطويلة في عالم الأدب، علّمتهما أن لا يستغربا جهل البعض بمثل ذلك. على أنّ هذه الملاحظة تحديدا، تبدو دليلا إضافيّا على ما قد يذهب إليه الكاتب من استنتاج أن القارئ عموما، و القارئ المتمكّن خصوصا، لا يأخذ الكتابات الشابّة مأخذ الجدّ، بل و ربما بشيء من الاستهانة، و هو أمر قد يستفيض الكاتب في شرحه، في تدوينة منفصلة.
المهمّ أنّ النظم يكون في الشعر، لا يكون في النثر، و لكنّه قد يكون في القصص ذلك أنها (القصص) قد تكون في شكل قصائد كما فعل أحمد شوقي مثلا. فلا تلازم إذا، بين النثر و القصص. بل و يمكن الذهاب إلى ماهو أبعد من ذلك، فنظم القصص هنا قد يكون استعارة. و هو ما ذكره الكاتبُ للأستاذين (في لقاء سابق)، غير أنّهما اعترضا بقول بدا له غريبا "النظم لا يكون في النثر، هذا غير منطقيّ، و المجاز فيه منطق، لا يستعمل كيف ما جاء."
تخيّلوا أن نطبّق هذا القول على قوله تعالى :"و آية لهم الليل نسلخ منه النهار فاذا هم مظلمون". (يس 37) إذ يمكن هنا أن نقول الشيء نفسه : الليل لا يُسلخ، و النهار لا ينسلخ، و هذا غير منطقيّ ألخ.. هل العيب في القرآن أم في تناولنا للاستعارة؟
فالاستعارة تبنى هنا باعتبار الجامع، و هو جامع عقليّ، فمن خاصيات النظم، حسن انتقاء الألفاظ، و حسن توزيعها، و هو ما "يزعم" أن قصص الكتاب تقدّمها. و هذا المعنى تؤكّده العبارة التي تليها "بصرامة المهندس". ذلك أن المهندس (أو المفترض من المهندس) دقيق في عمله، لا يختار أدواته عبثا.

و تبيين هذا المعنى، لا يأتي في سياق "هذا هو المقصود"، فهذا يعني فشل النص في تفسير نفسه. و لكنّه يأتي في محاولة لاستدراج القارئ (من الخاصّة أو العامة) أن يكون أكثر جدّية في قراءة النص، و أقلّ تهاونا، و إن كان الكاتب حديث عهد بالنشر و الكتابة. و يضع سرّه في أضعف خلقه..

كذلك، يذكر الأستاذ يوسف مسألة الأشهر، و لا يجد ما يبرّر استعمال الكاتب لأسماء الأشهر "المستعملة في الشرق"، و يؤكد أن لأسماء الأشهر المستعملة في تونس من الرمزية ما يغنينا عن أسماء الأشهر الأخرى. و كالعادة لم ترد الملاحظة في شكل سؤال، ممّا يثير التساؤل بشأن معرفة الأستاذ بأصول تسميات الأشهر و غيرها.
فبداية، لم تُستعمل هذه الأسماء في كتابة القصص، إذ لا وجود لتحديد زمانيّ في أي من الأقصوصات الواردة بالكتاب (قد أكون مخطئا). و إنما ذكرت هذه الأسماء، في نهاية كل أقصوصة، تحديدا من الكاتب لزمن كتابتها. فهي إذا خارجة عن النص و لا علاقة لها به. ثانيا، هذه الأسماء، ليست "المستعملة في الشرق"، كما عرّفها الأستاذ، بل هي الأشهر السريانية، التي يستعملها أهل الشام، و العراق (تستعمل دول سوريا، فلسطين، لبنان، الأردنّ و العراق). و هي أشهر ذات أصول أراميّة، دخلت اللغة العربية من خلال اللغة السريانية، ثم تم تعريبها حيث أصبحت ترد بكثرة في الكتب العربية القديمة. و هي بذلك الأسماء المستعملة في اللغة العربية للدلالة على الاشهر الشمسية، من قبل أن يدخل العرب إلى المغرب العربيّ. و هي كما تلاحظون، معرّبة تتناغم مع اللفظ العربيّ، عكس الاشهر المستعملة اليوم في المغرب العربيّ، و مصر و دول الخليج. حيث قاموا بتعريب الأشهر من الانكليزية و الفرنسية (بينما استعملت المغرب الاشهر المعتمدة عند البربر و التي استقوها من اللاتينية، و تستعمل أيضا في تونس منذ القديم لاغراض فلاحية، و نسميها الاشهر العجمية و هي كما قلت، ذات أصول لاتينية.)
إذا، ما الرمزيّة في استعمال لفظة "فيفري" بينما لا أحد في تونس ينطقها بفاءين، فالجميع يقول fiivri بينما يلفظ جوان كما في الفرنسية تماما..؟ ما الرمزية في استعمال اسم يوليوس قيصر لتسمية شهر تمّوز؟ و ما الرمزية في استعمال لفظة DEC اللاتينية للدلالة على الشهر العاشر ديسمبر (قبل عمليات التحويل التي جعلته الشهر الأخير) ؟ و ما الضرر في الدعوة إلى استعمال أسماء لها تاريخ عربيّ، و لها رنين عربيّ لا بأس به ؟ و ما الضرر في الدعوة الى الاتفاق على أسماء أشهر واحدة للجميع؟ أليست اللغة العربية، هي اللغة الوحيدة ربما، التي لا تملك أسماء للأشهر الشمسية؟ ألم يحن الوقت لتوحيدها؟ ألا تستقيم الدعوة إلى ذلك عبر تعويد القارئ على شكلها؟ أم لا يحق لكاتب شاب أن يقيم هذه الدعوة؟

لسان العرب :
تشر : التهذيب عن الليث. تِشْرينُ اسم شهر من شهور الخريف بالرومية، قال أَبو منصور: وهما تِشْرِينان تشرين الأَول وتشرين الثاني وهما قبل الكانونين.
انتهى...

ملحوظة أخيرة، ذكرها الأستاذ عبد العاطي، تتعلّق بالنصّ نفسه (أخيرا!) و هي مسألة استعمال اللهجة العامية. و قد ذكر أن اللهجة العاميّة يمكن أن تستعمل مثلا في المقاطع الحواريّة. لا أن تتجاوز ذلك إلى النصّ نفسه. و الملحوظة الأخيرة هي ما يثير الحيرة، فلا يذكر كاتب القصص ـ و هو يعاني أعراض بداية الزهايمر على ما يبدو ـ أنه فعل ذلك. عموما يُرجى من القارئ ـ الايجابيّ (تيمّنا بالإخوة جماعة التنمية البشرية) ـ أن يدلّنا إن وجد شيئا من ذلك، هنا، فقد يحصل ذلك سهوا، أو قد يحدث تغيير في حرف يجعل من اللفظ العربيّ عاميّا (كما في الخطإ الوارد في قصة سندريلا : عربية بدل عربة و هي من اللهجة المصرية)..
ما يدعم هذه الحيرة، تلفّظ الأستاذ في سياق تعديده لعناصر اللوحة في أقصوصة الخروج عن الخطّ (و هي لوحة واحدة و ليست لوحات عديدة كما ذهب الأستاذ في قراءته)  بلفظتي : سطح، و زيتونة، كما تٌلفظان باللهجة العامّيّة، كأنّما ليس لهما وجود في اللغة العربية، مما أثار شكوك الكاتب و جعله يراجع قواميس اللغة علّه يكون مخطئا (و لم يكن)...
إنّ تقريب لغة القصّ إلى القارئ التونسيّ البسيط كان من بين الأهداف المهمّة التي رسمها الكاتب خلال خروجه عن الخطّ. فالتباين الذي يشتدّ بين الفصحى و العامّية لا مبرر له، و الأحقّ أن تطعِم العامّية الفصحى بالعبارة الحيّة، ابنة العصر، و الأحق أن تطعم الفصحى ابنتها العامّية باللفظ القويم، الفصيح، عوض استحضاره من اللغات الأخرى.. هكذا فقط تبقى العلاقة بين الفصحى و العامية علاقة أبويّة لا انفصال لها.
على أن تقريب المسافة بينهما، لا يعني أن تحلّ العاميّة محلّ الفصحى في اللفظ، و لا يعني أن يعبّر الكاتب عن المعنى باستعمال أدوات عامّيّة. و هذا لا ينطبق على المقاطع الحواريّة التي يعتبرها الكاتب ملكا للشخصيات لا ملكه.

ختاما، لا بدّ من شكر الأستاذ يوسف عبد العاطي، على نصائحه، و ملاحظاته، و ما من شكّ أنّ تجربته الطويلة مفيدة للشباب، و أن نصائحه مهمّة. على أنّ ذلك، لا يلغي، حقّ الكاتب في أن يقدّم مادة مختلفة، ربّما لم يتعوّد أهل الأدب في تونس على مثلها. كما لا بدّ من شكر نادي مصطفى الفارسي على مجهوداته التي لا يلحظها العامة مثلما لا تلحظها الدولة، و لا تمنحها حقها من الاعتراف، و من المساعدة (المعنوية خصوصا) .. كما لا بدّ من شكر الإعلام أيضا على اهتمامه الكبير بالندوات الادبية، و كل ما يتصلّ بالادب .. لا في هذه كنتُ أمزح طبعا -_-


Thursday, October 24, 2013

لماذا الأدب؟

قبيل انتهاء هذا اليوم الكئيب، تعود ذاكرتي إلى سنوات الدراسة الثانوية.. كنت في مكتبة المعهد النّموذجي، و هي قياسا، مكتبة "نموذجية" فيها ما لذّ و طاب من كتب الأدب و التاريخ و العلوم.. نادرا ما يستهلك تلاميذ المعهد هذه الكتب، فأغلبها لا يُعتمد في البرامج الرسميّة.. و أنتم تعلمون طبعا علاقة الحبّ التي تجمع تلميذا نموذجيا بما أراد له النظام أن يعلم.. 

في ذلك المكان الضيّق، عثرتُ على كنز اسمه "معجزُ أحمد"، و على "مسرح المجتمع" لتوفيق الحكيم. هناك جلستُ إلى "ستاندال" لأول مرة، و أقمتُ صداقة مع المدعوّ "فلوبير".. و أناس ظرفاء آخرين.. هناك بحثتُ أكثر في أسباب سقوط الأندلس، و انغمستُ أكثر مع تجربة المأمون السياسية.. و انتقل تفكيري إلى مستويات أعقد لم أكن أعرفها..

في ذلك المكان الضيق أيضا، توجّهت إليّ "س" بسؤال لن أنساه ما حييت.. قد أنسى اجاباتي الكثيرة و انفعالاتي الحادّة، و لكنني لا أنسى السؤال .. 
"لماذا الأدب؟ غدا تصبح أنت مهندسا، و أصبح أنا طبيبة. سيقدم كلانا خدمة للمجتمع، و سيرقى به، فلم الأدب؟ ما نفع كلمات رقيقة حالمة نتبادلها حينما نملك ترف الوقت لذلك؟ ما الذي ستضيفه ثلاثية نجيب محفوظ إلى قائمة الاكتشافات البشرية؟ و هل سيتحسّن وضع الدينار بمجرّد أن يقرأ الناس أغاني الحياة؟ أم إنّ شبكة المواصلات لن تتطوّر إذا لم نقرأ أعمال تشيكوف و غوغول؟"

أنا لا أعرف أين هي "س" اليوم، و لا ماذا تفعل، و لكنّني أعرف جيدا ماذا يحصل لذلك الشعب الذي لا تـُلقي كفاءاته بالا لنجيب محفوظ و أغاني الحياة و تشيكوف و غوغول.. أنا لا أعرف أين هي "س" اليوم، لكن من المؤكد أن هناك آلافا مثلها، اِجتازوا درجات التكوين الأكاديميّ دون أن يلمسوا كتابا أدبيا واحدا.. آلاف مثلها، يلبسون ميدعات أطباء، و جراحين، أو يحملون قبعات قضاة أو محامين، أو يحملون حقائب أساتذة أو معماريين.. أفكارهم جافة مكرّرة، خيالهم مريض بالهزال المزمن، لا يقدرون على التجديد، و لا عن التعبير عن أفكارهم... و لا يقدرون على التواصل مع الآخرين بشكل سليم.. 
هؤلاء هم الذين تجدونهم اليوم في الإدارة، ينظرون إلى آلاف العيوب التي تخترق جسد النظام و ينخر ما بقي من هيكله، و لا يقدرون على تغيير شيء، فأذهانهم نفسها لا تتغيّر.. و لا تفهم أن الحياة فعل تغيّر مستمرّ.. 

بالأمس رأيتُ على شبكة "فايسبوك" سيلا من الشّباب، يكبّرون في سعادة و رضا عن استشهاد أمنيّ وكـَّـله الشعب للذود عنه.. لم أفاجأ كثيرا، حينما اكتشفتُ أنّ أغلبهم من طلبة الهندسة، أو معاهد التقنية، أو حتى الطبّ..
إنّها القصة التي تتكرّر كلّ جيل، منذ سنوات ليست بقليلة : علوم تقنيّة، معلومات دونما معرفة، قطع مع كل أشكال الفكر و الفنّ و التفكّر و التفكير، فراغ روحيّ، و بساطة ذهنيّة، تأتي مسكّنات روحيّة فقيرة هشّة، بساطته الذهنية، تجعله لا يستوعب غيرها، يتعلّق بالمسكنات فيعلق.. 


لا أريد أن أختصر التطرّف في هذا المنوال، هناك أوجه عديدة، يجتمع بعضها فيخلق عقيدة الخراب هذه، لكنّ المؤكد أن للرداءة سببا واحدا.. و الرداءة لا تقتصر على تصوّراتنا الميتافيزيقية و الايتيقيّة فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى.. كلّ شيء تقريبا.. "و فيمَ يفيدُنا الأدب؟" ينقذنا من الرداءة مثلا.. يراودني السؤال بينما يتوالى التكبير من حولي..

و حينما أرى هؤلاء المهلّلين المكبرين من المهندسين و الأطباء، يراودني سؤال ثان، ترى هل تراه يقول الشيء نفسه لو قرأ "أشواك السلام"؟ أو "لن تحدث حرب طروادة"؟ هل كان سيعتقد الشيء نفسه لو غمرته صغيرا لذة قراءة "هو الكون حيٌّ يحبّ الحياة.." ؟ و أيّة متعة روحية سيلقاها في هذا الأنموذج الرديء، لو أنه حاك عبر آلاف الاستعارات و المجازات و الأساطير و القصص انموذجا أكثر "رقيّا" و تعقيدا و عناية؟

مشكلتنا مع الخيال باتت أشبه بالعقدة، فنحن نرفض الخيال و نهرب إليه.. نشمّه كما الأفيون سرّا، ثمّ نذمّه جهرا.. لذلك ظلّ خيالنا الشعبيّ ركيكا، مبتذلا، نراه في مسلسلاتنا الرمضانية، و في أغانينا، و ربما في كتبنا. فماذا عسى واقعنا أن يكون، إذا ما كان خيالنا مبتذلا؟
يقولون إنّ أدب القصة، يهرب بنا من الواقع، و يهرب بنا من مشاكلنا الحقيقيّة، و لعلّ ذلك ما أملاه علينا خيالُنا المبتذل. إنّ عيوننا قاصرة، لا تقدر أن ترى الأشعة ما فوق البنفسجية، و لا تقدر أن ترى جوانب كثيرة من الحياة، و هنا يمارس أدب القصة دوره في اعادة قولبة الواقع، اعادة تشكيله حتى يمكن لعين القارئ أن يرى ما لم يره من قبل.. و في أشدّ القصص انغماسا في الخيال و الأسطورة، سوبرمان على سبيل المثال، سنجد انعكاسا كبيرا للنفسية الأمريكية خلال أزمة الثلاثينات.. 

يقولون إن أدب القصة، ترف فكريّ لا يعني بلادا تعاني كي تنتشل نفسها من انهيار ممكن. أقول إنّ ما لا نملكه من خيال، يجعلنا عاجزين على الحلم بشكل سليم.. أحلامنا نفسها ركيكة، نحاول أن نتوكأ على أحلام الآخرين، لأننا عاجزون عن صناعتها.. 
أدب القصة هو حاجة أكيدة لشعب مثلنا، يعاني من فقر رهيب في الذوق الجماعيّ.. أدب القصة هو ما قد يقدّم المثال، النموذج الأرقى، لما نريد و ما نحلم.. أدب القصة، يخاطب فينا اللاشعور قبل الشعور، و يغيّر فينا ما لا نعلم، و يرتقي بالأذواق من حيث لا نشعر. هكذا حصل مع الأمم السابقة. فلا مصادفة هنا إن تزامن ميلاد ميلاد كليلة و دمنة، و مقامات الهمذانيّ، بفترة هي الأعظم في تاريخنا، و لا مصادفة إن عرفت مصر تطوّرا لا بأس به في زمن توفيق الحكيم، و نجيب محفوظ.. 

في الختام، أحب أن أذكر الطلبة من مهندسين و أطباء و خبراء قانون و صحفيين و أساتذة، و تقنيين، بمقولة أينشتاين الخالدة :"إن الخيال أهمّ بكثير من المعرفة. ذلك أن المعرفة محدودة بما نعرفه الآن في لحظتنا هذه، أما الخيال فيضمّ الكون كلّه، و كلّ ما يمكننا أن نعرفه أو نفهمه."



Friday, September 27, 2013

قصّة عائلية

تلقى هذه القصة غدا السبت، في حفل تقديم كتاب الخروج عن الخط

اليوم أروي لكم قصة عائلية. لا أعرف إن كنتم قد سمعتم بمثل هذا الصنف الأدبي من قبل، لكن اِسمحوا لي أن أؤكّد لكم أنّ كل شيء في هذا العصر إمّا شخصيّ، و إما مهنيّ. إما رفيع وإما شعبيّ أو عائليّ لتلطيف العبارة. ليست الكتابة استثناء، إنّما هي منتوج كغيرها.
قصّتنا إذا عائلية، ليست مدعومة لكنّها لن تكلّفكم شيئا من المال أو الجهد العقليّ. وهي بسيطة، ممتعة، موجزة، كما نحبّ لسهراتنا العائلية أن تكون. وهي محافظة، لا يجد الأب والأم حرجا من وجودها بالمنزل، ولا يحتقننّ وجه أحدكم وهو يستمع إليها رفقة زوجته أو بنيه.

تدور أحداث القصة في زمننا الحاضر. قد يبدو هذا مملاّ ولكن أؤكّد لكم أنه الخيار الأنسب. إنّ الماضي يستدعي الذاكرة الجماعية، وهو ما يعني الالتزام بمراجعة آلاف الكتب التاريخية والمخطوطات النادرة، بما لا يناسب كاتبا تونسيا كسولا مثلي. أعلم أن القارئ أكثر كسلا منّي وأن لا أحد يدقّق في التفاصيل اليوم. بمقدورك مثلا أن تقصّ على الناس كيف كان الحفصيّون يستعملون الكحول في صنع عطورهم من دون أن يتفطن أحد إلى الخطإ التاريخيّ. لكنني لستُ مستعدا للمخاطرة. إن قاعدة "يحدث للآخرين فقط" توقّفت عن العمل معي منذ أمد بعيد، وستجد حتما ذلك الشخص رائق المزاج الذي سيقلب كتابتك بحثا عن خطإ كهذا. 
المستقبل؟ لا أحد يكتب قصصا عن المستقبل في هذه البلاد. ولا أحد يعير الخيال العلميّ برمّته اهتماما. قصص المستقبل، للأطفال والفتية الحالمين. أما الكبارُ البالغون الناضجون العاقلون الجادّون، الذين خبروا الدنيا فيتحاشون النظر إلى المستقبل كما يبدو...

وعن المكان فلقد تردّدتُ بين أمكنة ثلاث. فأما الأول والثاني، فهما المفضّلان عند جمهور الفنانين والأدباء في تونس، وأعني بهما البادية، والمدينة العتيقة. تراهما في كل عمل تلفزيّ، وخلف كل قصيدة وصفيّة، وفي تفاصيل كل لوحة تشكيليّة... وأما المكان الثالث فلعله الأكثر شعبية، وأعني به طبعا الأحياء التي لا تمتّ إلى عموم الشعب بصلة. هناك حيث تنتفي المشاكل المادية تماما (في المخيال الشعبيّ فحسب) وحيث يملك الجميع هوسا غريبا بالبحث عن شخص ما يفهمه.

يمكننا إذا أن نبدأ قصّتنا بتقديم أبطالها، ولي منذ البدء أن أعلن راضيا أنني احترمتُ في اختياري مبدأ المناصفة، لذلك فلا أحد بين رانية وفتحي بطل أكثر من الآخر. كلاهما ولد في عائلة "مستورة و الحمد لله" وتسعى جاهدة لتوفير ما يلزم لتعليم أبنائها من قبيل السيارة، ورحلة العطلة الصيفيّة وبعض المبادرات اللطيفة الأخرى..  ولأن رانية و فتحي بطلان، فكلاهما طيبان بالضرورة. كلاهما النموذج الذي تسعى كل عائلة إليه (من خلال أبنائها طبعا). ولأنّ قصة عائلية كانت أو غير عائلية بحاجة إلى الدراما، فقد كان لزاما أن نجد مشكلة ما عند أحد البطلين أو كليهما تبدأ بها القصة.

لم تكن حياة فتحي مثالية كما قد يتبادر إلى الذهن. هو شخص ذكيّ خلوق ووسيم. يتطلّع والده أن يجعله من بعده مديرا لشركاته لكنّه يرفض هذه الحياة ويريد أن يتمرّد. هذا موجز بسيط لفكرة صراع الأجيال الذي يجب أن تقدّمه كل قصة عائلية. سوف لن تجد ابــنا يواجه تحوّلات فكرية تعصف بعقائده التي تتبناها كل العائلة. هذه أشياء مزعجة لا أحد يحبّ الخوض فيها. إنّ جرعة الدراما التي يجب أن تقدمها العائلة، لا يجب أن تتجاوز أحداث القصة نفسها، ولا يجب أن تتحول إلى أسئلة مريعة تتوالد كالبعوض في ذهن القارئ. مواجهة بسيطة بين الأب وابنه، مع الكثير من الصراخ والانتقاد الذي يرادُ به الصراخ، ثم يخرج الإبن غاضبا، بينما يرتمي الوالد على اقرب مقعد شاحب الوجه، محتارا.

إلى أين يذهب الأبناء حينما يبدون غاضبين؟ ربما إلى الحانة، وربما إلى سطح المنزل، و ربما إلى صديق عزيز، أو إلى الله.. بالنسبة إلى فتحي فهو يذهب إلى المرسيدس البيضاء، يهيم بها في شوارع المدينة الواسعة والتي لا نراها إلا في مخيلاتنا وفي مثل هذه القصص. لا بأس من أغنية حزينة تعوّض الدموع، لأنّ الرجال لا يبكون. ثم يحدث الاصطدام الذي لا مفرّ منه. لا أحد هنا يتذمّر بشأن السيارتين. كما أن رانية ظلّت فاتنة ومحتفظة بتصفيفة شعرها حتى بعد ارتجاج سيارتها الرهيب، و حتى بعدما سكبت من الدموع أنهارا. أما فتحي فقد أبدى فزعا كبيرا على الفتاة، لأنه طيب القلب طبعا، لا لأنها جميلة، ولا لأن الضرر الذي أصاب السيارة كان كبيرا. في قصص أخرى، سيبدو من المعقول أن يكون ثملا بعد شجاره مع والده، و أنّ ذلك سبّب الحادث. لكن في قصتنا العائلية، سيبدو ذلك مخجلا لبطل مثله، ناهيك أن البطلة لا يمكن أن تحب شخصا ثملا (يحدث هذا حينما يعاني البطلان من الافراط في الثقافة والبؤس، وهو ما لا ينطبق على حالتنا). 
كان الموقف عصيبا، و كان الفتى يحاول تهدئة شريكته في الحادث حينما أطلّ شرطيّ المرور من هناك. في القصص العائليّة، لا يطلب شرطي المرور بطاقات رمادية أو شخصية، ولا يسأل في غلظة عمّا يفعلانه لوحدهما ليلا في هذه المساحة الخالية من المدينة.. إنما يطلب وحدات النجدة ويسألهما في أدب إن كانا يرغبان في ايصالهما إلى مكان ما من المدينة. فيرفضان شاكرين، فيذهب باسما، راضيا عن عمله وعن العالم من حوله...

يدرك القارئ أو السامع دون شك، أن فتحي أحبّ الفتاة. طبعا لجمال روحها وحسن خلقها، و لطفها... كلها أشياء يمكن للمرء أن يعرفها في الآخرين بمجرد الاصطدام بهم. أما الحب على الوَسام فهو كما قال المتنبي، للجاهلين، وربما أيضا لأبطال الخرافات، أو للشواذ... لكنّ هذا ليس موضوع قصتنا. 
الحب عموما لم يكن يوما موضوع القصص العائليّة، قد يفاجئكم ذلك، لكن هذه هي الحقيقة، فالكلّ هنا يعرف ماهو الحبّ، ويعرف ماذا يريد منه. لذلك فلا يناقش مفهومه أبدا. هو دوما اِحساس نبيل رائع يكنّه شخص ما تجاه شخص آخر للاسباب التي ذكرتها آنفا. أما ما يناقش، فهو تكاليفه ونتائجه، من عذاب ومن شوق وبيْن وجهاد في سبيل الوصال. لذلك يجب أن يجلب لهما حبهما شقاء كبيرا... تخيلوا مثلا لو أن والديهما متخاصمان. ربما تسبّب أحدهما في خسارة ضخمة للآخر مثلا. لماذا نتخيل؟ ليكن الأمر كذلك!

لكنّ هذه القضية اليتيمة لا تكفي. تعرفون أنّ مقياس جودة الأعمال الأدبية عند التونسيين هو كمّية القضايا التي تتحدث عنها. لا يهمّ كيف تفعل ذلك، ولا ماهيّة "القضايا" أصلا، المهم أن تُفرغ الكثير منها بين تفاصيل عملك، حتى تجد ما تقوله للصحفيين بعد ذلك.
هناك قضايا "خطيرة" لا يمكن أن تتغافل عنها. لكنّها للأسف في أغلبها تخص طبقة اجتماعية غير طبقة البطلين، ولو كان العمل رواية لأمكن حشرُ فقير معدم في أحد الفصول وتحميله أطنانا من القضايا، بدءا بالهجرة السرية، وانتهاء بالبطالة و اعتصام الرحيل... لكنّ القصة قصيرة، والايجاز واجب.
ما القضايا التي يمكن أن تتجاوز الأرصدة البنكية؟ القضية الفلسطينية طبعا، لا أحد يحقّ له انتقادك حينما تتحدث عن فلسطين، حتى لو كان ما ذكرته ركيكا مملاّ... المخدّرات أيضا، هذه قضية أثرياء بامتياز. هناك أيضا قضايا جديدة باتت تجد لها رواجا هذه الأيام، تتعلق بالإعلام خصوصا، وبالفساد والرشوة، وأيضا بعالم السياسة الذي ألفى الجميع خبيرا بدهاليزه... دون أن ننسى القضية الأقدم على الاطلاق في عالم الأدب منذ قدّمتها ملحمة جيلقاميش : الموت.

سنتخيل إذا أنّ والدي البطلين، خصمان سياسيان، ذوا توجّهين ايديولوجيين مختلفين. هذا يجعل الموقف أقرب إلى الكوميديا، ولكنني سأحاول أن أبدو جادّا قليلا. ليكن أحدهما مريضا مرضا مزمنا. أما الثاني فيتاجر في المخدرات، مع إسرائيليين طبعا ولكي يعمل نظامه دونما مشاكل، فهو يلقى بالرشاوي على كل مكتب أو ادارة تمرّ منها مصلحته. هكذا حشونا القصة بعدد لا بأس به من القضايا. 
كما خمّنتم، فشحوب والد فتحي مردّه مرضه المزمن، وهكذا فالرجل الشرير، هو والد المسكينة رانية. وكما حبيبِها، تحاول الفتاة البائسة التخلص من عالم والدها، عبر الزج بنفسها في عالم الفن التشكيلي. ترسم أشياء كئيبة في أغلب الأحيان، لكنّها منذ التقت الفتى الوسيم، باتت لوحاتُها أكثر اشراقا. لاحظ والدها ذلك، وبشيء من التمعّن في بعض أعمالها الانطباعية، أدرك أنها تهيم عشقا بابن خصمه العنيد. كيف عرف ذلك؟ إن قراءة اللوحات التشكيلية لا يمثل عائقا أمام شخصيات القصص العائلية. الجميع هنا يحفظ مدارس الفن كما تحفظ أنت اغاني BBJ Klay. بينما يكاد المعلمون يجنّون في محاولة لفهم طلاسم تلامذتهم...

المهمّ أن الوالد أدرك أن حياة ابنته في خطر، وأنّ اقتراب فتحي منها، قد يعني نهايته، لذلك وجب أن يقتله. قتله أمر بسيط جدا، الرجل يحتاج إلى حقن دورية كي يقاوم بها أمراضه المزمنة. المال يغـيّر الحقن بطريقة يستحيل معها اثبات من فعلها. هذه أشياء بسيطة يمكن يمكن تدبير تفاصيلها، لكنها تخلق كلّ متعة القصة العائلية. تكتشف هنا أن متعة القتل لا تضاهى. القصة العائلية الناجحة هي التي لا تتفادى فرصة القتل، أو تتحاشاها. سيلقون سبابا كثيرا حينما تكون الضحية من قائمة الطيبيين، لكنّني أرى قلوبهم تضحك في جذل طفوليّ. الملاعين الصغار!

ويعود فتحي إلى ثروة والده وقد اختفت حبيبته فجأة كأن لم يكن لها وجود. لماذا اختفت رانية؟ لأنها تعرف قاتل والده، ولأنها عاجزة عن مواجهته بالحقيقة. لكننا لن نقف طويلا عند هذا التفصيل السخيف. إن العالم ممتلئ بالعاجزين عن مواجهة مسؤولياتهم، ولعلّ قارئ هذه السطور (او المستمع الكريم) من بينهم. ما يهمنا، ليس سبب عجزها عن المواجهة، ولا العوامل النفسية التي تُقعد إنسانا على الإقدام على أمر يريده، ولا تلك التي قد تدفعه لفعل ذلك. بل ما يهمنا هو ما سببه عجزها من قطيعة وعذاب، وساعات كثيرة من التأوّه والاستماع إلى أغاني عبد الحليم حافظ. لحسن الحظ لم يكن فتحي كذلك، كان مندفعا، متهورا لا يبالي بشيء من أجل الوصول إلى مبتغاه. وحينما رأى صورة رانية في إعلان عن معرض لوحات تشكيلية، لم يتردد في اقتحام المكان. يشاء الحظّ مرة أخرى أن يتخلّف والدها عن الحضور، فكانت المواجهة التي لا مناص منها. الحظّ سلاح مهمّ لا بأس من استدعائه متى اقتضت الضرورة ذلك، ومتى ضاقت بك السبل. تماما كما يحتجّ شعراء اليوم بفكرة أن "كلّ واحد يقراها بطريقة" كلّما عجزت عن فكّ طلاسم أحد أبياتهم العبقرية.

و لأن اعترافات رانية لا تكفي، ولأن العائلة ترنو إلى العدالة المطلقة، حيث كل يأخذ جزاءه. فقد كان لزاما على الفتاة أن تجد الوثائق اللازمة لفضح والدها. ليست خيانة طبعا، اِجعل والدها غليظ المظهر، قاسيا، و لن يتّهمها أحد بخيانة والدها. ثم إن زواج الحبيبين لن يتم مباشرة بعد المحاكمة. لكنّ النهاية يجب أن تكون إما عادلة الى حد لا يطاق، و أما ظالمة كما لم يحدث من قبل. كان يمكن أن أنحو منحى وحشيا بعض الشيء، و ان أجعل فتحي ـ انتقاما ـ يغتصب حبيبته مثلا، أعتقد أن ذلك يناسب شخصيته المندفعة. لكنّ ذلك يهدم البناء الذي رتبه القارئ أو المستمع في ذهنه. لا أحد يحب أن يقوّض الكاتب بناءه الذهنيّ في خاتمة القصة. لذلك سأكون خلوقا، و أزف إليكم خبر زواجهما.

ـــــــــــــــــــــــــــ هنا تنتهي القصة و يستمرّ تقديم الكتاب..


أزفّ إليكم أيضا، أن الكتاب الذي أقدمه اليوم لكم، يحمل بين طياته عشر قصص، ليس من بينها قصّة عائلية واحدة. واعلموا أنني لا أسرف في قولي، ولعلّ من قرأ الكتاب من بين الحاضرين، سيعثر بين طيات هذا النص على تفاصيل كثيرة تخرج به عن الخط. أما أنتم، فحاولوا أن تذكروا قولي هذا و أنتم تقرأون الكتاب.


Friday, August 16, 2013

سوق الكساد (حديث إلى الكاتب)



نص خطاب أتوجّه به اليوم إلى جمهور الأدباء الشبان، و ضيوف ملتقى قليبية للأدباء الشبان..

يقول الشاعر :
إلى كم ذا التخلف و التوانـــــــي ـــ و كم هذا التمادي في التمادي
و شغل النفس عن طلب المعالي ـــ ببيـــع الشعر في سوق الكسادِ

و السوق اليوم كاسدة، و التخلفُ و التواني ضاربان في البلاد كما لم نعرف من قبل، فهل يرحل الشاعر؟ و أية معال تراهُ يلقاها بعيدا عن الشعر، و عن الأدب؟ لقد علّمتنا تجربة المتنبي أن معالي الشعر أرفع من المناصب و أكبر من السلط، و أن الكاتب وحده من يصنع من الحاكم كافورا أو سيف دولة..

إن سوق الكساد هو السوق الذي يجب أن يباع الشعر فيه للناس، و إن زمن التخلف و التواني هو الزمن الذي يحتاج أكثر من أي زمن آخر إلى شجرة الكاتب الوارفة، و إن الوطن الذي أصابته شيخوخة مبكرة، هو أكثر الأوطان حاجة إلى ماء المداد حتى يستعيد نضارته..

إن علاقة الأوطان الجريحة بغزارة المنتوج الأدبي لا علاقة لها بالصدفة. لها ذات وقع الجسم الجريح حينما يفرز وسائل المقاومة و الحماية. ليس غريبا اذا أن يأتينا المتنبي في زمن كسوف الدولة العباسية، و أن يطلع علينا بن حزم وسط حروب ملوك الطوائف، و أن يسطع نجم نزار القباني زمن النكبة المريرة، و أن يولد محمود درويش و غسان كنفاني من رحم المأساة الفلسطينية..
ترون إذا، أن فعل الكتابة اليوم ليس ترفا فكريا، بل مقاومة حقيقية، عملية انعاش و افاقة قبل أن يسقط الوطن في حالة غيبوبة قد تطول..

الكتابة في هذا الزمن اذا جدّية جدا، أو يجب أن تكون كذلك.. في أكثر الأعمال ظرفا، أو بساطة، يجب أن تتوفر تلك الجدية.. و على الكاتب أن يعامل أوراقه بمنتهى الاحترام و كل تهاون في ذلك هو تهاون في انعاش الوطن.. عليك أيها الكاتب اليوم أن تبحث، أن تتأمل، أن تفكر طويلا، و أن تقدم لسوق الكساد لغة جديدة، و قولا جديدا، و أفكارا جديدة.. فكر بكل حرف تمرّ عبره، كما يفكر الجنديّ بكلّ خطوة يخطوها وسط الألغام.. راود الأفكار البعيدة، تحرّش بها، تحسس أجسادها بكل وحشية الكاتب، و احفظ تضاريسها جيدا قبل أن تخلّدها على الورق، إن الأفكار مسمومة أحيانا، و قد تقتل الورق، فكن مغامرا ماهرا.

هناك، عند نهاية الكتاب، ستجد هوّة عميقة، فيها قراء مترددون مرهقون، و دور نشر يعدون على الأصابع، و آلات طباعة عتيقة و اعلام يراقب بمنظار مقرّب جديد الساحة الادبية.. ارم نفسك في الهوة، و خض المعركة.. قاتل كي يقرأك الناس و لا يهمّ كثيرا بعد ذلك أن يعجب الناس بما كتبت أم لم يفعلوا، فالافادة حاصلة في الحالتين..

هنا في هذا المكان الجميل، تخلّصت من عادة الحبو، و تعلّمت المشي.. أفرزت خطواتي الأولى كتابا أرجو له شيئا من التوفيق، و الكثير من القراء، لكنني أعلم أن الطريق طويلة.. و أن التحول من سوق الكساد إلى سوق عكاض، لا يمرّ عبر كتاب وحيد.. و لئن لم أختر أن أكون كاتبا، فقد اخترتُ أن أجيد ذلك، أو أحاول على الأقل.. قاتلوا من أجل الأدب يرحمنا و يرحمكم الله، قاتلوا من أجل الأدب يرحمنا و يرحكم الله.. 



16 آب 2013

Saturday, May 4, 2013

ثـم تكون خلافة..

(تقديم مملّ لا بدّ منه)
و هو موضوع يشغل بال المسلمين ربما منذ سقوط الخلافة سنة 1924، فبعدما كانت (الخلافة) أمرا واقعا لا خلاف على وجوبه تقريبا، (هناك من عارض وجوب الخلافة، مثل بعض المعتزلة) وهنت وضاعت أطرافها، وبدأ التساؤل : أليست الخلافة سبب وهن المسلمين؟ فانتهى عند مصطفى كمال أتاتورك بإجابة "نعم"، فأطاح بالخلافة، وأعلن عن الجمهورية التركية. بينما كانت إجابة حسن البنا، أن "كلا"، فأسس جماعة الإخوان المسلمين، وبدأت الحركات الإسلامية الّتي على اختلاف مذاهبها ومشاربها، تلتقي عند فكرة واحدة : وجوب الخلافة...

واليوم، يشتدّ الخطاب عن الخلافة ويعظم، فهناك من يعتبر المسلمين قد أخلـُّوا بإحدى شعائر الإسلام. وهناك من أفتى بأنّها فرض كفاية، وهناك من اعتبرها حتمية تاريخية (أجل تماما كالشيوعية عند ماركس)، وأن لا فائدة من سؤال "هل"، وإنما السّؤال هو "متى"؟ وربّما من أجل هؤلاء تحديدا أسوق هذا الحديث.

ذلك أنّ خطب الأئمة في الجوامع، وخطب الشيوخ من المنابر المقدّسة (قنوات التلفاز تحديدا) لهفت الناس لهفا، وأخذتهم عن التفكير في ما يسمعون، وحتى الأئمة أنفسهم، لا يكلـِّف أغلبهم نفسه مشقّة التساؤل، حتّى تغلب الأسطورةُ على الدّين. وللأسف، فقوة الأسطورة أساسا، أنها تجد في عقول العامّة مستقرّا متينا، فتنتشر الفكرة في أذهانهم كأنه مسلّم بها. ومن هذه الأفكار ما يروج عن الخلافة من حتميتها التاريخية و وجوبها الدينيّ.
لكنني هنا لا أطعن في أمرا ما قطعا، وإنما أسوق رأيا لا هو بالفتوى و لا بالاجتهاد، بناء على ما يقدّم لنا التاريخ من معلومات بعضها ثابت لا حاجة للطعن فيه (كسقوط الخلافة مثلا) وبعضها توثّق له الكتب بأخبار وأحاديث تستنزف العقل وتستخفّ بالمنطق. هدفي أن أدفع للتساؤل، والبحث والفهم، لأني أؤمن في دين يتماهى مع التاريخ ولا يخترقه.

لستُ من اخترع مذهب التّحقيق في التّاريخ المكتوب. إنّما أنتهج نهج العلاّمة عبد الرحمان بن خَلدون الذي قال في مقدّمته الشهيرة :  
"اِعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا. فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار. فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب و مطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد."

لذلك، فمن المهمّ دراسة النصّ، ودراسة سياقه، وفهم ربط هذا بذاك، حتى يتبيّن لنا المنطق الذي ينبني عليه الزمان، أو لا يتبيّن لنا ذلك، فللتاريخ في مثل هذه المسائل هيبته التي لا تردُّ و لا تترك.

(يمكن أن تبدأ من هنا)
 
وأبرز ما يقدّم له هؤلاء للدلالة على الخلافة، ذلك الحديث النبويّ الشهير، الذي أقدمه بالنص عن صحيح أحمد:

"
حدثنا سليمان بن داود الطيالسي حدثني داود بن إبراهيم الواسطي حدثني حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال كنا قعودا في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بشير رجلا يكف حديثه فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت قال حبيب فلما قام عمر بن عبد العزيز وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه فقلت له إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين يعني عمر بعد الملك العاض والجبرية فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه"

(
مسند أحمد » أول مسند الكوفيين » حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم)

 حتّى إنّ عبارة "ثم تكون خلافة"، من أدبيات الحركات الاسلامية ومسلماتها. لكنّك لا تقرأ عندهم كامل الرواية حتّى قوله "فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسرّ به و أعجبه" إلا نادرا. ذلك أن ما يهمّ هؤلاء الناس، هو قراءتهم هم. لا التاريخ كما هو.
أما التاريخ، فهو أن هذا الحديث سيق زمن خلافة عمر بن العزيز (الخليفة الأمويّ العادل) فاستدلّ (القائل) به أن قوله صلّى الله عليه و سلّم (لو قال ذلك فعلا) "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" كان يقصد به الخليفة الراشد الخامس، عمر بن عبد العزيز. ذلك أنّ الملك العاضّ والجبريةّ هم بنو أميّة (السفيانية والمروانية).
وأما قراءتهم، فهو اجتهاد الشيخ الألباني رحمه الله، الّذي صحّح الحديث (اجتهاده) واعتبر أن الملك الجبريّ لايزال قائما، وأن الخلافة الثانية على منهاج النبوة لم يعن بها "عمر بن عبد العزيز" وإنما لم تأت بعد.
هكذا ينزّلون الاجتهاد منزلة النص، ويحوّلون التأويل إلى تفسير واحد أوحد، لا يكتفون برفض ما عداه، إنما ينكرون على غيرهم فهمَ آخرٍ.

أما أنا، فسأتساءل ـ ببراءة ـ لِمَ لم يظهر هذا الحديث قبل عمر بن عبد العزيز؟ و لِم بدا كأنه قيل خصيصا لهذا الرجل دون غيره، فهو الذي عاد بالخلافة إلى منهاج النبوة حتما بعدما كان في المسلمين ملك عاضّ و جبريّ. أما السؤال الثاني فسيفتح الباب لأمر آخر يتجاوز قراءة الحديث: فلو سلّمنا بقراءة الألباني، فهذا يعني أحد الأمرين حتما: إما أن حُكم عمر بن عبد العزيز يعتبر ملكا عاضّا، وإما أنّ النبي صلّى الله عليه و سلم تغافل أو لم يعلم، أن بعد الملك الجبريّ سوف تعود الخلافة على منهاج النبوة زمنا، ثم يعود الملك العاضّ و الجبريّ ثم الخلافة على منهاج النبوة. و بين هذين الفرضيتين، فأنا أخيّر أن أرفض كلّ هذا المنطق. فعمر بن عبد العزيز هو الخليفة الراشد الخامس، شهد له بذلك أعداؤه وأحبابه، وأمّا الرسول صلى الله عليه و سلم، فما يخبّر عن أمر إلا وصدق. لكن، ماذا لو أن التأويل ليس وحده ما يجب إسقاطه؟

المعلوم أن الحديث ساقه أحمد في مسنده، ثم صححه الألباني. والظاهر أيضا أنه سيق حتى "يسرّ" به أمير المؤمنين حينئذ عمر بن عبد العزيز. فهل تراه اختلق اختلاقا؟

لنعد إلى الحديث، ولنتخيّل سياقه وما قد يترتّب عنه ـ منطقيا ـ من مواقف: 
يخبر صلى الله عليه وسلّم الناس عن النبوة، وهذا أمر معلوم لديهم، ثمّ يقول لهم بعد ذلك "ثمّ تكون خلافة على منهاج النبوّة" فإذا أخذنا القول عن "الخلافة" بمعناه الاصطلاحيّ كما يؤكد عليه الاخوة فإنني أستغربُ أنّ أحدا من الحاضرين عند رسول الله لم يسأل عن قصده بالخلافة، كأنّهم جميعا يعلمون ماهي. وحينما أستذكر ما أعلمه من التراث العربيّ، فإن الخلافة لم تُعرف قطّ، وعُرفت الإمارة و عُرف الملك، و عُرفت الوزارة (عن الفرس مثلا)، فهل من بيت من الشعر الجاهلي يذكر "الخلافة" مثلا؟
وإذا ما تجاوزنا الأمر، كأن مثلا، حدثهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل هذا الحديث عن "الخلافة" كأحد أركان الدين، فلِمَ لم تُذكر الخلافة في حادثة السقيفة؟

قد نجد رواياتٍ مختلفة لحادثة السقيفة، وهي على اختلافها لا تذكر أحدا تحدث عن "الخلافة"، أو سأل : "من الخليفة"، لكنّها في المقابل ذكرت مقترحات من قبيل "منّا أمير ومنكم أمير" و"مناّ أمير ومنكم وزير." وهي المصطلحات المتداولة.
فهل خالف الصحابة رضوان الله عليهم كلام رسول الله وخاضوا في الإمارة والوزارة؟ ولو أن الرسول حدثهم عن الخلافة، فلِمَ لم يسأله أحد عن "الخليفة" من بعده؟ بل إنّ نظام الحكم نفسه كان محلّ جدال أيضا، ومن الحاضرين من اقترح أميرين يتقاسمان السلطة. كان نظام الخلافة يتشكل حينئذ، ولو أن الرسول حدث الناس عن "الخلافة" لما تخاصم عليها اثنان. بل إن مصطلح "الخليفة" لم يجر على ألسنة العرب إلا بعد ذلك. فقد كان الناس ينادون أبابكر الصديق بـ"خليفة رسول الله"، ثم حينما جاء عمر، قيل له "خليفة خليفة رسول الله"، فكره عمر أن يستمرّ ذلك، فسمّى نفسه أميرا للمؤمنين، فهل كان عمر يفعل ذلك لو أنه عرف عن الرسول أنه سمّى صاحب الأمر من بعده بالـ"خلافة"؟

كلّ المؤشرات التاريخية، تدلّ أن "الخلافة" لم تُعرف كمصطلح يدلّ على نظام حكم قائم بذاته إلا بعد فترة طويلة من بداية "الخلافة" نفسها، وذلك حينما سلّم الجميع أنها الضامن لوحدة المسلمين، وأن من يملكها يرجع إليه أمر المسلمين جميعا، فغدا السؤال حينئذ : من الأحق "بالخلافة"؟ وهكذا عُرِّفت الخلافة، في سياق الخصام حولها.

المضحك في الأمر، أن هؤلاء لا يملكون تقريبا غير هذا الحديث الذي روي رواية واحدة، وآخر عن أن "الخلافة ثلاثون سنة" وهو لا يختلف عن السابق كثيرا، أو عودتهم إلى القرآن فأوَّلوا كل آية فيها لفظة "خليفة"، واعتبروها دليلا على الخلافة، كقوله تعالى "وإذ قال ربُّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة." و عنوا بذلك آدم عليه السلام. وأنا هنا أتساءل، إن وجبت الخلافة في الارض، وإن كان آدم عليه السلام هو "الخليفة" كما كان داود من بعده (بذات الفهم لقوله تعالى : يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض)، فلِم لم يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ـ هو أيضا ـ كان خليفة في الأرض؟

أعتقد أن الخلافة التي تحدث الله عنها في القرآن تتجاوز معناها الضيق الذي حصرناه ـ بعدما ظهرت الخلافة الاسلامية ـ لتحمل مفاهيم عدّة تخبرها عنها اللغة العربية. فالخلْفُ هو الوراءُ، ومن يخلفُ، هو من يأتي من وراء (أو من بعد) ليحل مكان الأول، وخليفة الله في الأرض يأخذ معنى مجازيا، ليعني أن الله صاحب الأمر الأصليّ، قدّم للانسان القدرة على الأمر والقرار في هذه الأرض. وخليفة رسول الله، هو من خلفه في إمامة المسلمين وأخذ القرار عنهم.
لذلك استخلف اللهُ آدم [و بنيه ] في الأرض. أما استخلاف داود، فدلالة على سعة ملكه. وتؤكد ذلك الآية 55 من سورة النور "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض". فالمؤمنون الذين عملوا الصالحات هم خلفاء الله في الأرض، ولا أعتقد هنا أن الله استأثر الملوك بالقدرة على الايمان وعمل الصالحات، إنما الناس عامة.

(الخلاصة، لو كنت تريد القول، من آخره)

وخلاصة الرأي، أن حديث الخلافة جاء في عصر بني أمية، الذي كثر فيه النّحل، فزيفت الفرقُ الأحاديث، ونحلت الأشعار، حتّى يجد كل منهم ما يحتجّ به على رأيه، وهي آراء في أغلبها سياسية. وقد تقدّم ذكر الغرض الأساسي من وراء الحديث. كما ذكرتُ كيفية استحالة أن يقول ذلك الرسول أمام الصحابة، دون يتبع عن ذلك أمور لم يروها التاريخ ولم تحصل. والسبب يرجع كالعادة، إلى سطحية هذه القراءات، وعدم براءة أغلبها. 

(ما بعد الخلاصة، فقط لإغاظة قوم آخرين)
لكنّني على كل هذا الحديث، قد أفاجئ الكثيرين بالقول، إنني لا أدين مؤسسة الخلافة بكل شرّ أصاب المسلمين كما يذهب إلى ذلك كثيرون اليوم. بل أنظر إليها كميزة حضارية وثقافية هامة. أنظر للخلافة أنها هارون الرشيد، والمأمون، وعبد الرحمان الناصر، وغيرهم. أنظر للخلافة كما ينظر بريطانيّ وقور (ولا أعني أنني وقور هنا) إلى الملكة فكتوريا والملك ريتشاد وغيرهم.

فللتاريخ سياق يُقرأ فيه، والتاريخ يقول إنّ الخلافة والملك أمران مختلفان. ففي الاسلام ظهرت الخلافة قبل الملك، ذلك أنّ أوّل من ورّث الحكم كان معاوية، ولم يفعل الخلفاء الراشدون ذلك. والخلافة أيضا، لا تعرف لها شرطا غير البيعة (وهي الأمر الوحيد الذي أخذ عن الرسول، ويمكن اعتباره أمرا شرعيا)، أي بيعة المسلمين، وهو ما تقرّ به كل نظم الحكم المعقولة اليوم، فعلى المحكوم أن يشهد بتوكيل أمره إلى الحاكم. عدا ذلك، فإن كل خليفة في فترة تكوّن مفهوم الخلافة، قد اجتهد في التأسيس لمؤسسات الحكم، وتقاليده، فأوصى أبو بكر بالخلافة لعمر مثلا، وهو ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم. بينما ارتأى عمر مثلا، أن يعقد مجلسا من الحكماء يتشاورون فيما بينهم، ويختارون خليفة لعمر. إذا فالاخذ بكل ذلك على أنه من جوهر الدين أو الشرع لهو برأي غريب لا أجد له تفسيرا ولا منطقا. ولنذكر أن هذا الاجتهاد كان في القرن السابع بعد الميلاد، حينما كان نظام الحكم المتداول في العالم لا يحمل غير معنى التملك التام والجبروت الأعظم، ولو وصلت لعمر بن الخطاب أدبيات الاغريق السياسية القديمة، لكان حديثنا اليوم مختلفا أيّما اختلاف.

إنّ الخلافة ميزة حضارية جميلة، لها مكانها في عصرنا، مثلما وجد اليابانيون مكانا لامبراطورهم. لكنّ العائق الأساسيّ، أن لا أحد ينظر إليها كما ينظر اليابانيون إلى تراثهم. فمنّا من ينظر إلى الخلافة كما تنظر القبائل البدائية إلى "التابو" الّذي يجب أن يظل كما هو، ولا يناقش أبدا. ومنّا من ينظر إليها كأن فكرة الخلافة هي بؤرة الفقر والتخلف والجهل. وهذا منطق يجيب التاريخ عنه بيسر وسهولة.
الخلافة ميزة حضارية جميلة، لكنها ليست حلا لمشاكل الأمة، بل إنها لن تتحقق إلا اذا حلّت مشاكل الأمة. هي نتيجة وليست سببا.
الخلافة ميزة حضارية جميلة، لكن حتما، ليس في وطن لا يزال خُمسه لا يفـقه القراءة والكتابة، ليس في وطن لا يعرف المواطن فيه حقوقه وواجباته، ليس في وطن لا يجد المواطن فيه كسرة خبز. إنّ لنا من الهموم ما يغنينا عن الالتفات إليها.
   

إن مصيبة هؤلاء القوم اليوم، هي المقابلة بين الديمقراطية والخلافة، كأنهما المقابلة بين الطاغوت والحق، ولا أدري ما كان هؤلاء فاعلين لو علموا أن مؤسسات الخلافة كالدواوين مثلا، أخذها عمر رضي الله عنه، عن الفرس المجوس.


الخليفة هارون الرشيد يستقبل رسل الملك شارلمان


Saturday, March 30, 2013

العاجز

من وحي أحداث مسيرة يوم الأرض..
_________________________________ 

مخيّلتي تضيق.. 
كانت الشعارات كثيرة.. فسيفساء من الاحلام و الشتائم.. الحزب و الحزب المعادي.. علم فلسطين يشرئبّ بعنقه علّ أحدا يراه.. 

دخل إلى حانة الفندق، و طالعه صوت الموسيقى الدافئة، ربّما يجد شيئا من الصخب الهادئ هنا، العاصفة لا تزال تزأر في رأسه، و هو يحبّ أن ينسى..

كانت وراءه أعلام المغرب، و كانت أمامه رايات الصحراء المغربية و كان هو يحمل شعارات عن الأرض المغتصبة.. حاول أن يتابع المسيرة بحنجرته المتحمّسة لكنّه ضاع وسط الهتافات.. لم يفهم تحديدا هل عليه أن يصرخ "الارض فلسطينية، و الصحراء مغربية" أم أن يصرخ "الصحراء و فلسطين، اراضي المظلومين" لذلك قرّر أن يبتعد قليلا..

جالسة هناك، تلاعبُ الموسيقى جسدَها فيستجيب تلميحا، بينما شفتاها لا تكفان عن الابتسام.. سرت رعشة خفيفة في جسده و هو يقبّل خدّها الغضّ.. و راح يتابع ما ترويه عيناها من حكايا...

فوجئ بصراخ من حوله، و حمّالة ألوية عجيبة يندفعون راكضين من ورائه.. قرأ على الألوية عبارة "الأحواز".. لماذا يركضون؟ هتف أحدهم أن انصار الخمينيّ في الخلف، و أن البوليس فرّق بينهم.. "الوطن العربي واحد، الشعب العربي واحد!".. قال لهم أحدهم أن يلتحقوا بالقوميين في الأمام.. 

عيناها تلمعان، جذل أم انتظار؟ جرع بقية كأسه لكنّ العطش لا يزال غالبا، فظل يحدق صامتا في شفتيها.. قالت له مبتسمة إنّه ـ على غير عادة الكتّاب ـ صموت، لكنّه لم يجد جوابا فلاذ بالصمت و مراقبة شفتيها..

سأله صديقه الفلسطينيّ عن الرايات الحمراء التي تحيط بهم، فأجابه إنهم النقابيون، و أتباعهم.. لماذا يصرخون تنديدا بتجار الدين؟ لم يجد اجابة مقنعة، قال انها ادبيّاتهم السياسية، فصرخت في وجهه امراة ثائرة أنهم مجتمع مدني و لا علاقة لهم بالاحزاب.. أراد أن يسألها لماذا لا يُجمع الكل على اسم فلسطين و ينسون خلافاتهم ليوم واحد؟ لكنّه خاف أن يُتّهم بالرجعية فلاذ بالفرار.. 

نسق الموسيقى يتسارع، و كذلك الخدر في جسده، مع ذلك لم يحس بانسجام كبير مع ما حوله.. راح يتأمل الوجوه الناعمة المنتعشة.. رائحة السلام و النسيان تغرق المكان.. شابان و امرأتان يتبادلون القبل في ما بينهم في استمتاع، عجوز تراقص سعادتَها و رضاها عن العالم.. قالت له احداهنّ "و كأنّك غريب عن هذا العالم." فابتسم ساخرا و أفرغ كأسا أخرى في جوفه، ثم هبّ راقصا.. 
كيف تغيرت الموسيقى الى فولكلور فلسطينيّ؟ لم يفهم.. لكنّه توقف عن الرقص.. راح يتابع راقصي الدبكة الذين نبتوا فجأة وسط المكان.. كان أغلبهم شُقرا، غربيّي الملامح.. أشاعوا جوا فلسطينيّا دافئا.. لماذا لا يواصل الرقص؟ كان عاجزا.. و كان مخيّلته تضيق..

قال له صديقه الفلسطينيّ إنّه كره الزحمة و الشعارات المستفزّة، و أنّه ربما عليهم أن يتقدّموا الى الامام قليلا.. هنا، أوقف المنظّمون تحرّك المسيرة، و هتف هاتف من وراء بوق لا يعمل أن مسيرتهم المظّفرة كبيرة و تبلغ العشرة آلاف شخص، و أنه يجب أن يتوقفوا ليتركوا "الغرباء" في التسللّ.. ردّد أحدهم هتافا عن الخونة "الاخوانجية".. فطار صواب رفيقه الفلسطينيّ و دعا الجميع الى الابتعاد عن جسم المسيرة.. مرّ مع صُحفيّة من بين أيدي المنظّمين المتشابكة، ثمّ استدار ليجد صديقَيه الفلسطينيينّ داخل الحاجز البشريّ.. كانت الفتاة الفلسطينيّة تهتف في غضب إنها لا تتبع أية مسيرة، و إنّها "قرفت" من الشعارات الحزبية التي لم تأت من أجلها، لكنّه واجه يدَها الرقيقة بيد حجرية آلمتها، لحسن الحظّ أن صديقه الفلسطينيّ لم يلحظ ذلك، امّا هو، فاندفع لتخليصها و هو يصرخ في المنظّم.. كان للمنظّم موقف وجيه من منع فلسطينيّة من التحرّك بحريّة في مسيرة تساند وطنها : لا يجب الاختلاط مع الرجعية.. موقف لم يكن يعنيها كثيرا..

حينما اقترب منتصف الليل، لعبت الخمر برأسه، فاسند رأسه إلى كتفها.. رسمت ابتسامتها الساحرة و هي تقول في غموض "هل تريد أن تنام حقا؟" لا يعرف، قال لها إنه يشعر بالعطش، كان بالفعل يشعر بالعطش، لكنها و قد لحظت ذوبان عينيه عند شفتيها القرمزيّتين، ضحكت و قالت له : الجمايلية عطاشى!" ثمّ أضافت :" ما الذي يروي عطشك؟" عيناها تكتبان أكثر من قدرته على القراءة.. عيناها تلمعان في جنون هادئ.. حينما تضيق المخيلة، يتداخل الخيال بالذاكرة.. يمتزج الماضي بالامل.. الكاذب.. عاودته صور الاحزاب المتشابكة على فلسطين في يوم الأرض.. ثمّ صورة شفتيه تدغدغان جسدها.. ركّز أيها الاحمق ركّز! لكنّ الصداع بدأ يعمل عمله.. أشياع صدام يهتفون ضدّ أشياع الخامنئ، اليسار يحذّر من الاخوان، و الاخوان يكبّرون في رضا، الناصريّون يرفضون مظاهرة ينظمها المنتدى المتحالف مع الصهيونية، أين فلسطين؟
كان عاجزا.. حينما ألصق شفتيه بشفتيها، كان لا يزال عاجزا.. "ماذا هناك؟" سألته في قلق.. حاول أن يجمّع جملتين، لكنّه قال كأنه يهذي "الأرض ليست خصبة.." .. عاودته الصور، فعاد يقبّلها.. لكنّ المخيلة كانت تضيق.. أحس بيدها فارتجف، لكنّها فهمت كلّ شيء.. الأرض ليست خصبة .. و هو عاجز عن الحب.. استأذن في الانصراف دونما عبارة..


Translate