Sunday, February 16, 2014

سرقة موصوفة


لا يتّسع المكان و لا يضيق، و لكنّها سلطة الموقف التي تحجب ما غيرها... في حالتي هذه، تقف السلطة من حولي ببدلاتها السوداء الأنيقة وقفة تحجب عني تفاصيل الغرفة المظلمة. الصبح لا يزال يفرك عينيه في تثاقل من وراء الأفق، أما أنا فلم أجد وقتا كافيا لأفرك عينيّ. الحصيّات الدقيقة اليابسة الملتصقة بمقلتيّ تجعل المشهد خشبيّا ضبابيّا و أكثر رهبة، يشهد بذلك تواتر صفير الربو من صدري العاري تقريبا.
لم أستطع أن أميّز عددهم بالضبط، و لم أتعرّف على هويّاتهم. في الواقع، لم أجرؤ أن أسألهم ذلك. ملامحهم توحي بأن عليّ أن أطيع لا أن أسأل. كان أحدهم يملأ المكان جيئة و ذهابا و دخانا، و هي ممارسات لا تروق لي و لا لصدري، و أحيانا تصيبني بالاغماء، لكنني كنت شبه فاقد للوعي بالفعل، فأنا لا أفيق بهذه الطريقة في العادة، ثم إن السادة يبدون أخطر من هذه التفاصيل السخيفة، سطوة الموقف تحتّم أن أتغاضى عن السخف قليلا و أن أستعدّ حين يحتاجون إليّ، هكذا السبيل إلى النجاة دوما... فجأة توقف الرجل و قال في حسم :"أنت في ورطة."
لم أجد جديدا في ما يقول، و لكنني لا أحب الاستهانة بكلام رجال يلبسون بدلات سوداء و يخرجونني من غرفة نومي قبل أن تخرج الشمس إلى العالم. لذلك أبرزتُ علامات الفزع التي كانت هناك بالفعل، لعلّه يلحظها و يقدم لي تفاصيل أكثر. لكنّه اقترب من وجهي ليقول لي بلهجة مهددة : "سنسألك بعض الأسئلة، و عليك أن تجيب عليها جميعها، النسيان و عدم المعرفة إجابتان غير مقبولتين هنا، هل تفهم؟ انت في ورطة!"
و هل كنت لأخفيَ شيئا عن سادة كهؤلاء؟ هاتوا أسئلتكم. سأل أحدهم "إسمك" و آخر "إسم أمك." و طلب ثالث :"كم حجم حذائك؟" أما الرجل المكتنز العصبيّ، فسأل في اقتضاب :"حجم تبانك الداخليّ". أنا شخص سريع النسيان لكنني اجتهدتُ فعلا كي أجيب عنها جميعها. لم يبد أن إحدى الأسئلة يوحي بالورطة التي أنا فيها، لكن لا حيلة لي.

"بم حلمتَ الليلة؟"
هذا سؤال تصعب الإجابة عليه بالدّقّة الكافية. علميّا يحلم الانسان طوال فترة نومه، و لكنه لا يذكر منها الكثير. هل قال إن النسيان إجابة غير مقبولة؟
"الحلم الذي أذكره جيّدا كان يخصّ لقاء في مقهى، مع خطيبتي السابقة."
"حاول أن تذكر كيف كان المقهى. لون المقاعد مثلا، شكل الفناجين، هل جلستما داخل المحل أم خارجه؟"
"كنا خارج المحل، و كانت المقاعد غير مريحة، خشبية بيضاء، أما الفناجين فكتبَ عليها Lavazza لكن لا أعتقد أن القهوة المقدمة كانت كذلك."
أحسستُ بلمعان عينيه من خلف النظارتين السوداوين، و اقترب بوجهه مني و هو يسأل :"المقهى، ما كان إسم المقهى؟"
كان السؤال صعبا و كان عليّ أن أذكر. ماذا كان اسم المقهى؟ كان مكتوبا على لائحة المشروبات الملقيّة على الطاولة. هل كان Starbugs ؟
"انت تقصد Starbucks أليس كذلك؟"
"اجل ربما."
"أجل، أم ربما؟"
"أجل."
"جيد. و ماذا كنت تفعل مع خطيبتك السابقة؟ أعني هل كنتما لا تزالان مخطوبين إلى بعضكما البعض في الحلم؟"
"كان لقاء فسخ الخطوبة. لم يكن شبيها بما حدث في الواقع. فقد حلمتُ بمشهد أكثر هدوءا و رقيّا مما حصل بالفعل. قلتُ لها إنني لا أزال أحبها، و حاولتُ أن ألقيَ عليها شيئا من شعر محمود درويش الذي لا أفهمه ويبدو مؤثّرا، لكنّها طلبت مني أن أخرس، ثمّ نزعت الخاتم الماسيّ الذي كانت تلبسه و رمته في فنجان قهوتي. كان حلما لا بأس به. الأحلام تجعل كل شيء جميلا. كانت خطيبتي تلبس فستانا جميلا، و عقدا لا أملك ثمن النّظر إليه من وراء الواجهة الزجاجيّة. كان ذلك من أسباب فسخ خطوبتنا في الواقع. أما في الحلم، فقد كان قالت أشياء تتعلق بمشاريعها وطموحاتها. لا أعتقد أنّ خطابها تضمّن تفصيلا لما تريده حقّا، فقط بعض الكلام المنمّق الذي جعل الموقف تراجيديا بما يكفي لأشعر أنّني غير محظوظ لا غير. حينما تخبرك حبيبتك إنك لا تملك ثمنها، لن تملك حينئذ ترف اللجوء إلى التراجيديا...
تركتُها تنهض و استرقتُ نظرة أخيرة إلى خصرها الشيطانيّ، و احتفظتُ بصمتي و خيبتي. و حينما غابت رائحة عطرها عن المكان، رنّ هاتفي. كانت أمي تهاتفني لتخبرني إنها وجدت محلا جيدا لكراء لوازم الأفراح."
"و ماذا كان نوع الهاتف؟"
ممم... أعتقد أنه كان نوعا أمريكيا. أيفون شيء ما."

اِبتسم الرجل في رضا عن إجابتي، و استدار إلى زميل له ما انفكّ يكتب على آلة ما، و كأنه يتأكد أنه لم يفوّت شيئا ممّا ذكرت. ثم إنه عاد يتطلّع إليه بهدوئه المهيب، و قال أخيرا :"أنت متّهم بالسرقة الموصوفة."
سرقة؟ متى حصل هذا؟ أنا لا أذكر أنني سرقتُ شيئا. مظاهر الحياة في غرفتي تؤكد كذلك أيضا. لكنّ هؤلاء الرجال يعلمون ما لا أعلم. سألتهم في فضول حقيقيّ :"ماذا سرقتُ؟"
تطلّع بعضهم إلى بعض في قلق، هل هذا الرجل مجنون؟ لستُ مجنونا و لكنّني ـ أعذروني ـ فضوليّ بعض الشيء.
"آسف، أردتُ فقط أن أعرف، لم أقصد أن.."
"الحلم الذي وصفته. أنت تصف بدقة وصفاقة مذهلة المشهد الملحميّ من فيلم "الرجاء الأخير". أنت خرقت قانون الملكية الفكرية، و استعملت مشهدا من إبداع غيرك استعمالا شخصيا من دون إذن صاحبه. هذا يعرّضك لعقوبة بغرامة مالية، و ربما قد تصل الأمور إلى السجن. أنت في ورطة فعلا."
"أنت تعني أن ما حلمتُ به، لا أملكه؟ أعني، لقد كنتُ أنا في الحلم، و لم يكن ذلك الممثل الوسيم. أنا لستُ بوسامته حتى أخلط بيننا، و إلا لما تركتني خطيبتي." 
"هل شاهدتَ نفسك في الحلم؟"
"كلا طبعا فأنا أنظر بعينيّ، أعني تقنيا لا يمكنني..."

"و هل أنت واثق من أن تلك الجالسة أمامك كانت خطيبتك؟ هل تذكر جيدا صورتها؟"
"ليس تماما، و لكنني أعرف أنها خطيبتي."
"هذه من ألاعيب العقل، لم تكن خطيبتك، ذهنك يخدعك. نحن نعرف."

هو يعرف طبعا، هو يعرف كل شيء، و الواضح أن معرفته بتفاصيل الحلم أعظم من معرفتي، ربما كانت التفاصيل مسجلة عندهم بإذن قضائيّ طبعا. الخصر الشيطانيّ إذا لم يكن خصرها. هذا يفسّر أشياء كثيرة...
"أنت ذكرتَ بالفعل تفاصيل المشهد تماما كما في الفيلم، المقهى، المقاعد، المرأة، لباسها أيضا كان كما وصفت، و حقوق الملكية مسجّلة و محفوظة باسم الشركة الراعية، و هي كما تلاحظ لا تريد أن تتسامح كثيرا بشأن حقوقها. في الواقع لقد تسامحت كثيرا و تريد أن تضع حدّا للتجاوزات. الناس لا تفهم كثيرا أي مجهود يلقاه الفنانون اليوم كي يبتدعوا شيئا جديدا، كل شيء ابتدع بالفعل، و النقد لا ينفكّ يضيّق فضاء الابداع. بعضهم اعتبر أن كل القصص هي في الأصل قصة واحدة تتكرّر بقوالب مختلفة. صورة تجعل من القصص شيئا مملا. بعضهم حدد عناصر القصة بالفعل، إن خرجتَ عنها فلا يلتفتُ إليك أحد. رياضيا يوجد عدد من محدود من الاحتمالات تحصل عليه من خلط هذه العناصر و مزجها و تركيبها. و مع العدد الضخم من المبدعين اليوم، بات الفنّ عملية شاقة جدا، شركات الانتاج تخاطر بأموالها كي تقدم لك أشياء جديدة، و أقل ما يفعله المرء أن يحترمها."

"و لكنني اشتريتُ ثمن التذكرة بالفعل حينما شاهدتُ الفيلم."

"التذكرة تضمن حق المشاهدة، لا حق استغلال ما شاهدته. إنك تتميّز باستهتار غير مسبوق. اُنظر إلى عدد الاسماء التجارية التي استخدمتها، من سيدفع لها حقوق استخدامها؟ الشركة الراعية تفعل ذلك بالفعل. ألم تفكر بكل ذلك و أنت تحلم؟ ألم تفكر بكل ذلك و أنت تحاول استحضار صورة حبيبتك التي تركتك؟"
"أنا بالفعل لم أفكر في ذلك. معذرة، و لكنني لم أكن أقصد. لقد باغتني الحلم و .."
"هذا ما يقوله المذنبون في كل مرة. لم تكن تقصد. بغير إرادتي. غير متعمّد... يتملّص الإنسان من مسؤولياته ملقيا بها إلى جانبه المظلم. يمارس كل رغباته الشيطانية خلف قناع واع و هادئ و أليف. لم تكن تقصد؟ من أدراك أنك لم تكن تقصد؟ أنت أحببت المشهد بالفعل، شيء ما في جسدك تفاعل مع المشهد هناك في قاعة العرض، و اختزنه في ذهنك، شيء ما رغب في استعادته على هذا النحو، فقط كونك جبانا هو ما جعل تلك الرغبة دفينة، تنصلك من المسؤولية هو ما جعلك "لا تقصد". إن الشعور بالعفوية ضرب من الفشل، أنت شخص فاشل، غير قادر حتى على صنع حلم مبتكر، تسرق أحلامك من صنائع الكادحين."

لسبب ما أجهله، شعرت أنه على حق. ليس فقط لأنّه رجل سلطة وخبير في هذه الأمور. ولكن لأنّ كلامه يبدو عميقا ومهيكلا. على كلّ حال لم يكن ذلك ما كنت أفكر فيه. كما ذكرتُ، أنا شخص فضوليّ، و كان السؤال الذي يجول في ذهني...
"ما شاهدتُه إذا هو ليس لي. ربما لا أمتلك أحلاما، و غير قادر على الحلم. هل سيتغيّر هذا الشعور إذا ما اشتريتُ لي حلما؟ هل سأشعر أنه منّي فقط لأنني دفعتُ ثمنه؟"
"من الجميل أن يعتقد الإنسان أنه يمتلك أحلامه، لكنّ الحقيقة أنه هِـبَـتُها. أنت كشخص سلبيّ ذي طبيعة استهلاكية تعيش أساسا داخل غرفتك. خارجها أنت مختلس تقريبا. كإسفنجة ضخمة تتمسّح على عتبات الشارع الكبير وتمتصّ افرازات الآخرين. تعود إلى غرفتك وأنت تجرّ وراءك أحلام مجتمع بأكمله، أفكاره، مخاوفه، ما يحبّ و ما يكره. يخرج الإنسان الناجح إلى مجتمع يضجّ بأحلام الآخرين، يقترض منها ما يناسب روحه، يعجنها، يقلّبها، ويبثّ فيها شيئا جديدا. أما الآخرون فيكتفون بالالتهام. أنت مثلا. هل تذكر ما راودك من أحلام هذه الليلة عدا هذا المشهد؟ لا داعي للإجابة، فكلانا يعرفها. أنت اخترت النظر إلى الوراء، اجترار ماضيك و تزيين خيباتك ببعض الماس و الملابس الرقيقة. لكنّك حتى في هذه كنت فاشلا. المجتمع يقدم لك مشاريع أحلام مجانية، لكنّك تفضل المشاهد الجاهزة. عموما، هي متوفّرة قانونيا، و يمكن شراؤها كما يمكنني أن أؤكد لك، أنها من الاتقان بمكان فلا تشعرَ إلا أنها نابعة من أعماقك. حتى لو كنتَ تعرف عكس ذلك، فغريزتك المنهزمة ستتكفّل بتزييف الحقيقة."
"و ماذا لو أنني اشتريتُ الحقوق و لم أحلم؟"
"هناك خبراء يمكنهم التحقق إن كان السبب تقصيرا منهم، أم من خلل في جسدك. و اسمح لي أن أخبرك أنك كشخص فاشل، معرّض بشدة إلى هذا الاحتمال. عموما هناك شركات تقدم عروضا غير مكلفة و تضمن لك أحلاما لا باس بها. أحلاما مستعملة مثلا، أو أحلاما من الصنف الثاني."

"أن أشتريَ حلما. ربما كنتُ بحاجة إلى حلم ما حقا... هل يمكنني أن أشتريَ حلما مشخصنا؟ اعني، أختار تفاصيله كما أريد. كما ترى، لستُ خلاقا و لا مبدعا و لكنني كلاسيكيّ."
"هذا ممكن و لكنه مكلف بعض الشيء، ثم إنه يجب أن يمر عبر مكتبنا. نحن نكفل حرية أن تحلم، لكن كما تعلم، بعض الأحلام قد تهدد الأمن القومي. المتهورون كثر، و هم ينصتون كثيرا لأحلام ليست لهم، و أحيانا يسيؤون فهم ما يرون. نحن هنا لنرشد التائهين، أو من يعانون من سوء الفهم المفرط. يمكننا أن نقدم نصائحا لكنّنا لا نحب أن نبدوَ كمن يفرض شيئا ما على المواطنين. سنتركك تختار ما تشاء، ثم نتدخل عند الضرورة."
 أومأتُ برأسي في تفهّم، من الواضح أنّ أمثالي يسببون مشاكل ضخمة لهؤلاء السادة المحترمين. شعرتُ بخجل شديد، و الأسوأ أنني لا أملك المال الكافي للاستجابة إلى دعوته. خمّنتُ أن الحياة أهون من الحلم، كلاهما يبدو زائفا، لكن الحياة أقل إثارة و انفعالية. ربما لذلك هي أرخص ثمنا... قلتُ لمخاطبي المحترم إنني أفضل أن أتناول عشائي باكرا و أتأكد من دفء جسمي حينما أنام.
"خيار فيه شيء من المخاطرة. إن أي خطإ سيجعلنا نعود. لا نحب أن نقصّر في عملنا، فالمجتمع في حاجة إلينا."
"و الشركات الراعية أيضا."
"هي جزء من المجتمع، كما ترى، هي خير من يسهر على ابتداع أحلام جديدة للمجتمع. من الجحود انكار هذه الحقيقة. و من الجحود أيضا أن نشجعك أن لا تحلم. لكن إن كنت عاجزا، و لن أستغرب ذلك، فهناك حبوب تضمن لك أن لا تحلم. ثمنها غير مرتفع. المهمّ الآن، كيف تريد أن تدفع الغرامة المالية؟ عبر أقساط أم دفعة واحدة؟
الناشر حاصل على حقوق نشر هذه الصورة طبعا




 فاروق الفرشيشي
16/02/2014
حقوق النشر و التأليف غير محفوظة

Wednesday, February 12, 2014

العقول المَـثْـنَـــوِيَّة

لا أتحدث هنا عن طريقة نظم فارسية، و إنما عن نظام عدّ تستعمله كل الأجهزة الالكترونية. يسميه أحفاد شكسبير Binary number system وهو عكس النظام العشري الذي تعرفه، لا يملك الا رقمين اثنين هما صفر وواحد. ومن هذين يمكن اختراع بقية الاعداد:
0 -> 0
1 -> 1
2 -> 10
3 -> 11
4 -> 100
5 -> 101
وهكذا باستعمال رقمين فحسب، يمكن للآلة فعل المعجزات! يمكنها هذا النظام من تصوّر أشياء شديدة التعقيد و التركيب، على اعتبار أن كل شيء مركّب يتكون من أشياء أكثر بساطة. في الواقع لا أعرف إن كانت هذه القاعدة تعمل على الأنظمة الطبيعية، فطريقة عمل النظام الشمسي تبدو أبسط بكثير من طريقة عمل الشمس نفسها، و سلوك الإنسان يبدو غالبا أكثر قابلية للتوقع من سلوك الذرات التي تكون جسمه.. هل العقول مثنوية؟ أعني هل تعمل وفق نظام العدّ المثنويّ (أو الثنائيّ لمن لا يحبّ الحذلقة) أم أنها أكثر تعقيدا من ذلك؟ يقال إن المعطيات (data) تتردد في المخّ وفق شحنات كهربائية و هو ما يحيلنا بالفعل إلى منظومة مثنوية. لكنّ ما يهمني من كل ذلك، هو تلك الحقيقة التي تقول إن العقل قادر على تصور أنظمة شديدة التعقيد و التركيب، أكثر بكثير من جهاز الكمبيوتر. أقول "قادر"، لأنني أعتقد أن أغلب العقول لا تمارس ذلك بالفعل، و تسبب جرّاء ذلك، الكثير من الرداءة.. أعتقد أن تلك الرداءة هي ما يجعل الحياة عسيرة في هذه البلاد.. 

حينما نبدأ بفهم الأشياء من حولنا صغارا، نتعلم قاعدة أساسية تتمحور حولها سلوكاتنا : هذا جيّد. هذا سيء. كل ما نحاول فعله أو فهمه يمرّ عبر هذا السؤال : هل هو جيد أم سيء. فيما بعد يتخذ المفهومان أشكالا عديدة، خير و شر، الله و الشيطان، ربما سكاي وولكر و دارث فايدور، أو الكابتن ماجد و الكابتن بسام ... لا أعرف، لكن المقاربة المثنوية حاضرة هناك.. فيما بعد تتكفّل ثقافة المرء و تجاربه بتعليمه أشياء كثيرة و تعقيد المشهد من حوله.. يتعلم المرء أن الخير و الشرّ مثلا نسبيان عبر المكان و الزمان و الأحداث أيضا.. يتعلم أن الخير و الشرّ تقييم لا يناسب مواقف و أنظمة أخرى كثيرة. الانسان يدرك الواقع عبر قوالب ذهنية (models) أكثر يسرا للاستيعاب، تأخذ هذه القوالب أشكالا شديدة البساطة في البداية، و مع اكتساب المعرفة، تأخذ هذه القوالب أشكالا أكثر تعقيدا.. 

في الماضي كان الانسان يعتقد أن الأرض مسطحة، حينما اكتشف كروية الأرض، اعتقد أنها كرة مثالية (perfect). لم يلبث فيما بعد أن أدرك أنها يجب أن تكون مسطحة على مستوى القطبين، كبرتقالة. طبعا شكل الأرض أكثر تعقيدا و أبعد ما يكون عن الأشكال الهندسية المثالية التي نستعملها في الهندسة الاقليدية. لكن بعض الناس لا يزال يجد بعض العسر في استيعاب الشكل الكرويّ الأول. إن التفاوت في القدرة على تصوّر الأشياء و إدراك مستويات تعقيدها أمر طبيعيّ. الطبيعة قائمة على التفاضل (أمر قد لا يعجب الكثيرين و لكنه ليس موضوعنا الآن). لا يمكن لشخص مهما بلغت درجة ذكائه و معارفه و خبراته أن يتمثّل في ذهنه الأشياء كما هي بالضبط في الواقع، لكنّه يطوّر قوالبه الذهنية و يعقّدها أكثر فأكثر. و لا يمكن أن يتساوى الناس في درجة التعقيد التي يمكن لأذهانهم بلوغها. كاتب هذه السطور يجد صعوبة بالغة في استيعاب عالم خماسيّ الابعاد، بينما تجد فيزيائيي مراكز البحث الكبرى، يحاولون تقديم تصور للكون من اثني عشر بعدا! لكن، اعتقد أن هناك حدّا أدنى من التعقيد وجب توفّره عند الانسان حتى يستطيع أن يساير العالم الجديد من حوله.


كلّ الصور تمثّل أرنبا، لكن كما تلاحظون كلما ارتفعت درجة تعقيد الصورة (عدد المثلثات التي تشكل سطح المجسم) كلما ازداد وضوحا.

الأمر جادّ صدقوني. أنا لا أتحدث عن مجرد صور تعلق بالذاكرة. أنا أتحدث عن طريقة عمل الذهن، التي تجعلنا ما نحن عليه. حينما أتأمل الرداءة التي تحيط بي من كل جانب. أعتقد أن أحد أسبابها الأساسية، هو بدائية القوالب التي نمثّل بها الأشياء و المواضيع و الحقائق من حولنا. حينما تسود بدائية القوالب في مجتمع ما، فهو مجتمع بدائيّ، مهما امتلك من تقنية و أموال.. خطورة المسألة ترجع إلى أن غالبية أفراد هذا المجتمع، تسيطر عليهم طرق التفكير المثنوية، التي تختزل الأشياء في الأبيض و الأسود.. إن الاستقطاب الثنائي الذي يجمع على وجوده الجميع في تونس، موجود تقريبا في أغلب دول العالم. لماذا اذا يبدو لنا الاستقطاب الثنائي غير طبيعيّ في تونس؟ أعتقد أن السبب يكمن في التفكير المثنويّ. هنا، يشيطن الناس بعضهم البعض لا لتوفر المعطيات الوجيهة و لكن فقط لأنه لا يستطيع رؤية العالم من وجهة النظر المقابلة. 

ماذا؟ تقول إن ذلك لا علاقة له بالقوالب البسيطة إنما بالتعصب. و ما هو التعصب؟ أليس عدم القدرة على رؤية الأمور من وجهة نظر مختلفة؟ لا أطالب الشيوعيّ بأن يؤمن بالفلسفة الليبرالية. لكن عليه أن يفهم أن الليبرالي ليس بالضرورة شخصا جشعا يريد أن يعيش على جوع الآخرين.
المتعصب هو شخص يجد صعوبة في ايجاد قوالب ذهنية مركبة و عديدة. لذلك يفضل تلك القوالب البسيطة الجاهزة. الكليشيهات التي تنشأ لتردد انموذج ما أكثر من غيره. الكثير من المبرمجين يستعملون النظارات لذلك نشأ هذا القالب الجاهز الذي يربط مباشرة بين مبرمج الكمبيوتر و النظارات. مبدأ الربط هذا مزروع في الجينات البشرية لأنه يساعد الانسان في الكثير من المواقف. لكن على الانسان أن يرتقي بوعيه إلى ما فوق هذا السلوك اللاواعي حتى لا يتحكم في نظرته الى الأمور. هذا الخطأ المنهجيّ هو تقريبا ما تقوم عليه النظرة المتعصبة تجاه الآخر. تقابل فتاة محجبة فتسقط عليها آليا قيم التقوى و الورع. . يتشكل في ذهنك ذلك القالب البسيط الجاهز الذي تجمع تحته كل المججبات. و قد تجدها تمارس سلوكا يتنافى و ذلك الذي 'يجب أن تكون عليه المحجبة' فتسقط حكمك عليها و على المحجبات جميعا. (لماذا انت بحاجة الى اطلاق حكم ما اصلا فتلك قضية اخرى) كل هذا و انت لم تسمع عنها فكرة واحدة. حاجتك الى القوالب الجاهزة سببها عدم قدرة ذهنك على تمثل قوالب أكثر تعقيدا. محجبة لكنها غير مسلمة. لها افكار خاصة ربما شاذة لكنها افكارها هي و ما يجعلها هكذا.

ايضا يميل المتعصب الى تصنيف ثنائي جامد : ما هو مثلي فهو جيد و خير و صحيح في كل شيء. الآخر هو كل تلك الصفات السلبية. المسلمون جميعهم حمقى و جهلة. الادهى ان تسمع من يقول : المسلمون جميعهم متعصبون. هذه قولة مشطة في الانفتاح!

من اين يأتي هذا العجز عن فهم القوالب المعقدة؟ ربما هناك اسباب عديدة. لاحظوا انني لست اقوم بدراسة معمقة هنا. لكن هناك شيء ما ليس على ما يرام في تربيتنا. كل شيء من حولنا يتمثل الاشياء بسذاجة. اغانينا تصور مواقف بدائية من العشق و الوحدة و حب الوطن. اشعارنا تكرر ذات الصور الساذجة. قصصنا و افلامنا و مسلسلاتنا - الا ما رحم ربي - ترنو الى الخير المطلق و الشر المطلق. تلفزاتنا الملونة تبث سموما بيضاء و سوداء منذ القرن العشرين و لم تتغير. و مواعظ شيوخنا لا تزال تحدثنا عن سابع جار و نحن نعيش في مبنى لا نعرف عدد سكانه و لا متى نغادره.. 

هل علينا أن ندرس جميعا النظريات الرياضية المعقدة حتى تتجاوز أذهاننا حاجز التفكير المثنوي؟ و هل على التلفاز أن ينقل لنا مباشرة وقائع الاعلان عن اكتشاف بوزونات هيوغز حتى نصبح قادرين على قبول الاختلاف و عدم شيطنة الآخر؟ ربما يوما ما. لكن لأن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، فأعتقد أن الارتقاء بمستوى الفنّ و الأدب في هذه البلاد و لو خطوة واحدة، أمر ضروريّ أو بلغة الكمبيوتر تعليمة رقم 0.

Translate