Thursday, October 23, 2014

حيرة ناخب

أنظر إلى الساعة، تشير إلى يومين قبل الانتخابات، تذكرتُ أنني لا أعرفُ شيئا، أو أنني أعرف أكثر ممّا ينبغي، لماذا عليّ أن أنتخب أصلا؟ اللحظة تقترب، أنا لا أعرف شيئا، بل ربما أعرف أكثر ممّا ينبغي، أحزاب صغيرة، وجوه واعدة، الكتل الحزبية الكثيرة تشبه فقاقيه الصابون، و الخوف ممّا سيحدث مستقبلا، الكل يقرّر لنا، ماذا تخبئُ لنا أمريكا؟ هل أنا موبوء بمرض المؤامرات؟ ماذا عند صندوق النقد؟ و الإملاءات التي تزداد اجحاف كلما أضفتَ قرضا؟ من يطلب القروض؟ ماذا نريد؟ هل يجب أن ننتخب؟ على أساس سأنتخب؟ قائمات، أحزاب، رؤوس أموال، إيديولوجيات، قوى خارجية، رؤوس قائمات، تحالفات خفية و معلنة، 18 اكتوبر، 9 جانفي، 23 أكتوبر، هذه بلاد تقرر مصيرها في أول الخريف أو في أول الشتاء. يومان، كيف سأفكر؟ سأحاول أن أفكر..

1 ـ في أن المقاطعة ليست أفضل من الإنتخاب
أعتقد أنه يمكن حصر أسباب المقاطعة، فأوّلها عطن رائحة الطبقة السياسية كلها. الكثير من التونسيون باتوا يشمئزّون من السياسة، من كل ماهو سياسيّ، و ذلك بالنظر إلى رداءة المشهد السياسيّ عموما. حسن، الكلّ رديء فعلا، الكلّ منشغل في الصراع لأن أغلب السياسيين أمضوا حياتهم في الصراع ضد الأنظمة السابقة، هم أناس تعودوا على أن العمل السياسيّ هو صراع قبل كل شيء، و لعلّهم أناس جبلوا أصلا على الصراع و لا يجيدون البناء. الكلّ رديء لكنّ الرداءة أنواع، هذه الإنتخابات تخيّرك بأي الرداءة ستقبل، هل ستقبل بمنوال اقتصاديّ رديء؟ أم بتعامل رديء مع الحريات العامة؟ هل ستقبل برداءة المناخ الاجتماعيّ و اشتداد التفاوت بين الطبقات؟ أم ستقبل بوضاعة الحالة الأمنية و العيش في خوف دائم؟ في هذه أجدُني مضطرّا للاختيار، و هو اختيار أرحم قليلا من اختيار المدان طريقةَ موته، لو كنتَ مدانا، أسيان عندك الموتُ الرحيم و الموتُ حرقا؟
ثاني الأسباب هو عدم الدراية، أنا أيضا عزفتُ عن متابعة السياسيين منذ فترة، لا يمكنني معرفة كلّ كبيرة و صغيرة عن كل شخص و حزب، و لكن لو فكّرنا بمنطق اقصائيّ، فهناك الكثير من المرشّحين ممّن لا يحتجون إلى علم و دراية لاقصائهم. لا أحبّ أن أذكر أسماءً هنا، و لكن من ذا الذي يقبل بانتخاب شخص لا يكاد يجيد التعبير عن أفكاره؟ من ذا الذي يقبل بانتخاب شخص يعدكم ببيع الخبز بنصف ثمنه؟ هذه مسائل لا تحتاج إلى دراية كبيرة، و حينما تقصي الذي يستحيل أن تنتخبهم، ستبقى أمامك سبعة قائمات على الأكثر مهما كان توجهّك الفكريّ.
ثالث الأسباب هو أن النتيجة معروفة مسبقا، و أن هناك قوتان ستقتسمان الكعكة بفضل اتفاق قوى خارجية إلى غير ذلك، و أعتقد أن هذه أوهن الأسباب، فالغالب على الظنّ أن التزييف لن يحصل (إلا بمقدار ما سيحدث من انتهاكات معزولة هنا و هناك) و أن الدعم إن وجد (و أنا أؤمن بوجوده) فقد وجد قبل يوم الأحد، أموال، طرق عمل و مناهج لكسب الرأي العام، إعلام، حروب نفسية، تجييش المشاعر، الخ الخ.. ترسخت بالفعل فكرة أن الانتخابات بين شقين كبيرين و هل أنت معنا أم علينا التي هي ليست غريبة عن الذهنية التونسية، باتت الشعار الأكثر تداولا في صدور الناس. فهل المقاطعة هي من سيغير هذه المعادلة؟ أم المشاركة و انتخاب شق ثالث يفسد هذه المعادلة؟ أعتقد أن الأمر واضح.
السبب الرابع الذي عاينته، هو رفض المشاركة في المهزلة القادمة. في الواقع، المهزلة حاصلة شاركتَ أم لم تشارك، الفرق هنا، أن مشاركتك قد تعني تقليص حجم المهزلة، أما عدم مشاركتك فلن يعنيَ أنك لم تكون مسؤولا عنها. ثمّ ألا ترى من الأنانية أن تتجنب المشاركة فقط لتشعر أنك "على حق" ؟ أنك البطل الذي من حقّه أن ينتقد نتائج الانتخابات لأنه لم يكن موافقا عليها منذ البداية؟
يجب أن نفهم شيئا هنا، هذه الانتخابات، لن تكون الوحيدة التي ستحصل بهذا الشكل، كل ما سيأتي بعدها، انتخابات بالطريقة نفسها، و بالدستور نفسه، و بالقوى السياسية نفسها (تقريبا) و لو لم تشارك اليوم لهذه الأسباب، فأنت لن تشارك في غيرها لنفس الأسباب، و هذا يعني أنك ترفض هذه المحاولة الديمقراطية من أساسها. الانسان لا يولد كهلا.
سأفترض أيضا أن الجميع قرر المقاطعة، ماذا سيحصل حينئذ؟ تعاد الانتخابات؟ كيف تعاد؟ لماذا؟ كيف سيغير القانون الانتخابي؟ متى؟ ما وضعية المجلس التأسيسي الذي يفترض أن ينتهي بنهاية هذا الشهر؟ ما وضعية الدستور و ما شرعيته؟ من سيمسك البلاد و من يملك أصلا الشرعية لمسك البلاد حينئذ؟ حرب؟ سلاح؟ ليبيا؟ هل المقاطعة حقا أفضل من الانتخاب؟
تريد أن تعلن رفضك؟ تريد أن تظهر غضبك؟ ماذا عن الورقة البيضاء مثلا؟

2 ـ في طبيعة الانتخابات
أتحدث طبعا عن التشريعية، لأنها الأكثر تعقيدا. بالنسبة للانتخابات الرئيسية فهي تبدو سهلة، و مهما فعلت لتقنع الناس، فالمسألة لن تحيد عن فكرة : من هو (هي) الأفضل، من هو(هي) الأكثر مروءة (رجلة) لا غير. أما الانتخابات التشريعية، فنحن نتحدث عن قوائم انتخابية و قوائم مستقلة، و رؤوس أعمال، و أحزاب كثيرة كثيرة. كيف يكون الاختيار وسط هذه الفوضى؟ ربما وجب التأكد أولا من طبيعة الانتخابات.
الانتخابات التشريعية اليوم، تأتي لإنهاء المرحلة الانتقالية الثانية. الدستور موجود اليوم، و المسألة السياسية شبه محسومة، الحديث عن السياسة سيتقلّص شيئا فشيئا، خصوصا مع الحاجة الملحة للتونسيين، للانتقال بالخطاب إلى جوانب أخرى مهمة. مسائل مهمّة كثيرة في المرحلة السياسية لم تأخذ حقّها، مثل الهوية، و الحريات العامة، و حقوق الإنسان، و حتى العدالة الانتقالية غابت تماما عن المرحلة التي يفترض أن تهتم بها أساسا، لكنّ هذا اليوم لم يعد أولوية.
مهمة المجلس التشريعيّ القادم تتعلق بأمرين : تكوين حكومة مهمتها الرئيسية إطعامنا من جوع و تأميننا من الخوف، فنحن لا نزال نطلب هذين العنصرين البدائيين. و الأمر الثاني هو تشريع القوانين الإصلاحية طوال السنوات الخمس القادمة. إعادة هيكلة البلاد تقريبا.
أنت أيها الناخب، ستختار من يقرّر عنك هذين المسألين. ستختار من يصنع حكومة تركز على الأمن و الاقتصاد، و تختار من يكتب القوانين الاصلاحية الملائمة للبلاد.

شاءت الأحزاب و المجلس التأسيسي و خبراء الانتخابات و أصحاب السوابق و الخبرات، و السادة العظام أن يعتمدوا نظام انتخابات القوائم، مع احتساب أفضل البواقي بالنسبة للقوائم الخمسة الأولى. لا، لن نناقش النظام و مساوئه لأنه من الماضي، و لأننا لن نغيره قبل اربعة أيام من الانتخابات، لكن ربما علينا أن نفهم ماذا يعنيه هذا النظام، و ماذا يترتب عنه.
نظام القوائم يعني أن النتائج ستسيطر عليها الأحزاب، فالمستقلون لا يمكن أن يواجهوا الآلة الحزبية الضخمة. كم من مستقل وجد له مقعدا في المجلس التأسيسي ؟ نفر قليل، و أقلّ منهم أولئك الذين سينتخبهم الناس في هذه المرة. يصعب على المستقلين أيضا أن يقدموا مشاريع قوانين تستند إلى دراسات معمقة، ذلك أنهم لا يملكون الموارد البشرية الكافية لإعداد هذه الدراسات. المسألة دوما متعلقة بالموارد البشرية، العمل الجماعيّ أكثر نجاعة. ربما تجد من بين المستقلين صوتا نورانيا صادقا الخ الخ لكن هل النقاء وحده ينفع في مناقشة شروط القروض الدولية؟
نظام أكبر البواقي أيضا مهمّ، فهو يعطي شيئا من التفضيل لفكرة اقتسام المقعد بين عدد أكبر من القوائم، لكنّه ـ عكس انتخابات المجلس التأسيسي ـ عدد محدود أيضا، لأن المستفيد من أكبر البواقي في كل دائرة انتخابية لن يتجاوز الأحزاب الخمسة الاولى. لذلك، أعتقد أننا لن نجد أكثر من 10 أحزاب في المجلس التشريعي القائم، ربما خمسة من هذه الأحزاب لا يحصل مجموع مقاعدهم ال10% من العدد الجملي. لذلك نظام الانتخاب، يدعوك أن تفكر بالأحزاب العشرة الأكثر حضورا و شعبية (حتى لو كان أغلبها قذرا، اتفقنا على هذا) حتى لا يذهب صوتك سدى.

أخيرا، و هذا الأهم، فالانتخابات أيضا تقوم على الدوائر الانتخابية و هي دوائر جهوية، لذلك فالمرشحون لا يمثلون في البرلمان أحزابهم فقط، بل أيضا جهاتهم. لذلك يجب التفكير في كل هذه العوامل قبل الاختيار. الحزب أم الشخص؟ الجهة أم الوطن؟ التصويت المفيد أم التصويت العاطفيّ؟ التصويت على أساس البرامج أم على أساس الإيديولوجيا؟ الأسئلة لا تزال كثيرة!

3 ـ في التصويت للأحزاب أم للأشخاص
كما ذكرتُ سابقا، فإن العمل الفرديّ لا يمكنه أن يقدم أو يؤخر. شخص واحد لا يمكنه أن يقدم مشروع قانون متاكل ضافي الجودة. و شخص واحد لا يمكنه أن يضمن تمرير قانون بمفرده. العمل التشريعيّ ليس فرديا و لا يمكن أن يكون فرديا لذلك فالشخص الذي ستختاره سينضوي حتما تحت كتلة برلمانية لم تتكوّن قبل اختيارك و بذلك لن تعرف خياراتها و أفكارها و أهدافها. أما الحزب، فأنت تعرف مسبقا مبادئه و أفكاره و الشخص الذي ستنتخبه سيلتزم بتلك الأفكار و يمضي فيها خلال تصويته.
يلتزم؟ مهلا، هنا يجب أن نسترجع التجارب التي عرفناها في المجلس التأسيسي، العواصف الهوجاء التي تقتلع أعضاء الأحزاب و تلقي بهم في أحزاب أخرى. نواب كثر تسكعوا بين أحزاب كثيرة، و منهم من باع نفسه لمن يدفع أكثر، بعض الأحزاب لم تحصل على مقعد واحد، و لكنّها مع ذلك تضمّ أكثر من عضو في المجلس التأسيسي. هذه التجربة لا يجب أن تُنسى حينما نفكّر في الانتخاب. اختيار الحزب لا يجب أن يلغي قيمة من يمثّل ذلك الحزب. حينما تريد التصويت لحزب ما، فاُنظر أيضا إلى رئيس قائمته، أتراه يصلح أن يمثلك في المجلس؟ (أجل كلهم لا يصلحون، لكن أتراه أقلهم سوءا حقا؟) ما نسبة تأكدك من أنه لن يهجر الأفكار التي نادى بها حينما اخترته؟
النظر إلى رئيس القائمة مهمّ لسبب آخر، فالحزب الذي يعيّن رؤساء قوائمه، يفترض منه أن يقدّم أناسا من ذوي الكفاءة، أن يقدّم أفضل ما عنده من رصيد بشريّ لتلك الدائرة، و حينما تجد أن رئيس قائمة تلك الدائرة ليس مهمّا جدا داخل الحزب، فاعلم أن الحزب لا يركز كثيرا على دائرتك، ربما لا يرصد لها اهتماما تشريعيا في ما بعد، و ربما لا يملك عنها المعلومات الكافية ليهتم بها أصلا. بمعنى آخر، قيمة رئيسة القائمة داخل الحزب، تعكس جدّية هذا الحزب في دائرتك الانتخابية. لذلك فبالنسبة لي، الاختيار حزبيّ، و المعيار فرديّ.

4 - في التصويت للجهة أم للوطن
هناك من يختار الحزب الذي يقدم أفضل الخيارات الوطنية، و هناك من يحكم على الحزب الذي يقدم برنامجا جهويا واعدا. في الواقع المفارقة صعبة جدا هنا. أعتقد أن الخيارات الوطنية اليوم، محدودة بعض الشيء، الجميع يعرفها، و الجميع يتفق على عناوينها. أما التفاصيل فالواضح أنها غائبة عن خطابات الأحزاب. ناهيك أن انتخابات هذه المرحلة كما ذكرت، تتركز أساسا على التنمية الاقتصادية و توفير الاستقرار الأمني و السياسي. منوال التنمية الوطني لن يتغير على ما يبدو مهما كانت الجهة الحزبية الفائزة، لكن الاختلاف سيظهر في الجهات، في مشاريع الجهات و الأفكار المرصودة قبل الأموال. الوطن هو ما تكوّنه الجهات، لذلك فأنا أفضل نوابا يعرف كل منهم جهته فقط تمام المعرفة، على نواب يعرفون وطنهم معرفة عامة لا تغرق في التفاصيل. المسألة لن تكون صراع جهات أيضا، لأن الانتخابات سيكون بين أبناء الجهة الواحدة، من أفضل من يمثلها، من أفضل من يدافع عن المشاريع التي تليق بها؟ تلك هي المسألة.

5 - في التصويت المفيد
فكرة التصويت المفيد تحيلنا على حزب بعينه. و رغم أنني لا أحب الخوض في الأسماء حتى لا أؤثر على أحد، فإنّ هذه الفكرة تقترح منهجية للتصويت، لذلك لا يمكنني أن لا أفكر فيها و أنا أبحث عن حلّ لمن سأصوّت. ما جال ببالي أمران رئيسيان، و هنا سأفترض أنني شخص أريد أن أصوّت ضدّ حركة النهضة، سأتساءل مالفرق هنا بين أن يحصل حزب "ألف" على 30 مقعدا، و حزب "باء" على 20، و كلاهما خصمٌ للنهضة، و بين أن يحصل حزب "ألف" على 45 مقعدا و حزب "باء" على 5 مقاعد؟ الفرق في رأيي، أن الناخب سيخسر خصوصيات حزب "باء" التي هو فعلا مقتنع بها، في صالح الحزب "ألف" التي قد يتقاطع فيها مع حركة النهضة. بمعنى آخر، فتصويته كان مضرّا. الأمر الثاني يتعلق بالحسابات التي تثبت أن الأحزاب الكبيرة تستفيد أكثر من نظام أكبر البواقي. و أعتقد هنا أن المسألة لا تتعلق حقا بأكبر البواقي، فنظام القوائم يشجع على تعدد الاحزاب، و يقلص من هيمنة حزب واحد، و هنا يمكن أن نذكر أن الكثير من المقتنعين بحزب النهضة، صوّتوا للمؤتمر، ما جعله صاحب المرتبة الثانية في الانتخابات، بهذا المنطق، يمكن أن يفيد هؤلاء من وجود حزبين أو ثلاثة، مثلما يمكن أن يتضرروا من تشتت أصواتهم على أحزاب كثيرة. باختصار، التصويت المفيد ليس مفيدا لأن وجود حزب واحد، يشبه كثيرا وجود أحزاب كثيرة. بمعنى آخر، يمكن أن يكون التصويت مفيد، حينما يقتسم التصويت على حزبين أو ثلاثة.

6 - في التصويت على البرامج أم الإيديولوجيا
في هذه حسمتُ أمري منذ فترة، فالإيديولوجيا لا يمكن أن تناقش وسط التعصب، و نحن منذ ثلاث سنين، نعاني افراطا شديدا في التعصب و الشيطنة يجعل من الحوار أمرا مستحيلا، لذلك ألقيت بإيديولوجيتي جانبا و أنا أفكر فيمن سأصوت. سواء نجح الإخوان، أم اليساريون، أو التجمعيون أو حتى يسار الوسط، فالنمط الاقتصادي و الاجتماعي لا يمكن أن يتغيرا كثيرا في السنوات القادمة. مهما كانت الجهة الفائزة، فالنمط الاقتصادي سيظل شبه رأسماليّ، يعتمد على المؤسسات الصغرى و المتوسطة، و يعتمد على الاستثمار الاجنبي و السياحة، مع بعض الدعم للفئات المتوسطة، و المنوال المجتمعي، سيظل ذلك الذي اتفق عليه القوم في الدستور. حتما كل سيحاول الجذب قليلا إلى جهته، لكنّ هذه التفاصيل على أهميتها لن تكون بقدر قيمة أن يجد المرء أناسا قادرين على التنفيذ، قادرين على الانجاز. أنا مستعدّ لأن أختار من يحمل كل الايديولوجيات التي اكره، لو كان هذا الشخص يحمل من الأفكار و المهارة ما يمكنه أن يوفر للوطن استحقاقاته القادمة. و أن يعدّ البرامج التي تليق.

7 - في البحث عن المصطفى
و لا أتحدث هنا عن سيد الخلق صلى الله عليه و سلم، و إنما أتحدث عن الحزب / الشخص الذي سأسطفيه ليمثلني، عن القائمة المناسبة. إنني أعرف خياراتي، لكن كيف أعرف أي المرشحين أنسب لها؟
عليّ أن أكون بسيطا و مختصرا للطرق و المسافات، طريقة الاقصاء جيّدة جدا، حينما تقصي القوائم التي لا تصلح في حدّ ذاتها أن تمثّل في المجلس (بعيدا عن خياراتك) فلن تبقى لك إلا القوائم الممكنة، و سيكون عددها محدودا جدا. و كما قال دُويْل على لسان هولمز : لو استبعدنا المستحيلات، فستبقى الحقيقة مهما كانت غريبة. و أعتقد أنك ستجد نفسك في النهاية أمام شيء غريب فعلا.
أهمّ عنصر أعتمده في الإقصاء هو الجديّة، قائمة ليست جادة، لا تعنيني، يمكن أن تلمس الجدية في أشياء عديدة، بداية باسم القائمة (قائمة البؤساء)، مرورا بمعلّقة القائمة (صور رديئة، تصميم سوقيّ أو بدائي أو يفتقر للذوق). أحقا يمكن أن يحكم المرء على "تفاصيل ثانوية" كهذه؟ في الواقع هذه ليست تفاصيل ثانوية. إن تواصل القائمات مع المواطن يتمّ في الأساس عبر أداتين رئيسيّتين، الأولى هذه المعلقات و الثانية هي الدقائق الثلاث التي تقدم كل قائمة فيها نفسها على شاشة التلفاز. و لأن أصحاب القوائم يعرفون أن هذين الآليتين هما أهم ما يتاح لهم للتواصل، فهم يدركون قيمتهما و يدركون قيمة الإعداد الجيّد لهما. بمعنى آخر، غدا في مجلس نواب الشعب، سوف ينتقي نائبك كلماتك مثلما انتقى تصميم معلقته، و سوف يقترف في خطاباته لاقناع زملائه ما يقترف أمامك اليوم على شاشة التلفاز من أخطاء، و سوف يستنبط الأفكار و المشاريع بنفس الروح التي استنبط بها خطابه القصير، و سوف يتعامل مع خبراء في الاقتصاد و الاجتماع و غير ذلك، في قيمة الخبراء الذي استعملهم لاعداد معلقاته و نشرياته.. لذلك كلّه اُنظر جيّدا إلى المعلقات، و استمع جيدا إلى كلمة الدقائق الثلاث.

8 - في الوعود الانتخابية
الجميع يعد، ما يجعل من الوعود الانتخابية أمرا مضحكا، و تهريجا سخيفا. كيف يمكن الاستفادة مع ذلك من الوعود الانتخابية؟ الوعود أيضا تعكس جدّية المترشحين. حينما يعدك أحدهم بخبز بنصف ثمنه، فمكانه الأنسب مشفى المجانين لا مجلس الشعب. و حينما لا يتقدم أحدهم بوعود للجهة التي يترشح عنها، فهو شخص لا يملك أفكارا، حتى لو قدم لك جردا كاملا بكل مشاكل جهتك، فلا تهتم له. لأن النائب مطالب بايجاد حلول لا بجرد المشاكل [فقط]. أما عرض الحلول، فتكمن جديتها في منطقيتها أولا، و ثانيا و خصوصا، في تميزها عن الآخرين، في اقتراحه لما لم يقترحه الآخرون، فهو في ذلك يعكس بحثا ذاتيا جادا حول مشاكل منطقتك، عوض الاكتفاء بتقليد الآخرين و عرض نفس مقترحاتهم.

اختصارا، الطبقة السياسية سيئة، و من سننتخبهم اليوم، لن يمثلوا الحلّ، لكنّهم خطوة للأمام، لا نملك خيارا أفضل منها، فالأفضل أن نخفف من الأضرار و أن ننتخب عوض أن لا نفعل. يمكن ممارسة سياسة الاستبعاد، استبعاد المستحيل، لترك الممكن مهما بلغت مرارته. يمكن الاستفادة هنا من وضعية الاحزاب و اختيار الاحزاب الأكثر قوة لتبقى في السباق لو خفت من تفرق الأصوات، هذا ليس قط ترجمة لفكرة الانتخاب المفيد التي دعت إليها بعض الأحزاب. تخلّص من الإيديولوجيا و خمم في الركيزتين الأساسيتين اللتين تمثلان المرحلة القادمة : الأمن و الإقتصاد. ابحث عن الأطراف الأكثر جدّية في هذين المسألتين. كن جهويا هذه المرة، لأنك و ان انتخبت برامجا حزبية، فأنت أيضا تنتخب أناسا يمكن أن يتنقلوا بين الأحزاب، و أنت تنتخب برامج جهوية، فالمسألة الاقتصادية مسألة جهوية بالأساس. أنظر ممّن بقي في سباق خياراتك من هو الأكثر جدية عبر التطلع إلى مقترحاته و حلوله و عبر طريقة تقديمه لنفسه (معلقات، خطاب). غمّس اصبعك في الأزرق و لا تندم، فمهما كان اختيارك خاطئا، فقد كانت نيتك سليمة، و لسوف نتعلم يوما.



23 تِشرين 2014

Friday, September 26, 2014

حديث الجميلة و الوحش

حديث الجميلة و الوحش سهل قصير، كلما شددتَه و ضغطت عليه، انكمش أكثر و غاص في نفسه حتى لا يبدر منه غير وجه الجميلة و زمجرة الوحش، و كلاهما كافيان لتبيّن كل ما في الحكاية من نفاق توارثه الأوّلون. لكنّك لو تمعّنت فيه و أخذت تلوك عناصره لاتسعت رقعة الكلام، و لعلمتَ منه ما لم تعلم. ففي القراءة فنّ يقارب في إبداعه فنّ الكتابة، حتّى إنني لا أملك أن أحدّد طبيعة هذا القول، إن كان قراءة أم كتابة، لكنّه في كلّ حال، لا يحترم قواعد الكتابة و لا يكترث لمنطق القراءة، فلا تنشغلوا ببنية القول و لا تبحثوا عن خصائصه، و كفاكم التّفكّر، فبعضُ البناء أثمنُ و أنفسُ إن تقوّضَ، و بعض الـ...
"هدوءا يا سادة!"
أطلق ديزني Disney هتافه المرح، و راح يتأمّل كتّابه البارعين في رضا و حماس. هؤلاء هم من صنعوا بأفكارهم و عرقهم اِمبراطوريته التي لا تغيب عنها ضحكة الأطفال، هؤلاء هم كنزه الذي جعل منه أيقونة سيحفظها التاريخ. فتل شاربه الرفيع و قال بوداعته الأسطورية : لا أريد بداية أدبية عميقة أو باردة. لا أريد بداية مخيفة كتلك التي قدمتها الكونتيسة دي بومون De Beaumont. أريد شيئا يدخل البهجة على قلوب الصغار. أريد ألوانا زاهية كثيرة، و موسيقى. أجل! أريد موسيقى! ما رأيكم بغنائية نقدّم بها سياق القصة؟


و الحقيقة أن الحياة التي تحياها الجميلة في قريتها الصغيرة لا تليق أبدا بغنائية كتلك التي في مخيلة الرجل. إنّنا نتحدث عن قرية نائية في منطقة الروشيل La Rochelle في القرن الثامن عشر، حينها باتت الثورة التي غيّرت وجه العالم على مشارف سنوات قليلة. فهل لكم أن تتخيّلوا حجم عذابات فتاة جميلة وسط عالم كهذا؟ لا تفعلوا، اُتركوني أرسم لكم ذلك.

حسنٌ، لنبدأ بوالدها. لم يكن الرجل سيئا جدا معها. ربما كان يفضل ولدا يساعده في ورشة النجارة، لكنّه قنع بتكفّلها بتلك المهام الثانوية البسيطة التي ترفع عنه الحرج و تمكّنه من شيء من الوقت. و بينما تشرف الفتاة الصغيرة على الطبخ و الكنس و الغسيل و البستنة و قتل الفئران و الأفاعي و صيانة الأبواب و التزويق و طرد المتسوّلين، ينشغل الأب بالمهمة الأكثر صعوبة : مزاولة مهنته في ورشته و الحصول على المال. لكنّه مع ذلك صابر و تجلّد و اكتفى بما تقوم به الفتاة ريثما يحين وقت المهمّة الأعظم : الزواج.
و لأنه امرؤ يقدّر المقادير فيصيب، فلقد عرف أن ابنته ليست بطنا وجب التخلّص منه عند أقرب خاطب، و إنما هي بذرة تبشّر بصفقة قد تغيّر حياته. و قرّر الرجل لذلك عدم التفريط في ابنته إلا لو طرق بابه ثريّ حقيقيّ. إن هذا الجمال الذي يتشكل أمامه كنز ثمين، و إنه سيغامر بالانتظار و لو لسنوات من أجل حلمه. الناس يتكلّمون؟ ومتى لم يفعلوا ذلك؟

الناسُ ثانيَ عذابات الجميلة. تمنحهم ابتساماتها العذبة، و تحيتها الطفولية الخجول، و طيفها الرشيق كنطّ الغزال، تسحب ستائر الليل عن طرقات القرية و ترسم في أركانها نسائم الصباح الأولى، فيسارع الرجال في الخروج إلى أعمالهم طمعا في صوتها، أو صورتها، أو ريحتها التي تشي بمرورها. يمتنّون للحياة التي منحتهم كلّ ذلك سرّا في قلوبهم، و تمطّ نساؤهم شفاههنّ في حنق و حقد. و ما إن يذوب آخر عبق للفتاة في المكان، حتّى تحلّ الشياطين محلّها، و تشرع في عملها في قلوب البشر. إشاعات، أقاويل، حكايات تتنافس أيها الأكثر هولا.. كلّ رجل من هؤلاء يتمنّى لنفسه الجميلة، و يعلم علم اليقين أنه لن يظفر بها إلا في أحلام اليقظة، (ففي الليل زوجة قد تكشف أمره)، و كلّ رجل من هؤلاء يعلن أنه لا يرغب في الجميلة و أن ما خفي وراء مظهرها الجميل ما يروّع المؤمن من أمثالهم. إنها القصة نفسها التي تتكرّر منذ عصر هيلانة.
تتسابق النساء في احصاء عيوب جسمها، و يتسابق الشباب في حفظ تضاريسه. بينما راح الرجال يتراهنون حول ذلك الذي سيظفر بها. كانت المراهنات ترجّح كفّة "غاستون" Gaston زينة شباب القرية. و كان "غاستون" ثالث عذابات الجميلة.

"من هو غاستون يا سيّدي؟"
تلقّى ديزني السؤال من أحد عباقرته فلم يفهمه، نظر إليه مستفسرا فأضاف موضّحا :
"لا أجد غاستون هذا في القصة الأصلية، من تراه يكون؟"
"غاستون هو فكرتي عن شرير هذه القصة. تعرفون أن الوحش هنا هو البطل، لذلك يجب أن نقدّم نقيضا للبطل، يحاربه و ينتصر عليه." 
"لكنّ البطل هو الجميلة هنا يا سيدي"
"البطل هو من يقرّره دافع راتبك يا فتى، الجميلة هي الشخصية التي ستتماهى معها الفتيات الصغيرات، الوحش و غاستون هما الآخر الذي سيتعلّمن كيف يحكمن عليه. هذا هو الدرس الخالد. لا يجب الحكم على المظاهر. إذا غاستون سيكون نقيض الوحش حتى نقدّم المثال المعاكس."
كان ديزني بليغا، و دقيقا شأن كلّ الأمريكيين، و حينما رسم غاستون، لم يبدُ بين وسامته فرق كبير مع هرقل سليل الآلهة، كان وسيما، قويّا، فارع الطول، نافر العضلات، في عينيه ذكاء و غرور لا ينطفئان، و في قلبه تعلّق شديد بالجميلة لا يجهله إلا غريب عن القرية. الجميلة هبة غاستون. هكذا كان الجميع يعتقد. كلاهما جدير بالآخر، كلاهما يليق به. و صار القران مسألة وقت فحسب. و لأنّ العمر أخذ يتقدّم بالجميلة، فلقد كثر الهمس، و اختلفت التأويلات. كانوا يلحظون حيل الفتى للتقرّب منها. حيل خائبة، لكنّها صادقة تفضح رغبته القويّة. و لم يشكَّ أحدهم أن أمرا ما غريبا يدور بعقل الفتاة. في الحقيقة، كان ما يدور بعقلها آخر عذاباتها و أشدّها وطأة على نفسها.
تقول ابنة النجّار لنفسها إن غاستون على ذكائه جاهل لا يكاد يجيد قراءة اسمه، و إن شغفه بالكتب مثل شغفها هي بلعبة البايسبول. هي لا تعرف لعبة البايسبول لأنه لا وجود لها في تلك الفترة، و لكن من قال إن غاستون يشعر بوجود شيء اسمه الكتب؟ لسائل أن يسأل عن قيمة أن يكون العريس مثقّفا حين تكون العروس فتاة ريفيّة مغلوبة على أمرها. و لكن لو أنّه اطّلع على مكامن قلبها لأدرك أنّ الكتاب حجة واهية، و أنه صورة معقلنة تقنع بها نفسها ليس إلاّ. فللنساء غريزة أكثر عمقا و أكثر تجرّدا تتجاوز سطحية العقل و حِجاجه الساذج. 
هكذا بحدس نقيّ تعرف أن غاستون ليس الرجل الذي يريده جسدها. اُنظري يا جميلةُ لهذا الصيّاد الوسيم. أيبدو شرسا؟ أيبدو فحلا حقيقيا؟ أليس فيه شيء من رقّة النساء و رهافتهنّ؟ أهذان الذراعان خشنان بما يكفي ليسريَ خدر الحب في جسدك الغضّ؟ كلاّ إنه غير كاف.. كانت كلّما تخيّلت نفسها بين ذراعيه، أحست بنقص لا يمكن إشباعه، و لا يمكن تفسيره، لكنّ الكتب تقول : حدس النساء لا يخيب!

كذلك حاولت الجميلةُ أن تتجنّب الصياد العاشق ما استطاعت، و كذلك حاولت أن تقنع والدها بأن غاستون لا يليق بها، و من حسن حظّها أن والدها يشاطرها الرأي و إن اختلفت الأسباب.
لكنّ حياة المرء في جماعة صغيرة كحياة الولد الصغير في عائلته. ترف الحريّة فيها ضيق و عسير، و الجميع له عندك حقٌّ. يقول بن خَلدون : كلّما قلَّ أفرادُ المجموعة، كلّما اشتدّت لحمتهم و تقاربت نفوسهم و سرت كلمة الغلبة فيهم سريان الحكم الذي لا يُرجع فيه. رأيتُ القولة على صفحات الفايسبوك، لذلك فهي حتما صحيحةٌ..
أما أهل القرية فما كان همسهم ليتجاوز حدوده، و الوشاةُ كثرٌ يتسابقون لنيلِ رضا الصيّاد المتجبّرِ، و كذلك الوشاةُ في كلّ زمن. لكن ما كان ذلك ليخفى على الأب كليمان Clément و الاعترافات تأتيه من كل ركن من القرية. يقوم الأبُ في ذلك الزمن، بوظيفة المشرف العام على قاعدة بيانات فايسبوك في عالمنا الحاضر، حيث تتجمّع عنده أسرار الخلق و فضائحهم، و يكتفي هو بالربط المحكم بين شظايا الكلام و التنسيق بينها ليجد أمامه قصة العالم بأدق تفاصيلها.. هو الآن ـ أعني الأب لا المشرف ـ يعرف أن الموضوع قد زاد عن حدّه و أن عائلات هنا و هناك قد تتفكّكُ بسبب تهافت الناس على الفتاة و انشغالهم بها. إن من شاهد فيلم "مالينا" الشهير، يعرف عمّ أتحدث جيدا.

"يجب أن تتزوّج الجميلة"
قال ذلك لوالدها في لهجة تقريريّة لا تدعو إلى النقاش. هل إنّ الأب كليمان هو من يسطّر قيم القرية؟ أم إنّه واجهة بشريّة للقيم التي سطّرتها القرية لنفسها؟ يبدو السؤال مربكا، لكنّ ارتباك والد الجميلة كان لسبب آخر تماما. في النهاية قرّر أن يصارح الأب برؤيته الطموح.
"إنّ العيب يا أبانا، أن نلقيَ بهبة الربّ على قارعة الطريق. لقد تعبتُ في تربية الفتاة و ها أنت ترى كيف أينعت، أفلا أجازى بخير من الصياد؟ و هل أرض الربّ إلا هذه القرية الفقيرة؟"
كلماته الماكرة وجدت لها طريقا سهلا إلى قلب القسّ، من قال إنّ التلاعب بالكلمات لا يحدث إلا في الاتجاه المعاكس؟ فكّر الأب كليمان قليلا، قبل أن يقول في تردّد :
"يقال إنّ في تخوم الغابة قصرا عظيما لا تعرف نهايته، فيه مخلوق رهيب، لا يبرح مكانه قطّ، لكنّ ماله كثير و الأهمّ من ذلك أنه لا يلقي لكثرة ماله بالا. قد يدفع بسخاء من أجل أن لا يظلّ وحيدا."
فكر والد الجميلة طويلا، إن القسّ يعرض عليه نفي ابنته تماما، ربما هو يقترح عليه إعدامها مقابل المال.
"إنّه قدرُها يا بنيّ، و عليها أن تواجه أقدارها."
لا يعرف الكثيرون دور الأب كليمان في لقاء الجميلة و الوحش، ربما لأنّ مقصّ الرقابة قام بهمّته في زمن لايزال للكنيسة فيها بعض هيبة، أما في نسخ القرن العشرين..
"لحظة يا سادة! اسمحوا لي أن أذكّركم أنني أقدّم قصة أطفال بهيجة. "أوكاي" شيطنة رجال الدين أمر جميل و لكن لا داعيَ له هنا. فكرة أن يبيع الأبُ ابنتَه ستجعل الأطفال مروّعين من آبائهم و ستسبّب لهم عقدا نفسيّة، أنا هنا للتسلية فحسب."
"ماذا نفعل إذا؟"
"أنتم خبراء في تصوير لعبة الحظ، تفعلون ذلك دائما مع توم و جيري، 'كومووون'! اجلبوا ليَ الجميلة إلى منزل الوحش!"

و قبل أن يبدأ الرجالُ عملهم الدقيق، استطرد ديزني قائلا :"لحظة واحدة، ربما كان عليّ أن أبديَ هذا منذ البداية، لكنّني تردّدت طويلا قبل أن أحسم أمري. شكل الجميلة لا يروق لي كثيرا يا سادة. أوكاي، للفرنسيّين فكرتهم الغريبة عن الجمال، خصوصا في القرن الثامن عشر، ربما يعود ذلك للأجبان الكثيرة التي يقبلون عليها، لكنّنا سنجري تعديلات بسيطة، لا داعي لأن يكون جسمها ممتلئا بهذا الشكل المبتذل، ثم إنّ فيه مفاتنا لا تليق بقصص الأطفال. أريدها أكثر نحافة، و طولا."
والت ديزني ذكيٌّ و يعرف نواميس متعة الإستهلاك المرئيّ. و معه، تتحول الريفيّة الفرنسية الجميلة، إلى فتاة أنيقة أقرب إلى إليزابيث تايلور، ملهمة هوليود التاريخية. فكّر أن يسحب منها كتابها الذي تصرّ على اصطحابه دائما لكنّه لاقى معارضة كبيرة من فريقه. مشكلة الكتب أنها تنافسه في تقديم المتعة للأطفال، و من العيب أن يقدم لها إشهارا مجانيا، بل هي الرذالة بعينها من منطق رأسماليّ. لكنّه كليبراليّ عريق، يحترم الديمقراطية مثلما يحترم الرأسمالية.

تبدو الجميلة الآن أكثر تألّقا و اندفاعا و تحرّرا. و بدا من الصعب إخضاعها لنواميس القرية، لذلك تلعب الصدفة لعبتها الخالدة، ليجدَ والدُها نفسه سجين الوحش، بينما يلوذ حصانه بالفرار حتّى إذا بلغ منزل سيده، كان دالّة الجميلة إلى قصر الوحش المهيب. و تدخل الفتاة في شجاعة نادرة إلى القصر الذي بدا مهجورا، و مسحورا، حتى تنتهيَ بها المغامرة إلى الالتقاء بأبيها و من ورائه سيد القصر المخيف. و ما يهمّنا من هذا القسم من الحكاية إلا تلك المقايضة الشنيعة و الغريبة التي قدّمها ديزني ببرودة القتلة. و إذا بالأب المنكسر الحزين يترك ابنته الجميلة الغضّة بين يديْ الوحش و يلوذ بالفرار. هل رأى أحدكم بربريّة مثل هذه؟ إنّ فكرة بيع الفتاة لتبدو فكرة طبيعية أمام هذا المشهد المقزّز، بل إن فكرة بيع الفتاة للوحش كانت أساس القصة الأصلية التي قدمتها دو فيلنوف De Villeneuve. و منذ أن كنّا أمام صرخة امرأة في وجه رجال يقرّرون عنها مصائرها، إذا بنا أمام صورة لا إنسانية للحبّ تعشّش في قلوب أطفالنا، صورة يتشبّث فيها الهرِمُ بالحياة مقابل أن يكون الشابُ فيها قربانا. هل تذكّركم هذه المقابلة بمكان ما من الأرض عزيز؟ ليس ذلك موضوعنا على أية حال..
ميزة الثقافة الأمريكية أنها تتجاوز الصورة الفجّة البدائية التي تجزع لها النفوس البسيطة، ذلك أنها تحتاج إلى خيال مفرط لتبيّن هولها. مشهد رأس مقطوعة مثلا، هو مشهد مرعب و لا يحتاج المرء أمامه إلى الكثير من الشعيرات العصبية ليتبيّن ذلك. أما رئيس شركة أدوية عالمية، فهو ببدلته الأنيقة و كلامه المنمّق الرقيق، و كومة شهائده المعترف بها في كل شبر من الأرض، يحجب عن أذهان البسطاء قائمة الأوبئة التي أطلق عقالها لتحصد آلاف الأرواح في بلاد الجهل و الفقر. إننا سنظهر تقديرا كبيرا لقائد مقاتلة لا نعرف كم أطلقت من قنبلة عنقودية أو فسفورية على الأرض و البشر، ربما يعتبره بعضنا رمزا لتقدّم الإنسان و تفوّقه، بينما نتخلع قلوبنا لرؤية ذلك الذي يمارس بأيديه ما يمارسه الطيّار بضغطة زرّ، و إن كان الثاني أكثر دقّة و أقل فتكا بالأرض و الطبيعة..
هكذا يتخلّى الوالد المحبّ المسكين بقلب محترق عن ابنته من أجل أن يعيش هو، و هكذا تبدأ حياة الجميلة في قصر الوحش..

خصّص المخرج الفذّ قاعة مكتبة ضخمة في قصر الوحش، كلّفت المنتج ثروة صغيرة، و رغم تذمّر ديزني في البداية من تعلّق الجميلة بالكتب، فلقد وجد في النهاية أنها طريقة مناسبة لإثارة اهتمام الجميلة بشخصية الوحش. إنه على عكس "غاستون" مثقّف و يقرأ الكتب. هل يعني ذلك أنها تمضي الوقت في الحديث عن كلام الأولين و مناقشة مقالة المنهج؟ كلاّ، و لكنّ أغلب النساء يحبّذن حَملة الكتب مثلما يحبّذن الزمرّد أو حقائب اليد شانيل Chanel. هل شعُر أحدكم أن الوحش يملك شيئا من الحكمة أو الثقافة؟ كان دوما منفعلا، متوثّبا، حانقا، صارخا، ساخطا، لم تعلّمه مكتبته الضخمة فنّ التعامل مع النساء و لا علّمته الزهد فيهنّ، بينما الجميلة العميقة الفهم، تلك التي لا تنظر قط إلى ظواهر الأمور، لا تلحظ ذلك. يكفي أن يملك الرجل مكتبة ضخمة حتى تؤمن أنه يهتمّ للقراءة و يمارسها. لا توجد مظاهر هنا أبدا!


لكنّ المتمعّن في حقائق الأمور و بواطنها يعرف أن مشاعر الجميلة أعقد مما يبدو بكثير. من الطبيعيّ أن الخوفَ كان مسيطرا على الفتاة المسكينة، بالأمس كانت تفكر بأمر كعكة التوت البريّ التي تحاول تعلّم طبخها، و اليوم هي بين يدي وحش رهيب يملك أن يجعل من جسدها كعكة التوت البريّ إياها. كانت خائفة و إن لم تبدِ جزعا، و كان خوفها يعود إلى جهلها لما ينتظرها. إن المجهول هو كلّ ما يخاف منه الإنسان في النهاية، الليل البهيمُ، الحشرات التي لا نقدر على تبيّن ملامحها أو التنبؤ بسلوكاتها، ذواتُنا..
و مع بداية تغيّر سلوك الوحش، و محاولاته الفاشلة أن يبدوَ على شيء من التحضّر، بدأت الجميلة تألف فكرة وجودها في ضيافته الإجبارية، و بدأت تكتشف في نفسها أشياء ما كانت لتعرفها من قبل. فالرجفة الخفيفة التي تهزّ جسدها حينما تسمع زمجرته، لم تكن رجفة خوف، و ذلك التموّج الصاخب بداخلها كلما تخيلت قدرات الوحش الكامنة وراء هدوئه المصطنع، ليس نتاج التهيب من الخطر. و لمّا جاءت اللحظة التي تلقفها فيها و هي تسقط من سلّم المكتبة، أدركت أن الحرارة المنبعثة من جسدها لها علاقة وطيدة بهرموناتها. إن مارد الحبّ فيها يتكاسل مستعدا للنشاط، و هي لا تزال مصدومة، فلتلذ بغرفتها!
أمضت الفتاة فترة عصيبة تحاول فيها تجنّب الوحش قدر الإمكان، فازداد هو حنقا و يأسا. أنتم تعرفون أن الجميلة كانت فرصته الأخيرة ليعود بشريّا. هذه هي الضيفة الأولى التي لا تبدي ذعرا حقيقيا لرؤيته، و كان أمله في اقناعها يتعاظم في كل يوم جديد، قبل أن تقرّر تجنّبه. هل يحبها؟ سؤال خبيث جدا تحاشاه جميع الرواة، فالمقصد من حجز الجميلة عنده، هو أن يعود بشريّا من جديد. فهو يحتفظ بذاكرته، و وعيه كبني آدم، و ذكائه و كل قدراته، بل لقد ازداد قوة و صلابة و شراسة. فما ذلك الذي يبحث عنه في بشريّته؟ صورته الجميلة مثلا؟ لاحظوا أن الرجل لا يزال يحتفظ بذائقته الجمالية الانسانية.. لا، لا تظنّوا بالرجل الظنون، فلقد تعلّم الدرس بعد كل هذه السنين، و بفضل عقوبة الساحرة العجوز، فَهِم أن المظاهر لا تعني شيئا أبدا!

لكنّ سيد القصر كان حقا عديم الفهم بأمر النساء، و ما كان ليفهم سرّ نفور الفتاة و قد بدا أنها تألفه و تهتمّ لأمره. لقد اقتحم الحب قلب الجميلة كأسوإ ما يكون الاقتحام، و فرض عليها من الأسماء أعجبها و أغربها. و إذا بها في شراك هوى مسخ يجزع المرء لمجرّد التطلع إلى سحنته. ماذا دهاها؟ و ماذا ولّد الحب فيها؟ هي التي رفضت أعزّ الرجال مكانة و أحسنهم خَلقا، ماذا وجدت في هذا الرجل مما لم تجده في الرجال؟ أهي عقوبة من الربّ على غطرستها؟ و هل كان لها الخيار؟ ما كان ذنبها إذا وجدت في الصياد رقة لا تليق بالرجال؟ و هل أعجبتك هيئة الوحش الشرسة يا جميلة؟ فوجئت بارتفاع حرارتها و هي تفكر في ذلك السؤال. تلك الزمجرة الخافتة التي تخفي قوة رهيبة، و تلك اليدان اللتان انتشلتاها كأنها لعبة صغيرة.. ابتلعت ريقها و هي تحسّ بشيء ينهش داخل جسدِها. إنها تذوب عشقا في مخلوق لا يشبه البشر، فمن عرف شذوذا مثل شذوذها؟

كانت لا تزال تحاول تجنب الوحش لأنها لا تزال مصدومة من مشاعرها، و تخشى أن تسيء التصرّف فتندم بعد ذلك كثيرا، لكنّ عينيها لا تنفكان تراقبان في هيام و اهتمام حبيبها الغريب. لاحظت أنه يعتزل في غرفة قصيّة من القصر، فأخذها فضول الأنثى القاتل إلى معرفة سرّ الوحش. ها هي القصة المعتادة التي تتكرّر في كل مرة. افعلي كلّ شيء ما عدا هذا. حسنٌ، ما أنا فاعلة شيئا غير هذا! و في غرفة الوحش المحرّمة، وجدت سرّه الرهيب، و عرفت أنه أمير وسيم، مُسخ عقوبة له. و لأن لا أحد يفهم منطق الأنثى العاشقة، فلقد كان انكسارُها عظيما أمام الحقيقة. و قد تتحمل المرأة سجنها أو أسرها، و قد تتحمل طبائع الرجال الأكثر شذوذا، لكنّها تكره أن تُخدع أو أن يتلاعب أحدهم بمشاعرها.
وقف الوحش في أسى و قد عرف أنه جاء متأخرا، رأى وجه فتاة من المحال أن يفوز بقلبها. فقال لها في خيبة و قنوط : اذهبي فأنت طليقة.

لم يكن همّ الجميلة أن يظل الوحش وحشا للأبد، بل ربما فضلت في قرارة نفسها أن يظل كذلك. أليس ذلك هو شكله الذي أحبته عليه؟ لكنها حينما سمعت بحملة الصياد غاستون، للظفر بحبيبها، عادت أدراجَها لتحذيره. و هذه طبعا من لزومات الدراما. غاستون الشرير الآتي لقنص الوحش البريء، هذا الوحش الذي أسرها لأيام طوال بات بفعل الحبِّ، أو بفعل البطولة الدراميّة، ضحية مسكينة.
ديزني ككلّ الأمريكيين بارع في توصيف المعارك لذلك ما من داع لفعل ذلك، إنما هي متعة للناظرين، تسلية لا بدّ منها، حتى يبدوَ مشهد النهاية أكثر "ملحميّة" و إثارة. إن أكثر الروايات ذهبت إلى أن القبلة التاريخية التي حدثت في الوقت بدل الضائع بلغة أهل كرة القدم، هي التي أعادت من فورها الوحشَ إلى شكله الأول. لكنّ النسخة الأولى أكثر دقة و ترويّا في هذا الأمر، ربما لأنها لم تكن للأطفال، أو ربما لأن فكرتها كما أشرتُ سابقا، تتجاوز المغزى التي دعت إليها النسخ المزيّفة الأخرى في ما بعدُ.
لقد عرفتُ قصصا شعبية كثيرة تدعو إلى فضيلة عدم التطلع إلى المظهر، و الاهتمام بجمال الروح و العقل و الخُلق، لكنّ قصة الجميلة و الوحش كما أعيدت صياغتُها، هي الأكثر نفاقا و زورا. بل ربما هي الدليل الأكبر على نفاق البشر حين الحديث عن الجمال. فكان لزاما على الوحش أن يتعلـّم أن المظهر لا يعني شيئا حتى يستعيد مظهره الجميل، و لأن المظهر لا يعني شيئا، فلقد ظل الرجل يقاتل سنين طويلة من أجل استعادته كأنه لم يكن يملك غير ذلك. و في غمرة احتفاء القصة بتبليغ المعنى، تعيد النهاية صورة الوحش الأولى، إذ لا يجب أن يبقى البطلُ قبيحا بشعا، حتى حينما نريد أن نثبت أن البطولة ليست بالمظهر.

أما السيدة دو فيلنوف، فلقد كانت تبحث عن غير ذلك في قصة الجميلة، و لقد حاولت عبر ليالي الجميلة التي قضّتها مع حبيبها الوحش، ما حاولت فعله شهرزادُ مع زوجها شهريار منذ مئات السنين، إعادة الحضارة إلى قلبه. و لأن الجميلة التي وضعها ديزني غير الجميلة التي صاغتها الكاتبة الفرنسية، فإني أرى بعين الخيال نهاية أكثر تعسا و شذوذا مما تتخيله الأولون، لكنّها ـ ربما ـ أقل تعاسة مما قدّمته السينما الأمريكية لملايين الأطفال في العالم، كما فسرتُ.
لقد خرج ديزني من الأستوديو حاملا شريطه، راضيا عن نفسه و عن العالم، تاركا بقية قصة الجميلة تنسج نفسها بنفسها. و مازالت الجميلة تنعم في كل ليلة بوحشها الشرس، الذي يحتوي كل هياجها و اندفاعها و عطشها، و مازالت ملامحه تتدرج في كل ليلة إلى هيئة أقرب لهيئة البشر، حتى إذا بات الرجل أقرب للبشر منه إلى الوحوش، صار عجزه عن متابعة نسق زوجته أكبر و أكثر وضوحا. في داخل هذه المرأة وحش يرسم جمالها ليغري به الرجال، وحش يطلب وحشا مماثلا لينازله، و هو ما عاد وحشا.

لاحظ الوسيم أن زوجته باتت أكثر تبرّما، و أكثر عزوفا عنه، كأنها تواجه ظمأها بالصوم الطويل. و أقرّ لنفسه أنه ربما أخطأ باستعادة هيئته القديمة، فما قيمة الجمال إذا كان الآخر لا يقدّره، بل ربما يبخسه. و كانت الجميلة في ذلك القصر المعزول عن العالم، هي "الآخر" كلّه. سمع تهامس الخدم، و حاول الاطلاع على التفاصيل من دون جدوى، هناك أمر يحدث عنه خفية، و الجميلة باتت أكثر انشراحا و شرودا. ما كانت تقبل عليه كثيرا، لكنّ الحال غير الحال. سرت فيه رعشة الأنفة و الغضب، بحث عن الرجل الخفيّ فلم يجده، طال به التفكير و كاد يضيق ذرعا و يصارح زوجته بشكوكه حولها، لكنّه لم يفعل، لا يهمّه أن يكون لها عشيق بقدر ما يهمّه أن لا يكون مغفلا، فعلى أية حال، لن يكون الزوج المخدوع الأول في عالم الأدب الفرنسيّ. هذا عالم يتزوّج فيه الناس ليداروا علاقاتهم الأخرى. 
لكنّ الجميلة أخفت عنه الحقيقة رحمة به و بها. لقد كانت المرأة صادقة مع نفسها و واجهت حقيقتها بشيء من التجرّد و الصلابة. سألت نفسها السؤال البديهيّ، لماذا تحبّ امراة وحشا؟ و ما فيه ما يميّزه عن البشر غير كونه لم يعد بشريّا؟ إن القراءة فنّ يقرب للكتابة، و ما اخترعتُ شذوذ الجميلة و إنما قرأتُه كما كتبه الأولون. هذه فتاة تميل لغير البشر، و لو كانت غير ذلك لقنعت بغاستون الصياد الوسيم القويّ، لكنّ ما أيقظ مكامن نفسها كان وحشا لا يشبه البشر، و كذلك ظلت، لكنّها رفقا بزوجها، أخفت عنه احتفاظها بالحصان القويّ الثائر الذي بلّغها القصر المهيب، و أخفت عنه زياراتها الخفية إلى الاسطبل، و تجاهلت تهامس القوم، لأنها تعلم أن الحقيقة أغرب من الخيال أحيانا.



فاروق الفرشيشي
انتهت في 26 ايلول 2014

Saturday, September 6, 2014

التقديم في منزل بورقيبة

السلام عليكم،

"عصفور من الشرق."
منذ ستة عشر عاما تقريبا، دخلت إلى قاعة المكتبة العمومية بمنزل بورقيبة لأول مرة. هذا ليس حدثا فريدا طبعا، لكن كنت أحسّ و أنا أخطو خطواتي الأولى بين الرفوف المزدحمة أن كل وسائل الإعلام تتبعني في جولتي، تلتقط صوري مع توفيق الحكيم، و نجيب محفوظ، و علي الدوعاجي، و جان راسين و موليير. كانت تلك البطاقة الصغيرة التي حرمتُ منها سابقا لأنني لا أزال تلميذا في المدرسة، تجعلني أشعر أنني أهمّ شخص في العالم، و أنني قاب كتابين أو أدنى من الحقيقة التي ضحى بروميثيوس من أجلها. بعد هذه السنين، أعود لأضيف كتيبا صغيرا إلى الحقيقة.

"لن تحدث حرب طروادة"
 قرأتُ كثيرا من هذه المكتبة، نهلت الكثير من صفحاتها، اشتكوت من نقائصها و هي كثيرة. طلبتُ المزيد من الكتب، انتظرت الجديد منها، رغبت أن أتصفح عناوينها رقميا، بعض النسخ مهترئ إلى حدّ التلف، و بعضها اختفت صفحاته بفعل فاعل، لكن الدخول إلى هذه القاعة فقط، كان مثل دخول المرء اليوم إلى شبكة الإنترنت، إذا ما حذفنا من الانترنت مواقع الدردشة و التنصّت الاجتماعيّ و جعلنا غوغل أكثر بدائية بكثير. كانت الدخول إلى هذه القاعة مثل الدخول إلى العالم، بل ربما كان الخروج منها خروجا من العالم..

"ثرثرة فوق النيل"
عدتُ و بيدي كتيب صغير من مائة صفحة و نصف المائة من الصفحات، أخرجتُه منذ سنة تقريبا عن دار ورشة19 للنشر، و هي دار نشر حديثة النشأة يحاول صاحبها أن يخطّ طريقا موحشا و صعبا بل مضنيا، من دون كتب مدرسية موازية، و من دون ملصقات و لا منشورات من قبيل "كيف تصبح نجما في أربعة أيام". بدأتُ في كتابة هذه المجموعة القصصية سنة 2007 و انتهيت منها في بداية السنة الماضية بكتابة الأقصوصة العاشرة "المصلحة". و مثلها مثل أخواتها التسع، حملت الأقصوصة ما حملت من هذه المدينة و من وجوه أناسها، و من وجوه مبانيها و نظامها و أحداثها، بعضها حمّلته قصدا و بعضها اتخذ له مجلسا بين السطور عنوة و أحيانا دون أن أعي. لكنني مع ذلك لا أشعر أنني كتبت ما يكفي عنها، و لعلّني فاعل ذلك غدا، فهذا المكان الذي قدّم لي ذلك الكم من القراءات و العوالم، له من العناصر و الثراء ما يكفي لأن يصبح كتابا يقرأه الآخرون في مكتبات أخرى.

"حليمة"
أعود بهذا الكتيب و أنا أعرف قيمة ان يتخذ له مكانا بين رفوف المكتبة. على هذه الأرض الطيبة، حيث يكسل الناشر عن نشر كتبه، و الموزع عن توزيعها، و حيث يفضّل الكتبيّ أن يهتمّ بأدوات التلميذ و بالكتب الموازية، و حيث لا تجد سبيلا يذهب بكتابك إلى أطرافها (أطراف هذه الأرض)، و حيث يبخل جيب المواطن بثمانية دنانير على الأدب و على الكتابة، فربما كانت المكتبات العمومية أهم وسيلة يجد فيها الكتاب له قرّاء.
هل يعرف القائمون بالشأن الثقافيّ قيمة المكتبات العمومية؟ و هل هم على وعي بطبيعة العلاقة التي تربط هذه المكتبات بالمواطنين؟ هل توجد دراسات جادة تبحث سبل دعم المطالعة العمومية، لا للأطفال، و إنما للشباب و للكهول الذين نعتبرهم للأسف "فات فيهم الفوت" ؟ لا أملك اجابات دقيقة، و لكنني أملك شيئا من الأمل، و من الرغبة في المقاومة رغم كل هذه العوائق. مثلما يقول توفيق الحكيم "أملي أكبر من جهدي، و جهدي أكبر من موهبتي، و موهبتي سجينة طبعي، و لكني أقاوم.."

"عودة الروح"
هو اسم كتاب مثله مثل غيره مما ذكرت، جادت به عليّ هذه المكتبة العمومية، و لا أزال أذكره و أذكر لحظات الانفعال الجميلة التي أهدتها إياي تلكم القراءات. اِسمحوا لي أن أشكر ختاما أناسا ما كنتُ لأجلس مجلسي هذا لولاهم، شكرا صفاء، و غادة و كامل مجموعة Key-Tab التي عملتُ معها على هذا اللقاء منذ بداية السنة، كما أشكر غيث و نادي المسرح للقراءة التي قدموها، أما سي فتحي الدريدي مدير دار الثقافة بيرم التونسي، فأنا أستحثه على مواصلة مشروعه الجدّيّ الذي يريده لهذه المدينة، مشروع عناصره ثورية تقوم على الشباب، و الأفكار الجديدة، و الاستقلالية و الجودة. يبقى جهد التطبيق و الصبر الطويل، لكنني مؤمن و متفائل.

اقرأوا يرحمنا و يرحمكم الله، اقرأوا يرحمنا و يرحمكم الله. 
فاروق الفرشيشي
منزل بورقيبة في 
6 أيلول 2014

Thursday, August 21, 2014

سنة على الخروج عن الخط

هذه ليست مساحة للشكوى و البكاء، أصلا أشمئزّ من تسوّل الكتاب و عويلهم المستمرّ، أعتبر دوما أن الكاتب قادر على بذل جهد أكبر و فرض نفسه لو درس الساحة جيدا. بالنسبة لشخص مثلي لا يستثمر من الجهد إلا ما الحدّ الواجب تقديمه لا غير، فهذا ما اعترضني : 

الكُتبيّ : يمكن أن تصل نسبة ربحه الى 35% لو تسلم النسخ مباشرة من الناشر، مع ذلك هو لا يفضل أن تتكدس عنده النسخ (هو لا يشتريها أصلا، هو لا يدفع ثمنها إلا بعد أن يبيعها) اصلا هو لا يحبذ بيع أدب الخيال. يفضل عموما الطباشير و العطورات، و الكتب المدرسية في موسم العودة موعد رزقه الأكبر. أدب الخيال بالنسبة له يعني شيئا واحدا = قصص الأطفال التي يطلبها المدرسون.

الموزع : يحصل الموزع على نسبة تقارب النصف من ثمن البيع (يقتسمها مع الكُتبيّ) مقابل ماذا؟ مقابل أن يحمل بعض النسخ من جملة ما يحمل في شاحنته إلى المكتبات. أي أن كلفة النقل تكاد تكون صفرا، مع ذلك، هو لا يفعل، و يفضل أن يكدس النسخ في مخزنه، ما يستهلك من ماله و موارده. قد تنضب النسخ من المكتبة، لكنه لا يهتم، لا يسأل، و لا يبعث بنسخ جديدة..

الناشر : صاحب حقوق التأليف و البث و التوزيع و التصرف و التملك الخ الخ.. لو أن له مشروعا ثقافيا، فأنت شبه محظوظ. في حالتي، أنا شبه محظوظ فعلا، لكن "الشبه" مجالها كبير نوعا ما. الرجل يواجه مصاعب مالية، له بعض المنشورات، أكثرها مبيعا ـ قدر ما لاحظت ـ كتابي المتواضع، المركون في خزائن موزعه الثاني، مع ذلك لا يحرك ساكنا. "ماذا تريدني أن أفعل" هو كل ما يملك قوله. الغريب حقا، أنه هو من يخسر ماديا، و ليس أنا. هو الذي يحتاج إلى الربح المادي و ليس أنا.

الإعلامي : لأنني لا أملك أن أتصل بالقنوات التلفزية، أصلا لا أعرف برنامجا واحدا يصلح. فقد حاولت قليلا مع الصحافة و الإذاعات، بعضهم أصدقاء لطفاء، ما إن تحدثهم عن الأمر، حتى تنشق الأرض و تبتلعهم تماما. طبعا لست من الصنف اللزج، أحد الاذاعيين قال إنه يكرس برنامجه للشباب، لذلك فقد تكرم عليّ باستضافة خاصة : سجل بعض مقاطع من الكتاب بصوتي، و قال إنه سيبث المقاطع. لا أعرف ما حصل لأنني لم أتابع البرنامج.. ثم إنهم جميعا يتمسكون بتلقيبك بالـ"شاب" إلى درجة تجعلك تحسب نفسك مغني راي لا كاتبا.

النقاد و أهل الادب : طبعا ستجد منهم التشجيع على سبيل المجاملة، لا شيء أسهل من الكلمة الطيبة عندهم، حينما تسألهم الخوض في الكتاب، ستفاجئك جدّية أغلبهم.. أحدهم أفردت مقالا كاملا في الإجابة عن قراءته العميقة للكتاب. عميقة إلى درجة أنه قرأ كلمة "سطح" كما نقولها بالعامية، و نهرني عن استعمال العامية. لم أعرف ما أقول له، كيف أكتب "سطح" بالفصحى دون أن يقرأها هو بالعامية؟
بعضهم يقرأ لك على أنك "الشاب" فلان، تجده لم يفهم حتى الحكاية لكنه مع ذلك يمطّ شفتيه في امتعاض عميق و هو يحلّل و ينتقد..


نوادي الأدب و الجمعيات الثقافية : هي الأكثر فاعلية، و الأكثر حماسا بين كل أطراف الحلقة، خصوصا إذا كان القائمون عليها من الشباب. خلال تجربتين مع نواد مشرفوها كهول، كانت النتيجة في المرة الأولى كارثية تماما، ربما توفر الامكانات و رغم كون المناسبة، هي الأكبر و الأفضل بالنسبة للكتاب. أما في المرة الثانية، فما كان ليكتب لها الولادة (كما الاولى) لولا بعض الشباب المتحمس. نوادي الكهول تملك الأموال و العلاقات التي تجعلها قادرة على ما لا تقدر عليه النوادي الصغيرة، مع ذلك فقد كانت لقاءاتي بهؤلاء هي الأكثر امتاعا.

القارئ : أعلم جيدا أن القراء كانوا كثرا، بيعت أكثر من 200 نسخة ربما، أغلب هؤلاء من الشباب المتواجدين على الشبكة، قمت بكل شيء ممكن حتى أظفر بتفاعلهم، في النهاية حصلت على عدد بائس يربو على ال20 ببعض التفاعلات الشفاهية..

لا ألوم أحدا من هؤلاء، لكن القراءة في تونس لا تتسم بالجدية إطلاقا. لا ألوم أحدا لأن على الكاتب إن كان يؤمن بضرورة أن يستمع الناس إليه، أن يعرف كيف يشدهم من آذانهم و يمارس صراخه الهستيريّ. لا يمكن أن تلوم القارئ، لأن وظيفتك أن تغريه. لكن ماذا عن الناشر؟ ماذا عن الناقد؟ ماذا عن الموزع؟ و ماذا عن الإعلامي؟ لماذا كل هذا التواني؟ لماذا هذا الاستهتار المقرف؟ ربما كنتُ محبطا، لكن الدهشة تفوق احباطي بمراحل.. لماذا أجدُني في النهاية غير سعيد بينما حجم الطلب يفوق العرض بمراحل؟ أي عالم هذا؟

Sunday, August 17, 2014

قارئة من الذاكرة

 أحمد يقرأ.
لستُ متأكدا إن كان أحمدا أم مريم. كنتُ منشغلا عن النصّ، ذاهلا عن القسم و من فيه.. للدقة، ليس كلّ من فيه. كان وقع خطواتها يوقّع دقات قلبي، و كنت أسترق النظر إليها كمن يسترق النظر إلى ذكرياته الحميميّة. أراها ترفع رأسها في ضجر، تحاول متابعة قراءة الصبية واحدا بعد آخر، لكنها تضيق بضجر لا بدّ منه، فتبعد عينيها الجميلتين بعيدا عن كتابها الذي يبدو أنيقا بين يديها.
فجأة، انتبهت إليّ، فأشرق وجهها بابتسامة لم أجد وقتا لتبيّن تفاصيلها و أنا أدفن وجهي في الكتاب مرتبكا. وقع خطاها يعيد إليّ هدوئي، أعيد تشكيل تفاصيل ابتسامتها في ذهني فإذا المشهد لطيف، لا يستحق خوفا أو ارتباكا، بل لعلّها ابتسامة مستزيدة!

وقع الخطوات المتأني إياه. أرفع رأسي في حذر، تطالعني قامتها الأنيقة و هي تسير في شرود. غلبني الإبتسام. إنها مثلي ملول لا تحب أن تفعل شيئا إلا أن تحبه. قراءة النصوص حتى حفظها لم تكن يوما تصوّرها بشأن تدريس العربية. لكنّها مجبرة على ذلك أيضا. بعضهم لا يملك القدرة على وصل الحروف بعدُ. أحببتُ أن أداعبها خفية. أشرتُ لها بيدي دون أن أثير انتباه أحد. من الغريب أن الجميع كان غارقا في النصّ تماما. أما هي، فقد أفاقت من شرودها بإشارة يدي، و دون وعي منها خفضت رأسها نحو النص في ارتباكة سريعة، قبل أن تفلت منها ضحكة صامتة لم يشعر بها غيري.

ريم لا تزال تقرأ.
بينما أنا و أستاذتي نتبادل المداعبات اللطيفة السريّة. نقرأ النص بطريقة أخرى. أشعِرها أنها ليست وحدها في مللها. و أن هناك من يفهمها. و تشعرني أنني لا أحتاج إلى ابداء ما لا أطيق. و أنني أملك صديقا فريدا هنا. أحيانا، يشعر بنا "كريم" الذي يجلس قريبا مني. يحسدني على حظوتي. ربما يظنّ بنا الظنون، لكن من فينا يأبه لأفكاره الغريبة؟ كنت لا أزال صغيرا على الأفكار التي تراوده هو (كان يفوقني ببعض السنين) و كانت هي أكبر سنا من أن تفكر في أشياء سخيفة كهذه. ذات مرة، أخذنا الحديث إلى موسيقى Vangelis الشهيرة، "غزو الفردوس"، قالت لي إنها تملك نسخة، و دون تكلف طلبتها علنا. حينما قدّمت لي الشريط الممغنط (لأن الحكاية من زمن الشريط الممغنط)، انتبه "كريم" إلى صورة الغلاف، فلم يكتمها و هتف بها أن أريني الصورة أستاذتي. فأفردت يدها بالشريط أمام وجهه أن تفرج، قبل تسلمني الشريط.

ربما تهامس بعضهم هنا و هناك، في هذا القسم أو ربما في ذاك، الذي تدرّسه أيضا. لكننا لا نلقي بالا كثيرا. نتحدث طويلا في القسم أمام مرآى الجميع، عن مواضيع النصوص التي ندرسها، فيأخذنا الحديث و الانسجام إلى مواضيع أخرى.. كانت تحبّ كثيرا محاولاتي الإنشائية، و كنت أحبّ مواضيع الإنشاء لأنني أريد أن أكتب شيئا يمتعها. تقول للجمع الذين أمامها و هي تشير بورقتي : شكرا لهذا الفتى الذي يقرأ أشياء حقيقية، شكرا له لأنه يفيد مما يقرأ، و يسكب معارفه و ما اكتسبه على ورقته، ارتقوا قليلا إلى مستواه! ثم تنظر إليّ فأطرق برأسي خجلا.

كانت تتقبل جنوني على الورقة، تحتويه و تحاول توجيهه. أذكر أنني في ذلك الوقت أجرّب في اندفاع صبيّ. قد يخطر لي أن أمعن في السخرية، أو في المغامرة، أشحن النص بصور متأملة، بأسئلة و أفكار لا يزال ذهني مشحنا بها بعد قراءة هذا الكتاب أو ذاك. تنبهني إلى وجوب الإلتزام بالموضوع، لكنها لا تجزرني، يمتلكها الفضول لرؤيتي المشاهد التي أخلقها. ربما كنتُ بالنسبة لها تجربة فريدة، تنويعا مسليّا لكومة الأوراق المتشابهة كالخبز التي تصلحها. لكنني كنتُ أعتبر نفسي كاتبا، بل كاتبها المفضل!

حينما حملتُ إليها أول محاولة أكتبها في أدب السيرة، كنتُ فقط أنتظر أشياء من قبيل "جميلة" و "أحسنت" و "قد أصلحت لك أخطاءك"، لكنها بعد يومين نادتني و سألتني : أكل ما كتبتَ من وحي خيالك؟ و حينما نظرت إليها في استنكار، أضافت : أعني ما كتبته عن الإسكندر المقدوني، هل استندتَ إلى مراجع في ذلك؟ كان السؤال فاتحة حديث ذهلنا به عن القسم و عن ضرورة بدء الدرس، لكنها لم تنس أن تهمس لي في النهاية : "هذا نص يستحق النشر. لا يعقل أن لا تنشر أعمال كهذه. لا أعرف لكنني سأكلم المتفقدة بشأن ذلك.." طبعا لم أتذكر بعد ذلك شيئا من الدرس. كنتُ أحلم..

و لأن الحلم لا يدوم، فقد اختفت فجأة.. بل كنا نعلم. قالت لنا آخر السنة، إنها لن تواصل التدريس هنا. تحصلت على نقلة إلى مدرسة إعدادية في مدينتها. لم أحزن حقا لذلك. أنا لا أحزن ساعة الرحيل، و إنما ساعة الشوق و الافتقاد. ثم كانت هناك مشاريع تجعل ـ في نظر الصبيّ الذي كنتُه آنذاك ـ من الرحيل مسألة لا تعنيني كثيرا. سوف نظل حتما على اتصال. سوف ترسل إليّ بنجاح فكرة النشر، ربما ننشر قصصا أخرى. فلقد بدأت بالتفكير في حياة نابوليون.. ثم هناك مشروع الكتب المسموعة. عرضت عليّ أن نسجل "سهرت منه الليالي"، و كنتُ موافقا و متحمسا لجهاز التسجيل الذي أملكه و أريد الإفادة منه في خلق فنيّ ما، لكنها لسبب ما غامض لا أفهمه، أحجمت عن القدوم. ذكرت باسمة أشياء عن عائلتنا، و الإحراج الذي قد تسببه. ثم طلبت مني أن أجرب الأمر لوحدي... حينما أخبرتنا عن الرحيل، لم أفكر في كل ذلك لأنها الحقائق التي لا تتغير، و إن تغير مكانها. لكنني في السنة الموالية، استوعبت جدا معنى الرحيل..

سنوات مرت، و أنا أحمل صورتها في ذهني، مقترنة بقصة الإسكندر التي كتبتها صغيرا، ثم رحلت قبل أن أجد الوقت لأطورها و أحسنها مثلما تطوّرتُ. سنوات مرت، و أنا على يقين بأن شبحها سوف يظهر ذات مرة. حينما حللت بتلك المدينة التي اختطفتها، كنت أتلفت في كل اتجاه علني أخلق مصادفة سعيدة. النظارات ذات الإطار الغليظ، و العيون الذابلة، و الشعر الفاحم، كلها مقدّمة لذكريات طويلة عن قارئتي الاستثنائية، لكنني لا أعثر عليها. خمنتُ أنها تزوجت، و أنها ربما، باتت تدرس في المعهد، لكنني لم أفكر أبدا أنها تغيرت. ظلت صورتها الجميلة في ذهني كما هي، لم يمسها شيء من صدإ الذاكرة أو من رواسب التفكير المعقلن.
سنوات مرت، و فكرة أن أعثر عليها يوما، لم تمت البتة. يخفت بريقها أوقاتا طويلة، قبل أن تظهر فجأة في قالب جديد. لماذا لا أبحث عنها هنا؟ ماذا عن هذا الفضاء؟ أو هذه الجمعية؟ أتراها تزور هذا الموقع؟

سنوات مرت، و صار موقع فايسبوك امتدادا لحياتنا. امتدادا سيئا أحيانا.. كتبتُ اسمها هناك أكثر من مرة، و في كل مرة أرجع خائبا. ما الذي دفعني أن أعاود الكرة؟ كنتُ ناعسا أخترع السباب و الشتائم للبنّاء الذي أحال الحياة جحيما عند رأسي، حينما خطر ببالي أن أعيد البحث. لم أتساءل و إنما أطعت. هذه المرة، ظهرت لي صفحة امرأة تعمل بوزارة التربية. الإسم نفسه، لكنّ الصورة ليست لها. بل لا يمكن أن تكون اختيارها. هذه صورة توحي بذوق بسيط جدا، أو فقير جدا. ابتلعت ريقي، و فتحت الصفحة، قلت في نفسي إن تشابه الأسماء أمر وارد جدا، فاسمها ليس متفرّدا. ما هذا؟ هذه لافتة من تلك اللافتات البائسة التي تغرق الفايسبوك، تلك اللافتات التي تقول كلاما يوحي بالحكمة، و يبطن افتقارا حادّا للثقافة. لا، لا يمكن أن تكون هي. هناك في جزء آخر من الصفحة، اشارة إلى بعض ما تتابع هنا. صفحات كثيرة عن المعلومات المفيدة التي لا تعرف مصادرها، و أخرى عن الدكاترة أبطال التنمية البشرية، و صفحات دينية لم أشأ التوغل فيها... ثم .. فوجئت بصورتها، أو صورة شبح لها.
لممت شتات مخي حتى أتجاوز حدة نبضات قلبي، و رحت أعيد تركيب المشهد في صيغة أقل انفعالا، و أكثر موضوعية. إنها هي و لا شك. ربما تجاوزت الأربعين اليوم، بسنة أو سنتين. منذ تخرجها و هي غارقة في أطنان أوراق التلاميذ البائسة. ربما في مرحلة ما، فقدت شهية القراءة. ربما قبل ذلك، توقف وعيها بضرورة التطور، أو ربما بعد ذلك، تزوجت. هل هذه ابتسامة امرأة سعيدة؟ أعتقد أنها كذلك. شعرها الفاحم اختفى وراء حجاب لا يحجب مساحيق وجهها الذي ازداد بها بؤسا و ارهاقا.. أين النظارات؟ و أين ابتسامتها الساخرة؟ لماذا كل هذه الحكمة المفتعلة؟

و كما تستطيل الظلال وراء المرء في شارع خافت الإضاءة، تنامت فكرة مخيفة في ذهني، و أخذت تبتلع ذاكرتي. لم تعد الصورة الماثلة أمامي محلّ تساؤل، بل صارت ذاكرتي متهمة. و رحت أتساءل إن كان ما أذكره حقيقيا. تلك المشاهد المزروعة في رأسي، ليست صورا رقمية، و إنما التقطتها عينا صبيّ لم يعد له وجود. عيناي اليوم تعتمدان على تقنيات جديدة و ألوان جديدة و زوايا نظر جديدة، ربما أكثر تشاؤما، ربما أكثر دقة، أو ربما أكثر هستيريا، لكنها حتما ليست عينا الفتى الذي ترك لي تلك المشاهد في رأسي و ذهب.
ما الحقيقة إذا؟ أطلت النظر إلى الصفحة التي أمضيت سنوات في البحث عنها. أطلت النظر إلى زرّ طلب الصداقة، ثم فضلت أن أحتفظ بالحقيقة لنفسي..




Saturday, July 12, 2014

ساعة من البرمجة

العالم يتغيّر..

لم تكن هذه الحقيقة بديهية و ملموسة بقدر ما تبدو عليه اليوم. افتح النافذة بجوارك و تأمل أقرب شارع إليك. ربما كانت أقرب نافذة إليك، تلك التي تطلّ من شاشة الكمبيوتر، نافذة Firefox مثلا، أو Chrome أو أي متصفح آخر تستعمله، لأنّ النوافذ اليوم باتت تحمل أكثر من معنى، كغيرها من المصطلحات الأخرى في هذا الزمن الالكترونيّ.
العالم يتغيّر، و هو حتما لم يعد ذلك العالم الذي لا يزال يتعامل باندهاش مع الكتابة. لقد تجاوز الانسان بالفعل الأقراص الطينيّة التي كان يستعملها في العراق، و أوراق البردى، و رقائق الجلد، بل لعلّنا نشهد تجاوز العالم للورق كوسيلة تواصل. لقد انتهى زمن الرسائل الورقيّة بالفعل، و بات التعامل أساسا عبر الشرائح الالكترونية.

قليلة هي الشعوب التي أدركت هذه الحقيقة بالفعل. قليلة هي الشعوب التي توصلت إلى حقيقة أن هذا عصر ما بعد الكتابة. إنه عصر البرمجة! و حينما نتحدث عن "عصر البرمجة" فإننا حتما لا نعني بذلك البرمجة كمجال اختصاص يمارسه بعض الشبان المهووسين أو بعض المهندسين ذوي الخبرات المريعة التي يحسبها الآخرون ضربا من السحر. إننا نتحدث هنا عن البرمجة كمهارة شعبية يمكن أن يمارسها الجميع مثلما يمارسون مهارة الكتابة و الحساب. هل يبدو هذا مفرطا في الخيال؟ بعض الدول بدأت خطواتها الأولى في هذا الاتجاه، و في الولايات المتّحدة الأمريكية، ظهرت إحدى أكبر الحملات الشعبية لتعميم مهارة البرمجة، كان ذلك من خلال موقع Code.org

ماهي Code.org؟
هي منظمة غير ربحية، و موقع ويب بذات الإسم أسسه الأخوان عليّ و هادي بارتوفي (و هما من أصل إيراني كما لاحظتم) بهدف تشجيع الناس و خصوصا طلبة المدارس في أمريكا على تعلم البرمجة. ظهر الموقع على شبكة الانترنت في جانفي (كانون الثاني) 2013، و كانت مهمّته الأولى حينئذ، تكوين قاعدة بيانات تضم كل المدراس و الهيئات و الفصول التي تقدم دروسا في البرمجة في كامل أنحاء الولايات المتحدة. و قد رافق هذا العمل مساندة بعض المواقع الاعلامية الالكترونية المتخصصة الشهيرة مثل تاكرانش (TechCrunch) و غيرها.
و في فيفري (شباط) من نفس العام، قدّم الموقع شريط فيديو قصير يظهر فيه بعض عمالقة وادي السيلكون كمارك زوكربارغ (مؤسس فايسبوك) و بيل غايتس (مؤسس مايكروسوفت) و جاك دورسي (مؤسس تويتر) و غيرهم من المبرمجين و باعثي المشاريع في عالم تكنولوجيا المعلومات. الفيديو قصير و لطيف، و يحمل معنى بسيطا : البرمجة ليست ضربا من السحر، تعال و جرّب تعلّمها لأنها لغة العصر. و قد لاقى الفيديو رواجا مذهلا في وقت قياسيّ، و تم تناقله في وسائل الإعلام الأمريكية حتى اعتبرته TechCrunch أحدث صرعات الشبكة الاجتماعية.

ساعة من البرمجة
الخطوة التالية، كانت حملة "ساعة من البرمجة"، و قد تزامنت مع الأسبوع الوطني لعلوم الكمبيوتر في أمريكا، أي بين 9 ديسمبر (كانون) و 15 ديسمبر (كانون) من السنة الماضية. و كان هدف الحملة، اجتذاب طلبة المدارس لمتابعة بعض الدروس البسيطة في البرمجة على الموقع، و المهيّأة في قالب ألعاب تحدّ لا يحتاج معها الطالب إلى أية معرفة مسبقة بعالم البرمجة.
أعلن عن الحملة قبل شهرين من موعدها، و قد ساندتها شخصيات معروفة، و كان أبرزها الرئيس الأمريكيّ باراك أوباما الذي قال في تسجيل فيديو محمّسا الامريكيين إلى التفاعل مع  الحملة : "لا تكتف بتنزيل ألعاب الفيديو، اصنع واحدة!"
و قد أعلن موقع Code.org فيما بعد أن أكثر من 20 مليون شخص شارك في الحملة، و أنّ ما كتب خلال "ساعة من البرمجة" بلغ نحو 600 مليون سطر من الكود!
اليوم تستعدّ الحملة للانطلاق في بريطانيا، احتفالا بمرور ربع قرن على بداية الشبكة العنكبوتية العالمية (WWW)، بذات الدعم و ذات الأهداف، و على الموقع نفسه.

البرمجة سهلة!
يحاول الموقع أن يتجاوز اللغة الانكليزية و أن يقدّم مادّته بمختلف اللغات العالمية. لكن يبدو أن المشروع لا يزال في بدايته، فهو فقط يترجم بعض العبارات الواردة بالموقع، دون أن يترجم التطبيقات/الدروس التي يستخدمها فعليّا زوّار الموقع. ربما لذلك كان نشاطه الأول خارج الولايات المتحدة مرتكزا أساسا على بريطانيا.
لكنّ الدروس متوفرة للناطقين بالانكليزية بالفعل، و هي متنوّعة و تحاول أن تتوجّه لمختلف الفئات العمرية، لتعويدهم على حلّ الألغاز و المسائل عبر تكوين خوارزميات بسيطة. تخيل مثلا لعبة الطيور الغاضبة الشهيرة (Angry birds) تتحول إلى شبكة أحجية (Puzzle) حيث على المستخدم أن يكتب سلسلة من التعليمات تجعل الطّير قادرا على بلوغ مكان الخنزير. و التعليمات طبعا بسيطة نحو "تقدم إلى الأمام" و "استدر يمينا" و "استدر شمالا" الخ.. سلسلة التعليمات التي يكتبها المستخدم تمثل الخوارزمية التي ستنفّذها التطبيقة، و هو أمر أقرب إلى اللعب المسليّ منه إلى البرمجة، لكن على يمين الشاشة ستجد زرّا يسمح بعرض الأوامر في شكل أسطر كود تعوّد المتعلّم على تقبل الأكواد، و على فهمها.

يعتمد الموقع في الواقع على لغة برمجة تصويرية تسمّى Blockly تقوم أساسا على تقديم مختلف عبارات البرمجة الأساسية مثل عبارة "if" أو "repeat" في شكل قوالب يركب بعضها ببعض تماما كالأحجيات المصوّرة (Puzzle)، و هو ما يجعل الأخطاء "النحوية" مستحيلة، و يجعل المستخدم يركّز أساسا على تكوين الخوازمية اللازمة لحلّ المسألة المطلوبة.
لكنّ الموقع لا يكتفي بذلك، و يقدم بالفعل دروسا مبسطة في لغات برمجة معروفة، مثل Python و javascript، و غيرهما. كما أن دعم الشركات الكبرى للمبادرة أوجد دروسا لصنع تطبيقات لأجهزة الهواتف الذكية و الويب. التطبيقات ليست معقدة أو ضخمة، و لكنّها تسمح للمستخدم أن يشعر أن تعلم البرمجة يمكّنه من صنع شيء حقيقيّ بالفعل. شيء يمكنه استعماله فيما بعد. و هذا الشعور هو الذي أولد موجة كبيرة من الحماس في أوساط الأطفال الذين تلقّوا تلك الدروس خصوصا. و هو الهدف الرئيسيّ من وراء المبادرة.

يعتقد مؤسسا الموقع، هادي و عليّ بارتوفي، أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تعاني نقصا كبيرا في نسبة مهندسي البرمجيّات. و تفيد الأرقام التي يقدّمها الموقع، أنه في الوقت الذي لا يتجاوز فيه عدد الطلبة المتخرجين في مجال علوم الكمبيوتر 3% من مجموع الطلبة المتخرجين، يتنامى حجم عروض الشغل في البرمجة إلى ضعف حجم المعدل الوطنيّ لعروض الشغل. لذلك يحاول الرجلان من خلال هذه المبادرة أساسا، تعويد التلاميذ في المدارس الابتدائية و الثانوية على فكرة البرمجة، و تقديمها في صورة أقل نمطية من تلك التي تقدمها شاشات التلفاز، و أكثر مرحا. لكنّ الأمر لا يتوقف على ذلك.
إن المشكلة الأساسية أن التقنية اقتحمت كلّ المهن بالفعل، و باتت مختلف الميادين في حاجة إلى تطويع تكنولوجيا الكمبيوتر. الطبيب اليوم في حاجة إلى رسوم بيانية ديناميكية و حيّة للأنشطة الحيوية في جسم الإنسان، و المحامي في حاجة إلى متابعة مختلف التشريعات الطارئة المتجددة يوما بعد يوم و المدرّس في حاجة إلى مراقبة مستمرّة لمردود تلاميذه يوما بعد يوم، و هي في أحيان كثيرة حاجيات بسيطة يمكن للانسان تحقيقها من دون الحاجة إلى شخص متخصص في البرمجة لإنجازها.

حملة Code.org مهمّة في المشهد الأمريكيّ، لأنها تدلّ على شعور الأمريكيين بخطر ما تجاه ما يحدث في عالم تكنولوجيا المعلومات و ما تطرحه من تحديات. و حينما يقدّم الموقع مقارنة بين حال علوم الكمبيوتر في الصين و الولايات المتحدة (في الصين يتعلم كل الطلبة أساسيّات البرمجة مهما كان اختصاصهم) فإنك تعلم أن المسألة تأخذ بعدا لا سياسيا فحسب بل استراتيجيا أيضا. كما أن للمسألة الاقتصادية حضورها البارز هنا. فالتركيز على قيمة سوق الشغل في عالم تكنولوجيا المعلومات، خصوصا من قبل النواب الأمريكيين الذين ساندوا الحملة، يدل على قلقهم بخصوص تنامي البحث عن مهندسي الكمبيوتر من خارج أمريكا. و هي مسألة يمكن طرحها في دول أوروبا الغربية أيضا. في المقابل تقدم دول مثل الهند و الصين، هذا النوع من اليد العاملة.

ماذا عنّا نحن؟ بعض الدول العربية تقدّم بالفعل عددا مهمّا من مهندسي الكمبيوتر إلى أوروبا الغربية، بل إن بعض الشركات الكبيرة باتت تفضل فتح فروع خارجية لها حتى تتفادى مشاكل الهجرة و تظفر في الآن ذاته بيد عاملة ذات كفاءة. من المهمّ القول هنا إن هذه الحملة تنذر بتقلص نسبة البحث عن هؤلاء. لكن من يعلم؟ 

Sunday, July 6, 2014

نشيدي أنا

أُقَاسِمُ طَــيْرًا فُتَاتَ المَدَى،
وَأَرْسُمُ سِرًّا مَسَارَ الهَرَبْ.
وأذبحُ خَوْفِي إِذَا مَا بـَـــدَا،
وَأُرْسِلُ كَفِّي وَرَاءَ السُّحُبْ.

أَأَسْمَعُ صَوْتِيََ خَلْفَ الجِبَالْ؟
أَأَقْرَأُ حَرْفِي بُعَيْدَ الزَّمــَـــنْ؟
وَفِيمَ يُفِيدُكَ فُرْطُ النَّـــــوَالْ؟
إذَا مَا اصْطَفَاكَ بَيَاضُ الكَفَنْ

لِي أَمَلٌ مَاجِنٌ مُسْتَحِيـــــــلُ،
عزمُ بــاقٍ وَمُهْجَةٌ لَا تُطِيــعْ
وَالمِدَادُ المَارِقُ والخَلِــــــيلُ
لِي رَقْصَةُ طِـــــــفْلٍ رَضِيعْ

دُرُوبِي؟ لَسْتُ أَعْرِفُ مَا دُرُوبِي
وَوَاحَتِي، حِينَ يُرْهِقُنِي المَسِيرُ
مَتَى سَافَرْتُ قَدْ يَمَّمْتُ صَوْبِي
وَأَرْضِيَ حِينَمَا الحِلُّ الأخِـــيرُ

آوي حُرُوفًا فَتأويني،
أسحبُ روحي من تليدي
أعيدُ ملامحي و تكويني
و الحيّ يولد من رمادِ

أُقَاسِمُ طَيْرًا فُتَاتَ المَــــــدَى،
وَأَرْسُمُ سِرًّا مَسَــــارَ الهَرَبْ
وَإِنْ سَأَلُوا أَيْنَ يَمْضِي الفَتَـى
فَقُولُوا أَبْعَدَ مِــــــــــمَّا كَـتَبْ

"قضية".. تراجيديا الدراما التونسية (مقال هادف)

حينما تسمع حديثا عن مسلسل تونسيّ، فكن على يقين من أنّك في رمضان. يبدو أننا ننتج المسلسلات التلفزية لسببين : لا بدّ من مسلسلات تونسية في رمضان فهكذا جرت العادة، و لا بدّ لأهل الدراما من عمل يحصلون بموجبه ما يمكنهم من العيش (عيشة النجوم طبعا، لأنه يجب أن يكون في كل بلد نجوم تلفاز).
و قد جرت العادة الكريمة أن ينجز مسلسلان قصيران في رمضان، كلٌّ لفترة أسبوعين، لحكمة لا بأس بها في نظري، فنحن لا نملك ثقافة الكتابة أصلا، و من يكتب خمسة عشر حلقة يمكن له أن يفتخر بإنجازه لسنين طوال. و لم يشذّ عن ذلك إلا كتبة قلائل، خابوا في بعض الأعمال، و نجحوا في أعمال أخرى. كما أن انجاز عملين يبقي الانتاج الدرامي في مرحلة تجريبية تجعل من كل عمل جديد أشبه بمخاطرة، خصوصا مع جمهور مزاجيّ و عسير الإرضاء كالمتفرّج التونسيّ. لذلك عوض أن ينتج عمل واحد قد يخيب، ينتج عملان قد يخيب أحدهما و ينجح الآخر.

إحدى تلك الخيبات التي أحدثت لغطا طويلا بعدها، أو ربما شرخا ظلّ هناك إلى اليوم.. عرضت في رمضان 2003، أعني بها دروب المواجهة، و هو إسم لا يوحي بشيء تقريبا، لكن شخصيات المسلسل قد يذكرها بعضهم : مصطفى العدواني صاحب المصنع الطيب، الساذج، لطفي الدزيري المحتال الطماع الذئب، فريال قراجة الصحفية اللامعة صاحبة المبادئ و الجمال و الأخلاق و كل تلك الأشياء الجميلة و زهير الرايس حبيبها و الذي لا يصلح لشيء إلا لأنه ابن مصطفى العدواني صاحب القضية.. لمن لم يذكر المسلسل فأعتقد أن ما دار بمخيلاتكم هو كل المسلسل تقريبا.
المسلسل بسيط، تلك البساطة المبتذلة، التي لا تصلح للارتقاء بالذوق بقدر ما تصلح للتعرف على مدى هبوط الذوق. صور تتكرر تقريبا مع بعض الاجتهادات المحتشمة، كأداء لطفي الدزيري مثلا. كان هناك شبه اتفاق على فشل المسلسل، لكن الحيرة كانت في تشخيص الفشل. لم يجد الإعلاميون (لأن كلمة النقاد لا تليق بالمرة) سوى اعتبار العمل "خياليا" و لا علاقة له بالواقع. أحدهم قال إن صحافة الاستقصاء غير موجودة في تونس، و أن هذا الأمر غريب عنا. و كانت إجابة أحد الممثلين أن من يريد الواقع، فليفتح النافذة صباحا. أما اللوم الأكبر الذي حاصروا به العمل، فهو خلوّه من "قضايا كبيرة".. 

طبعا أنا لا ألوم الممثل على نظرته المغرقة في العمق للواقع و الخيال، و لا ألوم الإعلاميين على العته التحليليّ الذي يلملمونه، لكنّ الأكيد أن هذه الكلمات البسيطة مثلت حجر الأساس الذي تقوم عليه الأعمال الدرامية أساسا، و أعتقد أن الأعمال التي شذت عن هذه الضوابط هي الأعمال التي نجحت، و هي أعمال نادرة جدا.
عمل هادف، فن ملتزم، قضايا كبيرة، جرأة شديدة، هي كل الصفات التي بتنا نقيس بها جودة الدراما. و صار الكتاب و المخرجون في سباق محموم أيهم يحشو عمله بأكثر عدد ممكن من القضايا، أيهم يتجرأ أكثر. أذكر قولة شهيرة للممثلة "الجريئة" فريال قراجة : أنا أول من ظهرت عارية الكمّين في التلفزة التونسية. أعتقد أن الجرأة الفنية نحت نحو هذا تماما. لم يعد الفن يتعلّق بالكيف، و إنما يتعلق بالكمّ. لا يهمّ كيف تجرّأت و لكن المهم أن تتجرأ. لا يهم كيف صورت رؤيتك للقضية، المهم أن تصور الكثير منها.

ما زاد من انحراف المشهد، هو التفاعل الشعبيّ. في بلد تمارس فيه الجريمة بالسترة، لا إعلام، و لا دولة، فإن الخلط بين العمل الفنيّ و البرنامج الاجتماعيّ أو السياسيّ، أمر وارد جدا، بل و عاديّ. تجاوب الناس مع برنامج اجتماعيّ يروي لهم ما خفيَ من الفضائح، مثلما تفاعلوا مع المسلسل الذي قدّم في السنة نفسها، و أعني به صيد الريم. مع العمل الكبير الذي قدمه الممثلون (عدا شقيقة البطلة التي اختفت تقريبا بعد ذلك) فإن أغلب الناس تعاملوا مع المسلسل كما تعاملوا مع قصص "سي عبد الرزاق"، و لا لوم هناك.. لكن المثير حقا، هو ردّة فعل منظمة الأعراف حينئذ. ثار مديرو مصانع النسيج و اعتبروا العمل اهانة لهم و لسمعتهم، ربما كان هناك مبرّر اقتصاديّ وراء رد الفعل، ذلك أن الصحافة تحدثت في تلك الفترة عن هجر الكثير من الفتيات لمصانع النسيج.
دور الدراما أن تؤثر فعلا على الواقع، دورها أن تفضح، و تصور ما يحدث، و حينما نقول تصور ما يحدث، فلا يعني هذا صورة النافذة التي تحدث عنها الممثل، فتصوير الواقع ممكن بعين الخيال، أو بريشة الخيال، أو بألوان الخيال، هو ذاك الفنّ اساسا. لكنّ حادثة صيد الريم، عبرت عن مشكل آخر تماما، مشكل تعامل التونسيّ مع العمل الفنيّ، إذ دائما ما تظهر صورة برنامج "المنظار" في الأذهان و نحن نشاهد أي شيء تقريبا. أي مسلسل يجب أن يحشر بالقضايا، لمتابعتها، هوس شديد بالفضائح و المشاكل، ثم التفاعل الشعبيّ و غير الشعبيّ مع عمل دراميّ كأنها قضية رأي عام حصلت بالفعل. هل يصدق التونسيون ما يحصل في المسلسلات بالفعل، أم إنهم لا يصدقون ما يحصل في البرامج الاجتماعية؟ 
و لو أن المسألة توقفت عند التفاعل الشعبيّ لهان الأمر. رمضان لهذه السنة، جاءنا بطرفة جديدة أبطالها أعوان السجون، حيث ثاروا على ما اعتبروه اهانة لهم و تزييفا للحقائق و تشويها لمهنتهم في مسلسل "مكتوب" (الجزء الستون على ما أظن). و لو أنني لم أشاهد ما صور المسلسل تحديدا، إلا أنني على يقين أنه لم يصور ما يحدث حقا في السجون، و لن يفعل لأن مجرد فعل ذلك يستوجب قطع الصوت و تشويش أجزاء من الصورة قد تتجاوز 50% منها.. و حينما نفذ أعوان السجون إضرابهم احتجاجا، تساءلت في دهشة إلى متى؟

إلى أن نتوقف عن اعتبار الفنّ حكومة تكال له ملفات التونسيين الحارقة ليعالجها، و نكف عن ربطه بالقضايا كأنه لا يعمل إلا وفقا لذلك. إلى أن نتوقف عن حصر الفنّ الملتزم بالوطن، كأنّ الالتزام بأية فكرة أخرى هو ضرب من الانحلال أو الانحراف. هو أن نتوقف عن اعتبار الفن هادفا أو غير هادف. لقد أودت هذه الرؤية المبتذلة إلى تفضّل الفنانين علينا بالتزامهم.. "لقد غنيتُ للوطن"، "لقد قلتُ شعرا عن مشاكل الوطن"، "لقد كتبتُ مسلسلا عن القضية".. كأنهم يفعلون ذلك حتى لا يؤخذوا بانحلالهم.. تصبح أعمالهم تفضّلا، و مطيّة، لا خلقا حقيقيّا منبعه ذات الفنان، و روحه القلقة. تصبح قضاياهم، تسجيل حضور حتى يترك و شأنه و يسكت الحاقدون.. 
ما "القضايا"؟ ماهو السؤال الذي لا يعتبر "قضية" و متى يسمح للسؤال بارتداء ثوب القضية؟ حينما يحب شاب ما فتاة مثلا، ألا تعتبر "قضية"؟ حينما يحلم طفل أن يطير، أليست قضية؟ بعضهم قضيته الوحيدة في حياته، أن يغيّر بيت الاستحمام، و أعتقد أن مسلسلا مصريّا صوّر ذلك بالفعل، و بكيفيّة ستعجز عنها القمرة (الكاميرا) التونسية لسنوات عديدة أخرى...
ما القضايا؟ و لماذا نسمّي فكرة ما قضية، و لا نسمّي أخرى كذلك؟ هل القضايا أيضا "بوجوهها"؟ هل للقضايا معارف يتكفلون بتقرير أيها الأهم و الأضخم؟ في الواقع، تحشر القضايا في الأعمال التلفزية كما هي، مادة خام متخشبة مهترئة، إنها حاضرة بوجودها لا بمضمونها، لذلك ينزع صاحب العمل، إلى الزجّ بشيء ضخم، شيء من الضخامة يمكن للناس أن يروه و يشهقوا، إن التفاصيل الصغيرة، تحتاج إلى عمق أكبر من أصحاب هذه الأعمال، و أحيانا أعمق من المشاهد التونسيّ، لذلك فهي نادرة الحدوث ككوكب الأرض، أو كشاعر تونسيّ.

حينما تأتي بقضية "ضخمة" و تلقي بها وسط المشهد، فلن تحتاج إلى تعديل العدسة، و تغيير زاوية الرؤية و المسافة، لن تحتاج إلى إخضاع المشاهد إلى تجربة مرئية مختلفة، أو إلى لمسة فنية شخصية جدا.. من منّا يحفظ أسماء مخرجي الأعمال الدرامية التونسية أو كتابها؟ لا أحد تقريبا، فكلهم متشابهون، كلهم يخضعون إلى كراس شروط ينقذهم من الحياد و الشخصنة. كلهم يبحثون عن الموضوعية في الفنّ، و هي جريمة يفترض أن يصادر بسببا العمل، حفاظا على صحة الأجيال القادمة. تصوروا، فنّا موضوعيا. هذا هو الخبل الذي تبثه الدراما التونسية، لاحظوا المواقف و الصور و الأفكار، و أمدّوني بموقف واحد يعكس اختلافا شديدا أو طرحا خاصا لا يتفق حوله الغالبية. جميعها مواقف يتبناها الرأي العام، حتى لكأن كتاب المسلسلات هم أقرب للصحافة من الأدب. هل تفرض الجهات المنتجة ذلك على اصحاب الأعمال؟ أم إن هؤلاء خوفا من المشاهد يحاولون كسب ود الجميع باللاموقف؟

حينما أتذكر مسلسل الخطاب على الباب، لا تتبادر إلى ذهني أية قضية جريئة، بل لا أذكر أية قضية (بالمفهوم المتعارف عليه) على الإطلاق. و كل ما أستحضره، هي مجموعة الشخصيات الفريدة و الفذة، و تطورها طوال العمل، و مشاكلها التي في غالبها مشاكل داخل الشخصية نفسها، و ليست مع شخصيات أخرى (سطيّش، عبودة، حفّة، الشيخ تحيفة..).. لم يقترن العمل قط بقضية ما، و لم يبد أن هدفه أصلا تذكيرنا بتلك المشاكل التي نعيشها و نراها كلّ يوم بالفعل، و مع ذلك فقد حقق العمل نجاحا لا يختلف فيه اثنان، و بات مرجعا للدراما التلفزية التونسية.
لماذا انقلب المشهد، و لماذا تغيرت المقاييس و الصيغ؟ ربما لأن عليّ اللواتي (كاتب الخطاب على الباب) كان فلتة مثلا، كان الاستثناء وسط كتابات هي أشبه بالتوثيق منها للخلق و الابتكار. و ربما لأن التيار غالب، تيار الرأي العام الذي لا أدري أيوجهه الإعلام أم يتوجّه به.. الأكيد أن الفنّ لن يتغير قبل أن تتغير العين التي تراه، و تقيّمه..



Friday, May 30, 2014

اللامعقول المعقول و اللامعقول اللامعقول

قد يحدث أن يقابل المرء خلال قراءة (أو مشاهدة) قصة ما (رواية، فيلم، مسرحية، أو أي عمل فني يصوّر حكاية ما) أمرا لا معقولا، أو لا ينسجم مع بقية السيناريو. أعتقد أن الحكم على هذا "اللامعقول" في العمل الفني يختلف بحسب طبيعة العمل، و بحسب تعامل المبدع (القاصّ، المخرج، المسرحي الخ) معه.
لا أتحدث هنا عن اللامعقول الذي يتبناه العمل أصلا، و يعتمد عليه، مثلا كإعادة الديناصورات في "الحديقة الجوراسية"، أو ثورة الآلة التي تتميز بالذكاء الصناعيّ في الكثير من أعمال الخيال العلميّ، أو مختلف المسائل العجائبية في روايات "هاري بوتر" .. هذا النوع من اللامعقول يؤسس للعمل نفسه و لا يمكن تقبل العمل بدونه، أحيانا ـ كما في نوعية قصص هاري بوتر ـ كلما زاد العامل العجائبيّ، كلما ازدادت متانة الرواية و تميزها. إنما أتحدث عن لامعقول في سياق العمل الفني نفسه، و في اطار قبولنا بافتراضات العمل و شروطه.
 
يكون حينها اللامعقول مقبولا، إما لأنّ العمل نفسه كوميديّ الشكل، أو يعتمد في أسلوبه على المبالغة أو الإفراط في اللامعقول، فهذا قد يثبت أن اللامعقول هنا مقصود و مراد و ليس عفويا.
أما حينما يكون عفويا، فيمكن تقبله حينما يُبدي المبدع وعيا بلامعقولية ما قدمه، إما بطريقة ضمنية و إما مصارحة. أما غير ذلك، فلا يمكن اعتباره إلا ضعفا في متانة العمل، خصوصا إذا قامت الأحداث فيما بعد على ذلك "اللامعقول"، إذ كلّما اعتمدت الحكاية عليه كلما وهنت.
الحكاية قالب العمل الفنيّ و متنه، فالرواية أو الفيلم ليسا مجرد حكايات و حسب، و هذا أمر مفروغ منه، لكن من قال إن الشكل أمر ثانويّ؟ و ما يفرق بين العمل الفنيّ و بين المقال الفكريّ أو الفلسفيّ الجاف غير "الشكل"؟

الأمثلة تحتاج إلى دراسة و جرد دقيق للكثير من الأعمال، سأحاول أن أستحضر بعض الأعمال المعروفة على الأقل و أغلبها من عالم السينما. سأبدأ بمثال عن اللامعقول المقصود المراد، أجل Kill Bill كما خمّنتم و سينما تارانتينو بشكل عام غنية بهذا النمط، في فيلم Kill Bill تقاتل The Bride عصابة الـ 88 بمفردها في مكان مفتوح تقريبا، لا اختباء، لا هروب، فقط بعض المناورة و الكثير من الدهاء، و كاتانا قاطع من إهداء الأخ هتّوري هنزو. أعتقد أن طلقة رصاص واحدة كانت كافية لانهاء الفيلم هنا، لكننا نعلم جيدا أن تصوير مشهد قتال على طريقة الساموراي و بهذا الحجم هو أصلا من غايات الفيلم، ثم إن سياق المشهد يجعله ايحاء للسينما اليابانية القديمة ما يجعل اللامعقول حقا هو أن لا يتمكن البطل من انهاء مبارزة مستحيلة لصالحه. في سياق كهذا، يصبح اللامعقول معقولا جدا، بل و أساسا للعمل الفنيّ.

في نفس الفيلم أيضا، أمر آخر لامعقول تجاوزه الكاتب عبر التصريح بلامعقوليته، و هو نجاة البطلة من طلقة مباشرة و قريبة في الرأس. و في الواقع يمكن أن يحدث ذلك في حالات شديدة الندرة، ربما ليس عبر اصابة مباشرة و قريبة بهذا الشكل، أهمية هذا الحدث في السيناريو، أنه الحدث الذي يقوم عليه العمل كله تقريبا، لكن الكاتب نوه جيدا بلامعقوليته عبر مختلف الشخصيات التي عبرت عن اندهاشها من نجاة البطلة، ما جعل اللامعقول ممكنا.

أما عن اللامعقول الذي يمكن أن يعبر عن وهن أو تهاون، فيمكن العودة إلى أخطاء "حرب النجوم" الكثيرة، و أهمها الانفجارات التي تصمّ الآذان في قلب الفضاء، و هي أمور يصعب غفرانها لعمل يصنف كخيال علميّ. فلا يوجد في سياق الحكاية ما يوحي بأننا نتحدث عن فضاء غير الفضاء الذي يسبح فيه درب اللبانة، أو أن فيزياءه غير فيزيائنا، و هو لامعقول ليست له انعكاسات سيئة على بقية الأحداث، لكن له انعكاس سيّئ في التقييم.

لو عدتُ إلى تحفة تارانتينو Kill Bill مرة أخرى، فسأذكر في "المجلد الثاني" قنص Budd للبطلة من وراء الباب، حيث أصابتها القذيفة في صدرها تماما، و ألقت بها عاجزة عن الحراك. المفروض أنها حينما دفنت، كانت بحالة صحية سيئة، تنزف على الأقل، لكن بدا أن تارانتينو نسيَ ذلك تماما، كما يفعلون في الصور المتحركة. حينما خرجت من التابوت (بقوة يحسدها عليها الأصحاء) لم يبد أنها تعرضت لطلقة بندقية أبدا!

أما اللامعقول الذي قد يعصف بالقصة تماما، فتستحضر ذاكرتي فيلم The Sting الشهير، بطولة Redford و Newman حيث تقوم كل القصة حول عملية تحيل ضخمة تستهدف أحد الأثرياء المقامرين. تقوم عملية التحيل على محل قمار وهميّ، كل شيء متقن، و كان هناك اتفاق مع الكثيرين لتحضير العملية، حضور وهميون، كتابة عامة، مقامرون، شرطة، الخ، الغريب في الأمر أن المقامر و هو شكاك بطبعه، لم يسأل عن الإذاعة التي تنقل سباقات الخيل من داخل المحل، جاؤوا بمذيع محترف يحفظ تماما ما يجب أن يقال لكن أيكفي ذلك ليصدق أن هناك سباقا لا ينقله غير ذاك الراديو، و لا توجد أخباره في الجرائد و الاذاعات؟ كان من الممكن تجاوز اللامعقول عبر التعبير عن استغراب البطلين من انطلاء اللعبة على الرجل. لكن ذلك لم يحدث.

فيلم The appartement الحائز أيضا على الأوسكار، يقوم أساسا على فكرة شقة موظف بسيط باتت مطمع جميع رؤسائه في العمل، و المسألة طبعا رمزية جدا، و تحمل معان كثيرة، لكنني أعتقد أن الأمثولة مهما بلغت درجة عمقها فهي تعتمد أساسا على متانتها الداخلية، و في أمثولة The Appartment نجد أن أيا من رؤساء البطل، كان قادرا على منح نفسه شقة كتلك، أو على الاقل شراء تلك الشقة نفسها، و اجبار البطل على العيش في مكان آخر. مرة أخرى كان بالامكان تفادي هذه المسألة عبر مبادرة البطل مثلا باقتراح بيع الشقة و ايجاد سبب مناسب للرفض.

فيلم Equilibrium يقوم أساسا على فكرة اختفاء المشاعر من الناس لأنها سبب مشاكل البشر. لا وجود للمشاعر تماما في هذا العالم، مع ذلك يرفع أحدهم صوته، بينما يتساءل الآخر حانقا، و يرتاب آخر في تصرفات البعض.. هذه مسائل تعصف بالفيلم تماما و تجعل من متابعته عبثا تقريبا.

اللامعقول اذا ليس ضعفا بحد ذاته، و إنما طبقا للسياق الذي جاء فيه، و مهما عظمت أفكار النص أو العمل، و مهما حضرت الرمزية في صوره و أحداثه، فإنّ للشكل قيمته، و إن للقصّ صنعته التي لا يجب أن يتهاون فيها. و التركيز عليها ليس سطحيا و لا اقتصارا على "القصة" كما قد يقول البعض و إنما تأكيد على قيمة الشكل في تبليغ المحتوى، و الا فلم اختيرت القصة شكلا للتعبير؟ 


Saturday, May 10, 2014

اللغة البسيطة

تلقى هذه الكلمة خلال تقديم "الخروج عن الخط" في بنزرت الذي استضافته ودادية قدماء معاهد بنزرت .

 
أحاول أن أستنبط تحية بحجم اللقاء، تحية تتجاوز جوعا سوسيولوجيا للسلام بما هو هاجس يتشكل عبره المجتمع و ينفرط، و بما هو معنى قاعديّ لا يفي بما ينتظره المرء من ودّ و شوق و حماس للقاء في عبارة مقتضبة، تحيّة تتجاوز أملا مبهما بالخير اطلاقا و تعميما، لا لتجاوز الصور النوعيّة أو النمطية للخير، حبيسة التاريخ و الجغرافيا، و لكن لقصور في رؤية الخير نفسه، و تكاسل يحول دون أن نعنيَ حقا ما نقول. أحاول أن أستنبط تحية بحجم اللقاء، و أن أسوق من ورائها حديثا ـ كهذا الحديث ـ معقد التركيب، مكثّف اللغة، متداخل العبارة، يشقّ على السامع و ينهك القارئ، حتّى إذا بلغ معناه، لم يجد غير تحيّة ضمنية تعبّر عن سعادة القائل و عجزه عن ايجاد قول بليغ.

لماذا تعقيد الأمور اذا؟ لماذا نجنح إلى أن نقول في خمسين سطرا ما يمكن أن يقال في عبارتين بسيطتين؟ قد تكون اللغة أداة للتورية بقدر ماهي أداة للتواصل، لكن هذا الضرب من التعبير (أعني الذي يعتمد أساسا على التعقيد و البهرجة) ليس فيه لا تورية و لا إخفاء. و إنما ـ كما بدا لي دائما ـ لا يعمل إلا عمل البدلة الأنيقة التي قد تخفي بساطة صاحبها. و المحتوى إذا كان بسيطا فلن تفلح في انقاذه البهرجة.
و حينما بدأتُ في إعداد "الخروج عن الخطّ" في 2012، كان تساؤل "بأية لغة سأكتبُ" يتردّد في ذهني كلما ازداد الكتيبُ سطرا جديدا. إن اللغة ـ لغتنا ـ لا تكاد تتغير في كتبنا، بينما الناس يتغيرون، القراء يتغيّرون، و العالم لا يكتفي بالتغير، بل كأنه يولد من جديد في كل مرّة ظننا أننا نسايره. و بينما رمّم الكاتب في المشرق طريقه إلى القراء من جديد، لا تزال هوّة لغويّة تفصل الكاتب في المغرب العربي عن قارئ يتذكر أنه عربيّ مرة كل عشرة كتب فرنسية أو عشرين.

الكتابة باللغة العربية في تونس باتت عملية ملغومة ـ في زمن الألغام ـ من كل جانب، أما كتابة القصة فبعضهم للأسف لا يزال يعتبرها عبثا، و مسألة ليس فيها الكثير من الجدّ، و هذه قضية شائكة أخرى. أذكر أن أحد الصحفيين علق ساخرا على صدور عمل روائيّ : "بعضهم يجهد نفسه في تحليل الخارطة السياسية، بينما لا يزال هؤلاء يتسلون بالقصص". تخيلوا إذا معنى أن يكتب أحدهم قصصا، و باللغة العربية.
و بعيدا عن قيمة أدب القصة، و ما سببه افتقارنا ـ كشعب ـ إليه و إلى مادته من رداءة نراها في كل مكان من حولنا تقريبا، فإن اللغة هي خطّ المواجهة. فأغلب القراء العازفين عن الكتابات العربية، تعاني علاقتهم بلغتهم الأم من سوء فهم تاريخيّ. و لقد لمستُ ذلك من خلال اندهاش بعضهم و هو يجد يسرا في قراءة الكتاب و ربما الاستمتاع به.

في زمن ظهر فيه المنادون باستقلال اللهجة التونسية كلغة قائمة بذاتها (و أنا أحترم آراءهم لكنني أحاربها بشراسة) من الضروريّ على اللغة أن تثبت قدرتها على احتواء لهجاتها المتعددة و المتنوعة. و العامية التونسية كلهجة عربية في نهاية الأمر، تحاول بفعل هذا العصر المريض أن تنحرف عن جذورها، لذلك كان تفاعل شخصيات الكتاب في ما بينها، تذكيرا بصلة الرحم هذه، و محاولة لرأب الصدع بين أم و ابنتها، أو بين أخت و أختها. و هو ليس ابتكارا بقدر ما هو اختيار، بما أن استعمال اللهجة العامية ليس جديدا على الكتابات العربية، لعلّ أشهرها أعمال يوسف إدريس أو رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم.

إن تبسيط اللغة لا يعني تبسيط الشكل، فالمبنى و ان ارتبط بالمفردات المعتمدة، و العبارات المشكّلة، يتجاوز ذلك إلى بنية النصّ، أو ربما إلى النص نفسه. تتحول القصة إلى فضاء تتشكل فيه الأفكار، أو الأسئلة أو المعاني. لذلك لاحظتُ أن الخروج عن الخط كان أحيانا مراوغا قد يدّعي بساطة ليست فيه دائما. ممّا ينتج عنه سوء فهم كان يمكن تفاديه منذ البداية. إنني لا أدعي هنا إن هذا النص عميق موغل في العمق أو ثري بالغ الثراء، فقد يكون سوء الفهم منبعه قصور في التعبير أو خلل في التبليغ، لكن ملاحظتي المستمرّة لتفاعلات القراء مع النصّ، تدفعني إلى الاعتقاد أن بساطة اللغة تفهم أحيانا على أنها بساطة في النصّ نفسه، فيتهاون القارئ في قراءته و الحال أن الكاتب، شابّ، يافع، صغير، مبتدئ، قاصّ، يخطو خطوات الأولى في عالم الكتابة، إلى غير ذلك من الأوصاف.

الخروج عن الخط تجريب في اللغة، مثلما هو تجريب في القصّ، فالأقصوصات العشر التي ستواعدونها واحدة واحدة هنا، تختلف كلّ منها عن الأخرى تماما في نمط السرد و في أسلوب الكتابة، لذلك لا تقنطوا إن خاب أحد المواعيد، فلعلّ الموعد التالي هو ما كنتم تنتظرون.


Tuesday, April 8, 2014

أسلحة معاصرة

حينما التقينا في ساحة (سان ميشال) المتألّقة ليلا كالذهب، التقيتُ فيه ذكرياتنا الصاخبة، و روحينا المندفعتين بين جموع الطلبة الهادرة.. دعاني إلى مجلسه الصغير. توقف "السان" قريبا يتابع تدفّق الذاكرة من بين أعيننا. أما هو، فأشار إلى الحسناء الجالسة بجانبه، و قال :"راشيل، صديقتي." ابتسمتُ و أنا أسألها :"يهودية؟" فقالت بفرنسية أنيقة :"لم أعد كذلك. منذ غادرتُ تل أبيب تغيرت أشياء كثيرة." استدرتُ مندهشا إليه، فارتبك و لم يعرف كيف يرسم ابتسامته. و حينما سألت في استغراب "ماذا؟" استسمحها و هو يأخذني بعيدا، أو قريبا إلى النهر. قال لي في انفعال :

"ألا تتغير؟ لماذا كل هذه العداوة؟"
"هل غادرت تل أبيب نهائيا؟"
 ارتبك قليلا، لم يعرف ما يقول. نظر إلى النهر الصامت و قال "هي إسرائيلية، قد تعود ربما، أعني، قد يتوقف الأمر على علاقتنا. لكن ما لك و هذا؟ ما دخلها بالحروب؟"
"ألا تذكر تلك الشعارات التي هتفتَ بها صبيّا؟"
"صبيّا! ها قد قلتها! ألا تكبر يا رجل؟ لم تقتلنا إلا الشعارات، ماذا فعلنا بالشعارات هه؟ هل تريد أن تحاربهم؟ اذهب و احمل سلاحك، ماذا تفعل في هذا المكان الساحر؟"
ثمّ صمت و كأنّ كلامه لم يجد له صدى في قلبه الصدئ، فواصل حديثه متشنّجا "الحرب اليوم اختلفت، إذا أردتَ أن تحاربهم، فحاربهم بعلمك، بتقنيتك، بتأثيرك على المجتمع الدوليّ، أما العنتريات فلن تفيد شيئا."

"إذا أردتَ أن تحارب عدوّا، فعليك أن تذكرَ أولا أنه عدوّك. أهي باريس التي سلبت روح المقاتل فيك، أم هو أنت اتخذت شكلك النهائيّ؟ اِسمح لي، لكن السلاح سواء كان سيفا، أم قلما، لا يحمله إلا محارب. أما أنت فتثغو. حينما تمنحك الحياة عدوّا قويا، فالأجدى أن تشكر السماء، و أن تحارب. لكنّك تحبّ أن تحيا قطيعا، أن تأكل في سلام، و ترقد في سلام. علم؟ تقنية؟ تقدّم؟ تحضر؟ هذه تفاصيل ثانوية. أما ما يهمّ، فماذا ستفعل بالعلم و التقنية؟ هل ستحارب عدوّك؟ أم ستذعن له؟ أم ستقبّله في فمه، و تترشّف دم أخيك من شفتيْ سفّاحه؟
هل تسخر من أولئك الذين حملوا سلاحا رخيصا أمام أعدائهم؟ ربما كانوا حمقى، ربما كانوا يجهلون أن العوزيّ يصنعه أعداؤهم، و أنه لن يغير شيئا أمام ترسانة نووية. لكنّهم محاربون. إنهم يدافعون عن حقّ جيناتهم في البقاء، أما أنتَ فلا تملك شيئا من هذه الأنانية النبيلة. أنت وليمة تتلذّذ بما يقدّم إليها من كلإ في موائد السلام.
المحارب الحقيقيّ لا يتوقف عن القتال، حتى و إن بات عاجزا عن حمل سيفه، و حتى إن علا سيفه الصدأ، و حتّى إن صار زمن الليزر و الكمبيوتر. المحارب الحقيقيّ، لا ينسى، و سيكتب على جيناته حكاية معركته، و يرسم فيها صور المجازر، و أسماء الضحايا، و تواريخ المحارق، و خرائط الأرض.. المحارب الحقيقي و إن أقعده الزمن عن القتال، سيحارب الزمنَ في عيون أبنائه.


أنت تدعوني إلى أمر آخر. أنت تدعوني أن أنسى، أن لا أرى الدماء على وجه هذه الفتاة حتّى يمكنني تقبيلها. أنت تريدني أن أنسى، و ها إني سأحاول. من أجلك."
ثم صمتت قليلا، قبل أن أقول مندهشا :"عذرا من أنت؟ لا يبدو لي وجهك الغضّ مألوفا."

و حينما غادر المكان حانقا، استدرتُ إلى النهر المتوقّف عندنا، لكنّه لم يكن هناك أيضا..

مجزرة جنين نيسان ـ أفريل 2002

Sunday, March 30, 2014

أنا أكره التصنيفات!

اِسمحوا لي بمقدمة تاريخية مملة يا سادة. يقولون إن الحكايات ممتعة، و هي أكثر متعة حينما تكون حقيقية "ترو ستوري" كما يقول الاخوة في هوليود الشقيقة. يقول المثل (الذي اخترعتُه أنا للتوّ) أن العادة تسبق القاعدة، أو أنّ الواقع يسبق تصوّرنا له، أو أنّ الحقيقة تسبق طريقة تصوّرنا لها. أو أيّ شيء بهذا المعنى. خذ لك مثالا، اللغة.
من الغريب أن أكتشف أنّ البعض يعتقد بوجود قواعد النحو و الصرف و غيرها قبل اللغة نفسها. لا أعلم كثيرا عن بدايات النحو و علوم اللغات الأخرى. لكن للنحو العربيّ قصّة شهيرة، مفادُها أنّ أبا الأسود الدؤلي (لا تخف من الإسم) سمع رجلا (الواضح أنه ليس عربيّا) يتلو القرآن فيقول :"إنّما يخشى اللهُ من عباده العلماء" فجزع الدؤلي، و فكـّر أنه من الضروريّ إيجادُ علم يمكــّن الناس من النطق بطريقة سليمة، و من تجنّب اللـّحن عند التلاوة. هكذا ذهب الرجل إلى عليّ بن أبي طالب ليسأله المشورة، فيقول له عليّ كرم الله وجهه :" الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل." ثم يضيف :"اُنحُ نحو هذا." و هو ما شبّهه العبقريّ أحمد خالد توفيق بطالب دكتورا يتلقـّى التأطير من أستاذه العظيم.

المهمّ أن أبا الأسود حينئذ أرسى قواعد النحو، هل يعني ذلك أنّ الناس قبله لم تكن ترفع الفاعل و تنصب المفعول؟ هذا لغو طبعا، ما فعله أبو الأسود أنه أخبر الناس بقاعدة يستعملونها دون أن يشعروا مثلما أخبرنا نيوتن عن الجاذبية. و كما أنّ نيوتن لم يكتشف كل أسرار الجاذبية، فإنّ قواعد أبي الأسود لم تكن متناهية الدقة، و لم تفسّر الكثير من أسرار اللغة العربية. لك في "حتّى" التي أثارت حربا بين علماء البصرة و علماء الكوفة مثالا على ذلك.

أحدهم أرسل لي يتساءل أيهما مخطئ القرآن أم النحو، و ذلك بعدما لاحظ آيات تذكر جمع المؤنّث أو تؤنث جمع المذكر (من بعد ما جاءهم بالبينات). و هي مسألة شائكة معقدة ناقشها النحويون منذ عصر سيبويه ربما إلى اليوم، لكنّ ما أثار استغرابي هو السؤال الذي افتتح به قوله. فالقرآن قد نزل و لم يظهر علم النحو بعد. أما النحو فقد ظهر كما ذكرتُ سابقا استنادا إلى القرآن أساسا. فكيف يمكن أن يكون القرآن "مخطئا"؟ ثمّ ما معنى أن "يخطئ" القرآن لغويّا و قد جاء به رجل لغته العربية و لهجته التي رضعها هي الفصحى التي يتكلم بها العالم من حوله؟ و ما معنى أن "يخطئ" القرآن وسط هذا الجمع من الناس التي ولدت تتكلم بلهجته و حروفه؟

لكن دعونا نبتعد قليلا عن المسائل الدينيّة التي قد تزعج البعض، و دعونا نستمرّ مع اللغة. هذه المرة مع الشعر العربي. فالكثيرون أيضا يعتقدون بأن علم العروض سبق الشعر. و ربما كانوا يظنون أن عنترة العبسي و النابغة الذبياني، كانا يجلسان إلى الأرض الرمليّة يكتبان أبياتهما و يملآن المكان بالـ"شلطات" و الـ"عصافير" (تعرفون تلك الحركات التي نضعها تحت البيت لمعرفة تفعيلاته و استنتاج بحره). الواقع يقول غيرَ ذلك، الواقع يقول إنهما يفعلان ذلك دون أن يسمعا بالخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض. فهل تغضب؟
كان الشعراء يعوّلون أساسا على موسيقى الكلمة، من الجميع أن أنظم لك قولا يبدو مؤقّعا و فيه رنّة. يقول أولئك الذين ينكرون الشعر الجاهليّ، أن الشعر الجاهليّ غير ممكن في بيئة لم تعرف الموسيقى تطوّرا قطّ. لكنّ الحجة تنعكس عليهم، فالثقافة التي لم تطوّر الموسيقى، استعاضت عنها بالوقع الشعريّ. ربما لذلك يبدو لي الشعر العربيّ أكثر وقعا من غيره. جرّب قصيدة في المتقارب، و ستدهشك خفّة إيقاعه، إنه يفرض موسيقاه فرضا. و لأنّ الاعتماد على الأذن لوزن الشعر "موسيقيّا" يعني تسلل الهنات، فإنّ العروض أقرّ بها و استوعبها فيما يعرف بالزحافات و العلل.
لقد ظلّ شعرا رغم "علله" اذا، ذلك أن من سبقوا العروض هم من صنعوه، أما حينما تأتي بعد الخليل بشعر علله غير معروفة مثلا، أو بحره لم يضعه نحويّ قطّ، فآسف، أنت تهذر بما ليس شعرا! هذه طامة النقد الفنّي، و هذا هو بيت القصيد!

يضع النقاد و الدارسون و الخبراء و الأساتذة و الدكاترة قواعدهم بناء على ما سبق دائما. مشكلتهم ليست افتقارهم إلى الإبداع، و إنما افتقارهم إلى القدرة على استباق الإبداع أو تخيل ما يمكن أن يكون. لذلك تخرج قواعدهم أضيق من الإبداع في كثير من الأحيان.

بعض الأدباء و الشعراء يضيقون ذرعا بالتصنيفات و القواعد، من ذلك ما كان يصرّ على ذكره طه حسين قبل أن يبدأ قصّة ما، أن ما يلي ليس قصّة و لا رواية و لا مسرحية إنّما هو حديث لا غير، و ذلك كي يتخلـّص من تصانيف النقاد العبثية أحيانا. أذكر أن أحد الأساتذة العظام، كان يصرّ كلما قرأ "محاولة" قصصية قدّمها شاب إليه، أن يبحث فيها عن "شروط القصة"، سألته ماذا لو أخلّ بأحد هذه الشروط، فقال إنه لن يعتبرها كذلك. لم أفهم ما معنى أن "لا يعتبرها كذلك". هل تتحول حينئذ إلى قصيدة مثلا؟ أو إلى هذيان محموم؟
أحدهم راح يعدّد لي شروط القصة القصيرة، فقال إنها يجب أن تعتمد على الكثافة، و أن تقلّ من الشخصيات، و أن يتمحور القص حول حدث بعينه، الخ.. كل تلك الشروط التي لم أجدها في إحدى المجموعات القصصية التي كتبها أستاذ له. من أين يتعلمون هذه الشروط إذا؟ أم تـُراها قوانين لنكرات الأسماء؟

لم أسلم أنا أيضا من التشريح الأكاديميّ، رغم كوني نكرة (أو ربما لأنني كذلك). و أعترف هنا أن أغلب من يمارسون ذلك بلا هوادة هم أولئك الذين لا يزالون في طور الحماس لما يدرسون. أغلب من هم في سنّ متقدمة، أخضعوا معارفهم للمساءلة، باتت أحكامهم أقل أكاديمية، و أكثر مرونة. أما الآخرون، فيحتاجون إلى التصنيف و التقسيم و التشريح حتى لا يتوهوا.

هل يعني ذلك أننا لا نحتاج إلى النقد؟ هل يعني هذا أن التصنيفات الأدبية هي تصنيفات عبثية؟ لا أظنّ ذلك طبعا. إن دراسة الأدب و تقنينه مهمان من أجل الغربال. من أجل فرز النقيّ من الهجين، و الجيّد من الرديء. لكنّ سنّة الفنّ أن يتجاوز نفسه، و كذلك نقده و دراسته يجب أن تتجاوز نفسها دائما حتى تستوعب جنوح الفنّ و جنونه.
إنّ إيجاد معيار ثابت نتبع به تجارب الفنّ و رحلاته فنشدّ على يد هذه الرحلة و نشذب تلك. لكنّ هذا يقودنا إلى فلسفات و مدارس قد لا يتسع المقام لذكرها. لكنّها هناك حتما. تلك التي استخدمها المحكّمون يوما في سوق عكاظ و تلك التي فاضل بها سيف الدولة بين أبي الطيب و أبي فراس. رحم الله أبا العتاهية، الأكبر من العروض!



Translate