Sunday, December 27, 2015

على حلّة عينيّ، أغمضتهُما!

يعتبر الفيلم الروائيّ في تونس حدثا ثقافيا وطنيا لندرة مثل هذه الأعمال، وصعوبة تحقيقها. ويزداد الحدث أهمّية حينما يكون صاحب الفيلم مخرجا معروفا، أثارت أعماله السابقة مجادلات وخصوما ومؤيدين. في حالة فيلم "على حلّة عينيّ"، نجد أنّ صاحبة العمل ليلى بوزيد هي ابنة المخرج التونسي الشهير النوري بوزيد، وهو أول أعمالها الطويلة، وهو أيضا صاحب التانيت البرونزي وجوائز أخرى في أيام قرطاج الأخيرة، بل تجاوز سياقه المحلّيّ بالمشاركة في مهرجانات عالميّة كالبندقية، وحصوله على المهر الذهبيّ في مهرجان دبيّ. طبيعيٌّ إذا أن يملأ الفيلمُ المشهد السينمائيّ التونسيّ وطبيعيّ أن يرافقه ذلك التساؤل الحرج: هل يستحقّ كل ذلك؟


من الغريب أن أجيب عن السؤال منذ البداية: أجل، أي فيلم تونسيّ يستحقّ كلّ ضجة ممكنة، لا بسبب قيمته لذاته، ولكن بسبب قيمة أن يكون هناك عمل سينمائيّ في بلاد تكاد تخلو من قاعات السينما. وبقدر أهمّية أن يكون هناك أعمال سينمائيّة، من المهم أيضا التفاعل معها، بالسلب أو بالإيجاب. وهو الدافع الأساسيّ من وراء المقال. فالحقيقة أنّ الفيلم لم يثر في نفسي أيّ شيء تقريبا، ولولا أنه فيلم تونسيّ لما كتبت عنه.


أهو سيّء إلى هذا الحدّ؟ مطلقا. هو عمل على قدر لابأس به من الصنعة على مختلف المستويات. فلا تلمس خللا في الصورة، ولا في التصوير. وهو من الأفلام التونسية القليلة التي تشعرك بالعمل المضني على مستوى التركيب. ولأن الفيلم يتابع تجربة فرقة موسيقيّة، فقد كان العمل الصوتيّ من أجود ما أنتجته السينما التونسية، وقد يكون ذلك أيضا عائدا إلى تطوّر التقنيات المستعملة في الآونة الأخيرة. كما كان هناك عمل كبير على مستوى الموسيقى أشرف عليه الفنان خيام اللاميّ. أما السيناريو فهو كثيرا ما مثّل نقطة الضعف الأولى في الأعمال التونسية. لكنّه إحقاقا للحقّ، بدا في "على حلة عينيّ" واضحا متماسكا. ولو أن هناك ما يعاب على الفيلم على مستوى الإتقان والحرفيّة، فربّما بعض الهنّات في آداء الممثلين أحيانا، وفي الحوار الذي اعتمد كثيرا على الارتجال انطلاقا من نصّ أساسيّ. يجب التنويه بأنّ الفيلم يعتمد على وجوه كثيرة جديدة، لذلك فأنا أعتقد أن حضورها الأول كان إيجابيا. سأخصّ بالذكر بيّة المظفر بطلة الفيلم، فقد أثارت الدهشة والإعجاب وعبّرت عن شخصية فرح بتلقائيّة رائعة. ورغم الظهور الخجول لغالية بن عليّ (الأم) في بداية الفيلم حين استقبلت ابنتها، إلا أنها تداركت ذلك شيئا فشيئا وأقنعت في مشاهد عديدة، وكذلك الشأن بالنسبة لمنتصر عياري (برهان قائد الفرقة) وأيمن العمراني (علي). هو عمل على قدر لا بأس به من الحرفيّة، ويشي بعمل جبّار قامت به المخرجة لإنجاح فيلما الأول. لكن من قال إن الخلق الفنّيّ هو صنعة فحسب؟


تقدّم لنا ليلى بوزيد حكاية فتاة تونسية على مشارف الدخول إلى الجامعة، وكيف تحاول أن تبدأ مشوارا غنائيّا مع فرقة من الشباب الهاوي. وتدور أحداث الفيلم في صائفة 2010 والبلاد على بعد أشهر معدودات من الثورة. وعبر هذه القصة، لا يبدو أن ليلى بوزيد تناور كثيرا، فالوضوح سمة المشاهد، والأحداث، والشخصيات. لا شيء يحتمل تأويلات مربكة أو يجعل المشاهد في حيرة من مرام المخرجة. فالفرقة الموسيقيّة أنموذج لعموم الشباب التونسيّ المليء بالطاقة والإبداعات، وما حدث لهم من قمع وترهيب، هو ما يحدث لكلّ شاب تونسيّ يحاول أن يخلق شيئا جديدا، أو "يوقظ شعبه يريد صلاحه" كما قال أبو القاسم الشابي. كما أن إدانة جهاز البوليس كأداة أساسية للنظام القمعيّ لبن عليّ، مثلّت محورا أساسيّا في الفيلم، هذا عدا الكثير من الإشارات الأخرى مثل مسألة الحوض المنجميّ، والرشوة، والحرية الجنسية. نحن أمام فيلم إذا محكم الصنعة، مشبع بالقضايا "الجادّة". وهو كلّ ما يريده ويدعو إليه عموم المتكلمين في الشأن السينمائيّ والفنيّ عموما. للأسف، لا أستطيع أن ألغيَ عن الفنّ قيمته الجمالية والإبداعية وأختزله في كتلة من القضايا. لا أستطيع أن ألغي الفرق بين مشاهدة الأفلام ومشاهدة الأخبار.



أكتب هذا المقال وأنا أستمع ـ فيما أستمع ـ إلى أغنية الفيلم الرئيسية "على حلّة عيني". وهي أغنية تراوح بين اللطف والشراسة، وتشهد بعبقرية الموسيقيّ خيام اللاّمي وموهبة كاتب الكلمات غسان عمامي. للأسف لم تبد كل الأغاني التي قدّمتها الفرقة الموسيقيّة بذلك الجمال، وأحيانا شارفت على الابتذال، هذا عدا التوزيع الموسيقيّ الذي يجعلها أحيانا "تدور، تدور، تدور، تدوووور"! ولكنّني لستُ خبيرا في الموسيقى، ولا أملك حقّ إبداء رأيي في آداء بيّة المظفّر (بطلة الفيلم) الغنائيّ. أنا فقط لا أعتقد أنّ ما قُدّم خلال الفيلم يمكن أن يعبّر بدقة عن الأثر الذي تركته في النفوس آنذاك بعض أغاني بنديرمان، وفريد وغيرهما. كما لم يبدُ على أعضاء الفرقة في حياتهم اليوميّة أي تفصيل يوحي باهتمامهم بما يحدث في البلاد. هناك قصص الحبّ، وهناك البحث عن العروض، وهناك البحث عن مكان يصلح للتدريب، وهناك مشكلة إقناع الأهل بقيمة العمل الفنيّ، وهناك الجدل حول الصدام مع النظام، لكن لم يكن هناك أبدا أيّ تصوّر للنظام. لقد حمل عنوان الفيلم نفسه هذا التناقض دون أن يدري، فهو يفترض أن "فرح" كانت مغمضة العينين قبل أن يحدث لها ما حدث، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن مدى وعيها بالكلمات التي تترنّم بها (أجل أعرف أنها ليست كلماتها، وهذا لا ينفي تبنيها إياها). لقد حاولت ليلى بوزيد خلال الفيلم التأمّل في صائفة 2010 وهي صائفة شبابية بامتياز شهدت خلالها العاصمة تحركا شبابيا شهيرا عرف بإسم "نهار على عمّار" (22 أيّار)، لكن يبدو أن أعضاء الفرقة الذين ينقدون القمع لم يسمعوا بهذا النهار بعد. لقد بدا كأن المواضيع التي ينبغي أن تناقشها الفرقة، قد عوّضت جميعها بقصة حبّ تحيلنا إلى "قضيّة" أخرى.


اِشتهر النوري بوزيد بمواقفه الداعية إلى الحرية الجنسية، أو المندّدة بالقمع الجنسيّ والكبت الجنسي، وقد كان ذلك سببا في الجدل الكبير الذي يطرأ كلما أخرج فيلم. ويبدو أن ليلى بوزيد ساعية أن تقتفيَ أثر أبيها في هذا الجانب. ففكرة الفيلم أساسا تتعلق بالمشهد القمعي الطاغي على البلاد قبالة الثورة، وهو مشهد بطله الأساسيّ نظام بن عليّ، وضحيته الأساسية هي الشباب. ويأخذ القمع خلال الفيلم أشكالا أخرى غير مباشرة، كقمع الوالدين (إجباره على توجّه بعينه في الجامعة مثلا)، والقمع الطبقي (طرد الخادمة وإن كانت الرمزية عفويّة برأيي) والقمع الاجتماعيّ(عمال المناجم، النظرة الدونية للشباب الخ). على أنّ القمع الجنسيّ يبدو طاغيا في الفيلم، إلى حدّ الابتذال. إن الجنس هنا في كل مكان، وإنّ كل علاقة مختلطة هنا، تفوح منها رائحة الشهوة، فهناك علاقة البطلة وقائد الفرقة، وهناك ما حدث مع مدير أعمال الفرقة (عليّ) وهناك ما حدث مع مراقصها في الملهى، وهناك علاقة أمها بحبيب الماضي، وهناك طرق القمع الوحشية التي ينتهجها النظام، وهناك مشاهد كثيرة أخرى، لا تكاد تضيف شيئا للسيناريو، سوى أنها تثري هذا المشهد الإباحي الضخم الذي يطغى بحضوره حتّى وهو ليس المعنيّ الأساسيّ بالعمل. إنّ ما جعلني ألفت النظر إلى هذه المسألة، هو علاقة أم البطلة (غالية بن عليّ) بحبيبها السابق (يونس الفارحي). فوجود الرجل في القصة، لا تأثير له على الإطلاق، يمدّها بمعلومتين، كان يمكن أن يقوم بهما أي شخصين آخرين دون أن يغيّر ذلك من مجرى الأحداث. لكنّ ليلى بوزيد تخلق قصة كاملة من وراء ذلك، تنتهي بإقدام المرأة على إباحة نفسها من أجل ابنتها. ماذا يفترض من المشاهد أن يفهم من مشهد لا أهمية له كهذا؟ وهل من حقّنا أن نتساءل إن كانت رائحة الكبت الطاغية على الفيلم، منبعثة من المجتمع التونسيّ، بقدر ما هي منبعثة من صاحب العمل نفسه؟


إن تساؤلي ليس اتهاما، ولا أجد من المعيب أن يعانيَ المرءُ من الكبت، لكنّ العمل الفنّي يسمح باختلاجات لاواعية يجب الاستماع إليها والتأمل فيها لأنها جزء من الصورة الفنية، ولأنها أهم عناصر البناء الجماليّ. وقد يكون عدم استساغتي للعمل على صنعته، هو هذا العجز الذي لمسته من الفيلم، على خلق مشهد أكثر جمالا. أعترف أنها مسألة ذوقية بالأساس. لكن لنكن متّفقين على الجانب الواعي من العمل على الأقل. فالفيلم شأنه شأن كل عمل فنّي ذي خصائص أدبية، هو نوع من الخطاب. ولكلّ خطاب جمهور مخاطَب. ولا أعتقد أن ليلى بوزيد تجهل هذا الجمهور الذي تخاطبُه بفيلمها، ولا أعتقد أنها تجهل خصائصه الثقافية والحضارية. لذلك فقد قدّمت له صورة لطيفة عن الفنانين الشباب، والفرق الشبابية، يمكن أن يأنس إليها ويطمئن إلى أبنائه حين ينضمّون إليها. أتساءل كم شابّة سيمنعها أبواها من الغناء بعد مشاهدة العالم الذي تعيش فيه فرح؟


لأنّنا لا يمكن أن نخرج الفيلم عن سياقه، فهو فيلم جيد جدّا، ويمكن أن نهنّئ عليه أصحابه الذين يخوض أغلبهم تجربته السينمائية الأولى. ولكن لأننا نعتبر أنه من الضروريّ التطلع إلى ما نحتاج إليه، فالفيلم محبط، تذكرنا قصته بفيلم "ميكروفون" لخالد أبوالنجا، وتعيدنا أفكاره إلى ما نسمعه يوميا في وسائل الإعلام، ومشاهده أقرب إلى الوجبات السريعة التي تصلح للاستهلاك التلفزيّ لا للعمل السينمائيّ.


Sunday, December 13, 2015

ما وراء الدعاية فوق "جسر الجواسيس"

ستيفن سبيلبرغ لا يلعب بالنرد في أفلامه. كل الأمور التي يعرضها، حسب لها حسبتها، ودقق لها وجودها وصفاتها وعناصرها. لذلك فمن الطبيعي أن أتساءل عن سبب عودته إلى أجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتيّ، في هذه الفترة الحرجة بالذات من القرن الحادي والعشرين.

يقدم لنا الإبن المدلّل لهوليود فيلما تاريخيا جديدا، بعد الروائع التاريخية الشهيرة التي قدّمها وعرف بها، خصوصا "قائمة شندلر" (1993) و "إنقاذ الضابط ريان" (1996). وكعادته في أفلامه التاريخية، يركز سبيلبرغ على الصورة كأداة توثيقية حادّة وبليغة فيحتفي بتفاصيلها ويعود بها إلى خمسينات القرن الماضي بدقة لا يجيدها غيره. لا نتحدث هنا عن صندوق التلفاز أو أشكال السيارات، أو ذلك المشهد العام للشوارع الذي تعتمد الأفلام لتوحي لنا بأننا في حقبة الخمسينات. بل نحن نتحدث عن دقة أكبر في اختار نوع ذلك التلفاز، وأنواع السيارات، وأسماء الماركات التجارية. نتحدث عن قدرة سبيلبرغ على استنطاق الخلفية، وشدّ الانتباه إلى ماوراء الحدث وماوراء البطل.

لقد رفع سبيلبرغ من خلال عمله الدقيق على التفاصيل من مستوى الواقعية في "جسر الجواسيس". لكنّه دعمه بآلية ثانية لعلّها تمثّل فتحا جديدا في سينما هذا الرجل. يعرض الفيلم لنا وقائع تاريخية حقيقية عن بدايات المحامي الأمريكي جيمس دونوفان (توم هانكس) مع عالم الجوسسة في فترة الحرب الباردة. حيث يروي كيف تحوّل من محام اختير عشوائيا لإنابة جاسوس سوفياتي أمام المحكمة، إلى ممثل غير رسمي للدولة، في صفقة تبادل أسرى مع الطرف السوفياتي في برلين المقسّمة. وخلال هذه الرحلة الرهيبة، نتابع بأنفاس لاهثة ما بدا أنه فيلم أكشن عن الجوسسة، غير أنه خال من الرصاص والقذائف والغبار (الحقيقة أن الرصاص لا يمكن أن يغيب عن مشهد برلين المزري لكنني أتحدث أساسا عن الخطّ الرئيسي للقصة، فالرصاص هنا جزء من الخلفية التي تحدثت عنها). كيف استطاع سبيلبرغ أن يقاوم هوايته المحببة في إغراق الشاشة بمشاهد الحركة التي صنعت منه مخرجا فذّا والاعتماد أساسا على الحوار كوحدة بناء للقصة؟ كيف استطاع أن يتجاوز فكرته الديناميكية في التصوير، إلى الاعتماد على الأطر الثابتة؟ يبدو أن تلك كانت بصمة كتاب السيناريو ومنهم الأخوان كوين الشهيران (فارغو، لا أرض للعجائز، ليبوفسكي الكبير…) إذ قدّما لسبيلبرغ نصّا واضح المعالم، متماسك البنية، سلسا، ينبني على الحوار، وهو ما يجعلنا نفكر بـ"جسر الجواسيس" كصورة جديدة لفترة الحرب الباردة.

تتميز أفلام الحرب الباردة بأنها أفلام تعتمد أساسا على الأكشن لإبراز التفوق الأمريكي على السوفيات، حيث كانت هوليود أبرز الأسلحة الأمريكية في وجه المدّ الأحمر. في فترة الخمسينات والستينات خصوصا، كان على البطل الأمريكيّ أن يخوض نزاله الأخير مع السوفيات، وكان على المقاتل الأمريكيّ أن يخرج من الجحيم الذي أعده السوفيات. وكان على الحكومة الأمريكية أن تنقذ العالم من الخطر النووي السوفياتيّ. لقد انتشرت حمّى الخوف من الحرب النووية إلى درجة أثارت حفيظة الكثير من السينمائيّين الأمريكيين الذين عارضوا هذا التوجه فقدموا أعمالا خالدة في نقد الخوف والهوس المرضيّ بالقنبلة النووية (المرشّح المنشوريّ لجون فرانكنهايمر، الدكتور سترانجلوف أو كيف تعلمت التوقف عن الخوف وحب القنبلة لستانلي كيوبرك). لقد رأت هذه الأعمال أن الخوف المفرط من الآخر، يخلق نوعا من التطرّف الذي قد يدفع إلى الجنون. وهذا هو المنحى الذي انتحاه سبيلبرغ في "جسر الجواسيس". ليس من العبث أن يعوّل الفيلم على الحوار كبنية سردية، وآلية لدفع الأحداث، ذلك أنه يحاول أن يبرز قيمة الحوار في تفادي الكوارث. يذكر سبيلبرغ الأمريكيين، بأنّ أحد أبطالهم الوطنيين (جيمس دونوفان) قدّم لوطنه نتائج مبهرة بفضل الحوار وقدراته المتميّزة في التفاوض والإقناع.

ولئن قدّم لنا سبيلبرغ الحوار كوسيلة لتجاوز الخوف، فقد قدّم لنا أيضا ومنذ بداية الفيلم مصدر هذا الخوف. يشي المشهد الأول بعبقرية المخرج وعبقرية من معه. يتلاشى الظلام على مشهد رجل مسنّ ملامحه أقرب إلى البؤس واللامبالاة. تقدّم الكاميرا صورة الرجل في المرآة المقابلة له، ثم تتحرّك مع التفاتته إلى يمينه، لترينا صورته الثانية المنعكسة على لوحة الرسم. من خلال هذا المشهد العبقريّ، يقدم لنا سبيلبرغ نسبية المفاهيم، فصورة الجاسوس على المرآة، تمثّل التصور الأمريكيّ له، تصوّر يقوم على الظاهر أساسا، وعلى ما فعله الرجل ضدّهم، بينما تمثّل اللوحة على اليمين، تصوّره الشخصيّ عن نفسه، وهو تصوّر يقوم على الباطن، وعلى ما يعلمه الإنسان عن نفسه. إنها صورة الآخر عن نفسه. أما الرجل نفسه صاحب الصورتين، فهو يمثل الحقيقة التي تعكس التصورين، وهذه الحقيقة تولينا ظهرها فلا يراها أحد!
وخلال القسم الأول من الفيلم، يركز سبيلبرغ على دعوة المحامي جيمس دونوفان (توم هانكس) مواطنيه إلى تجاوز صورة المرآة، والالتفات قليلا إلى اليمين. وهذه الدعوة برأيي جديرة بالانتباه، لأنها تتجاوز إطارها التاريخيّ. لقد أثبت دونوفان أن الجاسوس ليس خائنا، وإنما رجلا يخاطر بحياته من أجل وطنه الذي يؤمن به، وأفكاره التي يدافع عنها، ولئن كنا نختلف في أفكارنا معه، فهل هذا يعطينا حقا لاحتقاره؟ إن إصرار دونوفان كرجل قانون على احترام الدستور حتى مع ما اعتبر عدوّا للأمة، ليحتاج منا إلى وقفة لفهم أنفسنا، يقول دونوفان لرجل المخابرات "أنا إيرلنديّ الأصل، وأنت ألمانيّ. لكن ما الذي يجعل كلينا أمريكيا؟ إنه كتاب القوانين. ذلك الذي أسميناه دستورا، واتفقنا على بنوده. ذاك وحده لا غيره ما يجعل من كلينا أمريكيا".

لكن يبدو أن دعوة سبيلبرغ هذه لم تلق آذانا صاغية عند سبيلبرغ نفسه! فالرجل رغم تركيزه على أهمية التواصل وفهم الآخر، لم يبدِ ذات الاهتمام في تصويره للاتحاد السوفياتي، بل إنه اعتمد آليات كثيرة لإجراء تلك المقارنة الدعائية السخيفة بين احترام حقوق الانسان في المعسكر الغربيّ وانتهاكها في المعسكر الشرقيّ، وكأنّ الرجلَ لم يتخلّص من ذكريات طفولته العابقة بشيطنة الآخر والخوف منه. لقد تمادى سبيلبرغ في هذا الجانب إلى حدّ البروبغندا السخيفة والطفولية (مشهد ممثل ألمانيا الشرقية حين تجاهل الأمريكيُّ يده الممدودة)، ما يجعلنا نتساءل عن مصادر تمويل الفيلم. إن علاقة سبيلبرغ بدوائر السلطة والقرار أمر بديهيّ برأيي، وآراؤه ومواقفه شدّ ما تمثل السياسات الأمريكية العامة. حينما أنهيتُ الفيلم، تذكرت فيلمه السياسيّ السابق "مونيخ" في فترة اشتدّ تساؤل العالم فيها عن أصول الإرهاب، كما تذكرت فيلمه الأسطوريّ "قائمة شندلر" عن محرقة أوشفيتز وما أقحمه في الفيلم من تلميح لحق اليهود في وطن لهم، في السنة التي أمضي فيها اتفاق أوسلو الشهير… تذكرت كل ذلك وتساءلت في براءة: أهي مصادفة أن يعيدنا سبيلبرغ إلى الحرب الباردة في هذه الفترة؟


Sunday, December 6, 2015

ما يجيده اليهود وما لا يجيده المسلمون

لازلت أتحدث عن السينما هنا، ولازلت أحاول أن أحدثكم عن تجاربي مع أفلام هذا الموسم الجديد. لكن يبدو أنه من العسير التوقف عند فيلم "إبن شاؤول" Saul Fia دون أن يأخذنا الحديث إلى المقارنات المحبطة. لكن، لعلّ تلك المقارنات هي ما نحتاج إليه لنفهم أخطاءنا، وننقذ ثقافتنا.

حين ذهبت لمشاهدة الفيلم المجريّ "إبن شاؤول"، كانت فكرتي المحدودة عنه تنقل لي انطباعا سلبيّا. فهو فيلم حائز على جائزة النقاد في Cannes، وتجري أحداثه أساسا في قلب إحدى المحارق النازيّة. أي أنه احتفاء آخر بالهولوكوست وتذكير بحرمة الطوطم اليهوديّ. أخذت أعدّد الأفلام التي شاهدتها عن المحرقة، هناك قائمة شندلر الأسطوريّ، وهناك عازف البيانو لرومان بولانسكي، و الحياة جميلة لروبرتو بينيني، فضلا عن عشرات الأفلام التي دارت أحداثها في سياق ألمانيا النازية، وتعرّضت بشكل أو بآخر للمحارق وأفران الغاز وقمع اليهود، من "القارئ"، إلى "سارقة الكتب" إلى "ضارب الطبل". حتى فيلم تارنتينو الشهير Inglorious Basterds يمكن أن يُعتبر من بين هؤلاء. يبدو لي أنني شاهدت ما يكفي من مشاهد تصوّر المحرقة، ولم يبق إلا أن أحفظ أسماء الضحايا واحدا واحدا. ماذا سيضيفه فيلم جديد عن ذات المسألة؟ ماهي المشاهد التي سيستنبطها عدا تلك المألوفة جدا والنمطيّة للبطل الألمانيّ الذي أنقذ اليهود بدافع الإنسانية، والجنديّ النازيّ الذي بلغ به التعصب حدّ الوحشية اللامبالية، وعشرات الضحايا اليهود الذين يلقون مصيرهم القاسي بلا رحمة؟ ماهي الأفكار التي سيقدمها عدا تلك المحذّرة من التعصّب، والمحتفية بالحياة ووجوب التشبّث بالأمل حتى النهاية؟

تتابعت حمّى الأفكار في ذهني وأنا أجلس في مقعدي منتظرا بداية الفيلم. أخذت الصور تتشكل في مخيلتي من قبل أن تطفأ الأنوار، هناك حتما شخص يصارع من أجل البقاء حيّا، هناك مخبأ ما، ومشهد يحبس الأنفاس يفصل فيه المخرجُ بين اليهوديّ والنازيّ بجدار رقيق، أو سقف مهترئ، أو ظلام غير متقن. ثم مشهد الحرق أو أفران الغاز، ربما يركز المخرج على حالة اجتماعية مزرية من بين الضحايا لزيادة استمالة المشاهد، وربما يركّز على نازيّ متوحّش للتدليل على قسوة الجريمة النازية.
أفكار كثيرة تراجعت كلّها بمجرد أن بدأ الفيلم، تاركة إيّاي في حالة انغماس مزمنة مع أحداثه المتواترة وحواراته النادرة. لم يكن ذلك لاختلاف سياقه عن نظرائه، وإنّما لأسلوب الصورة الغريب والمميّز. تتبع القُمرة (الكاميرا) بطل الفيلم في توتّر واضح، تاركة خلفه صورة شابحة ضبابية لأشباح تتحرّك، تضيق عيناك وتتسعان بنفس التوتّر في محاولة لفكّ الخلفية، لكنّ البطل يحملك بسرعته وعصبيّته إلى فضاءات أخرى، تضطرّ إلى تأمّل وجهه وقسماته. تفاجأ بالموت يطلّ من عينيه. هو الموت بكلّ تفاصيله، متشكلا في عينيه وحاجبيه وفمه ووجنتيه وتجاعيد أنفه. هو الموت متهيّئا لإنجاز عمله. لم يكن وجه بطلنا خاليا من المشاعر، لكنّه كان خاليا من الحياة. وجه شخص حيٍّ لكنّه مستغرق في الموت حتّى أخمص قدميه.

سريعا ما نفهم السياق. فنحن في قلب المأساة. هذه الأجساد التي يخفي عورتها المشهد الضبابيّ، ستفقد حركتها بدخولها إلى هذه القاعة الضخمة الموصدة. أمّا بطلنا "شاؤول" فهو أحد أعضاء "الوحدات الخاصّة" Sonderkommando، وهي تلك الفرق التي كوّنها النازيون من اليهود للتخلّص من جثث أفران الغاز. ومن قلب فرن الغاز، تنبت حكاية شاؤول مع جثة الطفل اليهوديّ. تطرأ على قلبه رغبة عارمة في دفنه وفق الطقوس اليهوديّة عوض رميه للمحرقة مع عشرات الأجساد الأخرى. تتعاظم الرغبة لتصبح هاجس الرجل الأول. تتوالى الأحداث لتختفي قسمات الموت المرتسمة على الرجل رويدا رويدا، وتعوّضها قسمات رجل مشرف على الغرق، يجاهد من أجل البقاء حيا. يركض هنا وهنا، يخاطر، يشعر بالخوف، يختبئ، يخفي غرضا أو يجري مبادلة سريّة، يكذب، يبتلع ريقه بصعوبة، يرجو المساعدة من هذا، ويصنع أعداء هنا وهناك، يجد نفسه أمام حفرة الموت بدون علامة انتمائه للـ sonderkommando… إنه يعود حيّا!

ثمّ إنّك تذكر أنّ الرجلَ لا يخاطرُ بحياته من أجل حياة طفل صغير، بل من أجل موته! تذكر أنّ كل هذا الذي يفعله، إنما هو من أجل تغيير طريقة تلاشي جسد الطفل البائس تحت الأرض. تنتابك الأفكار تباعا. تتساءل، ماذا ستغيّر صلوات "الربّيّ" (حاخام) في جسد الطفل؟ قد لا تغيّر تلك الطقوس كثيرا في الجسد الفاقد للحياة، لكن يبدو أنها تغيّر كثيرا في جسد شاؤول.
يحيلنا الفيلم إلى الدفن كقيمة أنثروبولوجية. إنّ الدفن هو أقدم الطقوس الدينيّة المعروفة، وهو متعلّق بالثقافة البشرية بشكل ملفت. وربما يمكن القول إنه أحد أشكال تعبير الإنسان عن نفسه، وأحد أهم السلوكات التي تميّز الإنسان. يحتفي الفيلم بهذه المفارقة الغريبة، التي تجعل من الدفن رمزا للحياة. ففي مشهد الحرب والقتل والحرق والجثث واللامبالاة، لا يمكن لشخص مثل شاؤول إلا أن يبحث في أفق رؤيته الضيق على ما يمكن أن يبقيه إنسانا، ولقد وجد ذلك في فكرة دفن طفل صغير على الطريقة اليهودية. لذلك حين يتّسع الأفق قليلا، أمكن لشاؤول أن يجد "إبنه" في حالة أفضل من الموت، وأن يبتسم أخيرا كآخر مراحل تخلّصه من صورة الموت التي كانت جاثمة على وجهه.

حين ينتهي الفيلم، تجد نفسك قد شاهدت فيلما آخر عن المحرقة، لكنّك لم تشعر بأي تكرار، ولم يبد أنّك مررت بالكليشيهات التي كنت تنتظرها. تمرّ العناوين نفسها بذهنك مرة أخرى، وتكتشف حقيقة أنها رغم تشابهها الظاهريّ، متباينة جدا. لو أنك عوّضت سياق المحرقة، بأية محنة إنسانية أخرى، وحافظت على نفس السيناريو والأسلوب والمشاهد، لوجدت نفسك أمام مجموعة من الأفلام التي لا يربط بينها أي شيء! إنها أفلام مختلفة تماما، بعضها ساخر ( Inglorious Basterds) وبعضها سوداويّ (قائمة شندلر) وبعضها شديد التشويق كأفلام الإثارة (The pianist)... بل إنها تقدم أفكارا مختلفة، وتستخرج من نفس المأساة، معانٍ عميقة ولا يشبه بعضها بعضا. تبتعد كثيرا عن المباشرتية، رغم طابعها التوثيقيّ في الكثير من الأحيان، لتلمس الإنسان، وتحتفي بالدراما قبل التاريخ. من الطبيعي أن هذه الأعمال الملفتة، تجد لها صدًى في العالم، ويحتفي بها الغرب ويرصد لها الجوائز. ومن الطبيعي أن تحقّق هذه الأعمال أغراضا موازية كتدعيم التطبيع مع اليهود، والتذكير بحرمة المحرقة، ودعم عقد الذنب تجاه اليهود، بل إنها أحيانا تذهب إلى خلق علاقة شرعية بين المحرقة والكيان الصهيونيّ، مثل ذلك الانتقال السينمائيّ المذهل والعبقريّ الذي أنجزه الأمريكيّ اليهوديّ سبيلبرغ في نهاية فيلم قائمة شندلر. إنه طبيعيّ لأن ذلك ما ينبغي أن يفعله أي شخص يحاول الترويج لقضيته. أما ماهو غير طبيعيّ، فهو ما يفعله السينمائيّون العرب.

كم عدد الأفلام العربية التي خاضت في أيام الاحتلال ووثقت لجرائم الاحتلال؟ إن أهمّ هذه الأعمال إمّا غير عربيّ (معركة الجزائر إيطالي) وإما مغرق في التوثيق والتمجيد والمباشرتية (أسد الصحراء) وفي الحالتين، فهي أعمال كبيرة من حيث الميزانية واختفت موضتها مع التسعينات. ولم يبق غير أفلام النكبة الفلسطينية التي تعتبر استثناء لأنها ليست تاريخا بقدرما هي واقع يوميّ.
كم عدد الأفلام العربية التي احتفت بالميراث الثقافي العربيّ؟ وكم عدد الأفلام التي خاضت في تاريخ الإسلام؟ لا، ليست كثيرة، بل هي فيلم واحد يتكرّر دائما، في أشكال مختلفة. إنها العناصر ذاتها سوف نجدها مرارا وتكرارا. خالية من كل بعد إنسانيّ، مفعمة بالتمجيد، وبالحذر من ارتكاب الحماقة التي ستحتجّ عليها كلّ الملل والنحل والمذاهب المختلفة. حينما حاول مصطفى العقاد كتابة سيناريو فيلم الرسالة، وجد نفسه أمام آلاف الألغام المرصودة من الهيئات الحكومية والدينية، هذا ممنوع، لا تتحدث عن هذا، لا تجسّد ذاك، في النهاية قدّم لنا فيلما عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، بطله (شخصية حمزة رضي الله عنه) قتل في وسط الفيلم!
والمشكلة أن كل أفلام السيرة وحتى الأعمال الدرامية تحافظ على ذات الحبكة التي قدمها العقاد، ربما درءا لوجع الدماغ، فلا بد من وجود هندٍ ووحشيّ وأحد، ولا بد من بلال وآل ياسر رضي الله عنهم. وحين الحديث عن صلاح الدين، أو خالد بن الوليد أو غيرهم من القادة العسكريين، نجد أنفسنا أمام ذات العناصر، كأننا أمام تقرير إخباريّ، فمن منّا يريد الاستماع إلى ذات الخبر مرّتين؟ أليس حريّا بنا اليوم، أن نتعلّم من اليهود صنعة السينما، وأن ندرك أخيرا، قيمة السينما ومدى تأثيرها في العالم؟

 

Sunday, November 15, 2015

غريب مثل الكركند

تقدّم ويكيبيديا إسما عربيا غريبا لما يعرف في الإنكليزية بحيوان Lobster، ألا وهو الكركند. تعرفه أغلب الشعوب العربية بإسم جراد البحر، لكن يبدو أن هذه التسمية تشمل أصنافا كثيرة من بينها ما يسمّيه الانكليز Lobster. جراد البحر تسمية هلامية، لا حدود دقيقة لها، والكركند نفسه حيوان غريب، يعيش طويلا، ويحافظ على قدرته الجنسية حتى الممات، ودمه أزرق مثل دماء النبلاء. إنه ذلك الحيوان الذي لا يخطر على بال أحد منّا إذا ما سئلنا عن أيّ حيوان نتمنّى أن نكونه، إنه رمز جيّد للفرادة المتواضعة، الفرادة التي لم تختر أن تكون كذلك. هل كان دايفد (كولن فارل Collin Farrel) واعيا بذلك حينما اختار أن يكون حيوان كركند إذا ما فشل في العثور على شريك جديد؟ الإجابة الأقرب هي لا، لكنّنا سنفهم ذلك لاحقا. دعوني في البداية أقدّم لكم أولى إبداعات المخرج اليوناني يورغس لانتيموس Yorgos Lanthimos الناطقة بالانكليزية : الكركند أو The Lobster.

اشتهر المخرج اليوناني من خلال فيلم ناب الكلب Kynodontas الذي قدّمه سنة 2009 وحصد به جائزتين في مهرجان كان، ورشّح به للأوسكار. ولذلك فقد استعمل نفس الأدوات تقريبا في فيلمه الجديد، الكركند. يذهب بنا إلى عالم مقوّض مخيف، ومضحك في آن، تضوع السريالية من كل ركن من أركانه، ولكنها تلك السريالية التي تعيد تشكيل الواقع إلى شيء أكثر واقعية، وأكثر رعبا، إنها تلك السريالية التي تصنع عالما مألوفا جدّا ومفهوما رغم كلّ انحرافاته الشكلية، نتابع رحلة البطل التي تنتهي بالتخلّص من هذا العالم بأقسى أشكال التمرد. إن هذا النوع من الأعمال محفوف بالمخاطر، لأنه يعتمد على مفاجأة المشاهد وتحدّي حسّ التوقّع فيه، لكنّ لانتيموس لا يخيب في ذلك. فمن غير المفاجئ أن يفوز بجائزة النقاد في مهرجان كان لهذه السنة، ويرشح بقوة لجائزة الفيلم المستقل البريطانيّ، ولن يكون غريبا أن نجده في قائمة ترشيحات الأوسكار للسنة القادمة.

يقدّم لنا لانتيموس عالما يرفض الوحدانية، يقرّر أن الناس لا تعيش إلا أزواجا، وكل من توفّي صاحبه أو تركه، يجبر على العيش في فندق العزاب. تشرف مديرة الفندق وزوجها على إعادة تأهيل العزاب والعازبات، ليدركوا قيمة الحياة الزوجية، حياتهم تصبح عدّا تنازليا يتوقّف إذا ما وجد أحدهم رفيقا جديدا لحياته يمنحه الحق في العودة إلى المدينة. أما إذا ما انتهى العدّ، فهي نهاية وجوده البشريّ، يختار أي حيوان يشاء ليتحوّل إليه. تتوسّع القواعد وتمتدّ التفاصيل مع توغّل البطل دايفد في مغامرته الغريبة والرهيبة في الفندق. لنجد أنفسنا في ما بعد معه في عالم جديد أكثر توحّشا وأقل زخرفة، قواعده نقيضة تلك التي في الفندق، ففي الغابة، يتوجب على المرء أن لا يقع في الحب، وأن لا يراقص أحدا أو يشترك معه في لعبة غزل. إنه عالم الفرادى! وبين العالمين، يبحث دايفد عن ذاته الرمادية، يحاول أن يعبّر عن وجود عاجز عن التقولب، عاجز عن التكيف مع شريعة الغاب، ولا مع بروتوكولات الفندق.

إنها ليست قصة تمرّد بالمعنى السائد، بل هي قصة خروج عفويّ عن خطّ المجموعة، ربما لأن الفرد في مفهومه متمرّد، متميّز، مختلف، تجربة تحمل قوانينها الذاتية ولا تحتمل الالتزام التام بالخطوط الخارجية. هذه هي الإجابة عن سؤالنا المدخليّ، فدايفد لم يكن واعيا، بل كان يحاول جاهدا التكيف مع القالب الذي وضع فيه، لقد اندفع نحو أخطر نساء الفندق طـرّا ليخطب ودّها، مارس كلّ أشكال النفاق الاجتماعيّ الممكن ليحظى بثقة الناس من حوله، وأولئك الذين يشرفون على النظام، لكنّه وجد نفسه في النهاية مارقا، وجد نفسه غريبا مثل الكركند.

لكنّ فكرة الخروج عن الخطّ ليست إلا الرتوش الأخير للوحة التي رسمها لانتيموس. فبقدر ما اعتنى المخرج بفرادة شخصيته الرئيسية دايفد، بقدر ما اعتنى بالتعبير عن معياريّة عالمه. ففي هذا العالم الذي يبدو في ظاهره غريبا، يحتفى بالحب على أنه التصوّر الوحيد للتجربة الدنيوية، تقام له المتاريس والحدود والصفات، فعلاقة الحب يجب أن تنشأ بين شخصين، واعيين بمشاعرهما، لا مكان لأنصاف المشاعر، لا مكان للتردّد أو الحيرة، أو التجارب الجانبية، وعلاقة الحب تعتمد أساسا على التشابه، فالطرفان يجب أن يتشابها في عيوبهما، ربما يعرجان، أو ينزفان دما من أنفيهما، أو يعانيان من برود تام تجاه الآخرين. الحبّ ضروريّ في حياة المرء لأسباب لا داعي للمرء أن يبحث عنها، فقد حددها المجتمع سلفا : اليد الواحدة لا تصفق، المرأة بحاجة إلى من يحميها، الرجل بحاجة إلى من يعتني به. وسط كل هذه الصرامة من الطبيعي أن يجد النفاق له منبتا خصبا. كانت تلك مهمّة مجتمع الفرادى The loners الذين يعيشون في الغابة، حيث كشفوا عن زيف العلاقات الناشئة طبقا لمعايير الفندق.
لم يكن مجتمع الفرادى الجنّة البديلة. لقد كان مجتمعا آخر له معاييره المختلفة، وله تصوّره الخاصّ عن التطرّف وسلب الحريات. مرة أخرى نجد في هذا المجتمع صورة مألوفة رغم غرابتها : الحبّ ممنوع هنا، الغزل ممنوع، لا أحد يساعدك إن وقعت في مصيدة، ولا أحد يحفر لك قبرك إن متّ. لم يختر دايفد مجتمع المدينة، ولا مجتمع الفرادى، ولم يستشره أحد بخصوص القواعد التي يجب اتباعها، ولا العقوبة التي يجب أن تتخذ. بل لم يختر أن يكون غريبا عن كليهما، وتلك هي التراجيا التي ترسم واقعنا نحن أيضا.
يصوّر المجتمعان في مستوى آخر، ثنائية ذكية بين الفضاء الحضريّ الراقي، القائم على الزيف، وبين الفضاء البدائيّ المتوحّش القائم على الحقيقة. كأن لانتيموس يرفض الجنوح في الزيف أو في الحقيقة. إن الإنسان بحاجة إلى كليهما.

إن الحبّ بحسب لانتيموس، ليس علاقة معدّة سلفا، ليس ما يجوز فعله وما لا يجوز، ليس قواعد حتمية الاتباع، ولكنّه تعبيرة عن التمرّد، إنّه لا يتجلّى إلا حينما تكون كلّ الظروف غير ملائمة، إنه أعمى ليس لأنه لا يرى، ولكن لأنه لا يريد أن يرى، لا يريد أن يتسنّى بسنن الآخرين، لا يريد أن يشبه أحدا، لأن الحبّ هو الذات نفسها.


Tuesday, November 10, 2015

الخيال العلميّ والحقيقة العلميّة

أجلس في مقعدي داخل قاعة السينما، وأحاول أن أثبّت نظارات السينما ثلاثية الأبعاد فوق نظارات الرؤية العاديّة، بينما ذهني يسبح في بحر من الأسئلة: كيف ستكون عودة ريدلي سكوت إلى الخيال العلمي؟ فيلم آخر عن الفضاء، ماذا سيضيف لما قدّمه Gravity و Interstellar؟ مات دايمون في المريخ ولافتة ضخمة تقول "عودوا به إلى بيته"، ألا يبدو أنّني رأيت ذلك مرّتين من قبل (راجع إنقاذ الضابط ريان، وإنترستلر)؟ بدأ بناء الفيلم يتشكّل في ذهني من آلاف الصور النمطية التي عوّدتنا عليها هوليود، وقبل أن أنقذ البطل، هبّت العاصفة المرّيخيّة على الشاشة، وانهار البناء النمطيّ رويدا رويدا. لشدّ ما أدهشني أنّ الفيلم الذي يبدو في ظاهره رواية نمطية جدا، يحطّم الكثير من الكليشيهات، ويصنع رؤية مثيرة لفنّ الخيال العلمي. ولأنّ كاتب الرواية التي قدّمها سكوت على الشاشة (أندي وير) مهندس برمجيات فاسمحوا لي أن أجاريه في أسلوبه الرياضيّ، و أقدّم لكم فيلم رجل المرّيخ (The Martian) انطلاقا من الكليشيهات التي تجاوزها.

1 ـ ناسا لا ترسل إلى الفضاء سوى مفتولي العضلات:
ربما تجاوزت بعض الأفلام الأخرى هذه الصورة النمطية للبطل في الفضاء، لكنّ البطل دوما يستعين بقدراته القتالية والعضلية للوصول إلى مبتغاه. بطل الفلم "مارك واتني" عالم نباتات ومهندس يجد نفسه وحيدا في المريخ بعدما رحل طاقم بعثة ناسا لاعتقادهم بموته. مهمّته أن يظلّ حيا حتّى مجيء البعثة القادمة، وهي مهمّة تحتاج إلى العلم أساسا. لقد كان مارك رجلا ذا بنية جسدية ممتازة، ولقد كان ذلك ضروريا لتحمّل الحياة لأكثر من عامين خارج الأرض، لكنّك لن تشعر به، إنّها مسألة ثانوية مقارنة بالعمل الذهنيّ الخارق الذي بذله للبقاء.

2 ـ المهوس بالتقنيات والعلوم هو رجل مملّ في الغالب
ربّما الأمر كذلك بالنسبة لرفاقك الذين تعرفهم، لكنّ الأمر يختلف حتما مع بطلنا. لقد واجه محنته بمرح كبير. وكان تعامله العلميّ مع العقبات التي تواجهه مثيرا إلى درجة حوّلت العمل إلى فيلم أكشن حقيقيّ. سوف تنتظر في شوق بروز البراعم من الأرض، سوف تراقب في وجل تجربة استخراج الماء من الهايدرازين، وسوف تفكّر في قلق في طريقة التخاطب عبر كاميرا لا تنقل إلى صورة بعد 20 دقيقة من إرسالها… مع مارك، تتحوّل الحقائق العلمية إلى شيء مسلّ، وتتحوّل العلوم التي تهكّمت طويلا من عدم حاجتك إليها إلى أشياء ملموسة يدهشك أنها من حولك وتبقيك حيا دون أن تشعر!

3 ـ سينما الخيال العلمي عند ريدلي سكوت، هي سينما الخوف والتشاؤم
يبدو ريدلي سكوت في الغالب متشائما حينما يتحدّث عن المستقبل أو عن الفضاء. فخارج الأرض، سوف نجد في الغالب مخلوقا أكثر تطوّرا، جهزته الطبيعة تماما لافتراسنا (Alien) أما على سطح الأرض، فستحدث حتما تلك الطفرة التي تمنح الآلات الذكية وعيا ذاتيا يجعلها معادية للكيان البشريّ… كما أنّ الحديث عن المريخ في مدوّنة السينما الأمريكية، ليس حديثا لطيفا. لكنّ سكوت ومن ورائه الكاتب آندي وير يقطعان مع هذه الصورة النمطية، فيبدو المريخ أكثر واقعية، وبساطة، وأقلّ غموضا، بينما تتحلّى الشخصيات بطابع مرحٍ يضفي على الفيلم شعورا عارما بالتفاؤل رغم حضور الموت الدائم. لم يكن حبّ قائدة البعثة ميليسا لويس لموسيقى الديسكو المرحة أمرا اعتباطيّا، إنها الموسيقى التي ستكسر وحدة البطل، والفراغ الذي يفترض أن تحدثه عزلة أحدهم في كوكب المريخ. ريدلي سكوت ذلك الكهل الانكليزيّ الوقور، تجاوز صورته النمطية نفسها من خلال هذا الطابع المرح للفيلم، بل الكوميديّ أحيانا، لنجد أنفسنا أمام فيلم يقدّم رؤية شديدة الواقعية لمستقبل الغزو الفضائيّ. لم يحاول الكاتب استنباط تقنيات أو آلات غريبة لا نعرفها، بل حاول فقط تخيل شكل الأدوات التي نملكها اليوم في شكل أكثر تطورا، في شكلها المفترض بعد 10 سنوات من الآن. ربّما اضطرّ أحيانا لتجاوز منطقه للضرورة الروائية (العلبة العازلة للإشعاعات النووية يفترض أن تكون شيئا لا نعرفه، يسمح بوقايته من السرطان) لكنّه في العموم قدّم تصوّرا عقلانيا إلى حدّ بعيد للمستعمرات الأولى للإنسان خارج الأرض. هذا التصور العقلانيّ يعيد إلى الأذهان فكرة جول فيرن عن الخيال العلمي، أو فنّ عقلنة الخيال. إن "رجل المريخ" أشبه برؤى تبشيريّة لغد الإنسان.

4 ـ الخيال العلميّ هو تجاوز للحقيقة العلمية
في حين تتجه أغلب أفلام الخيال العلمي إلى تجاوز العلم عبر العلم نفسه، يأتي رجل المريخ ليعقلن الخيال، أو ليمنح العلمَ الخيال المناسب لتقدمه. لقد تأسست سينما الرحلات الفضائية على قدرة الإنسان اللامحدودة على التنقل في أرجاء الكون، دون أن تشرح لنا أو تبحث في مدى إمكانية هذا الطرح. في فيلم إنترستلر ظلّ أحد الرواد 23 سنة بانتظار رفاقه، دون أن يشرح لنا أحدهم ماذا أكل خلال تلك الفترة. ولا أية طاقة سمحت للسفينة بالقيام برحلتها بين النجوم. في فيلم رجل المريخ، تصرّ الأرقام على تثبيت حضورها الدائم في رحلة البطل. من خلال الرزنامة الدقيقة التي تذكّرنا برزنامة روبنسون كروزو، ومن خلال الحسابات الدقيقة التي أقحمنا فيها الكاتب لمعرفة قدرة السفينة هرمز (رسول الآلهة في الميثولوجيا اليونانية) على العودة إلى المريخ، بل إن واقعية التصوّر للموارد المتاحة، كانت محرّكا هامّا للخطّ الدراميّ.
لقد اعتبر الكثيرون أن رجل المريخ هو مزيج من أبولو 13 (بطولة توم هانكس) و الملقى بعيدا (Cast Away لنفس الممثل). لكنني أخالفهم الرأي، وأعتبر أن العمل هو أشبه بروبنسون كروزو في نسخته الفضائية. ومثلما كانت الرواية الانكليزية نوما من الوعي الخفيّ بمحيط الإنسان الخارجيّ، وبمجال معرفته المتمدّد، فإنّ رجل المريخ لا تختلف كثيرا وإن اتّسع المجال إلى حدّ يناسب الألفية الجديدة. هل يمكن بموجب ذلك الحديث عن "خيال" علمي؟
إن تنوّع الأعمال المنضوية تحت هذا الصنف الأدبيّ، يجعل السؤال مشكلة فعلية. خصوصا وأن هذا الفيلم يبدو "واقعيا" إلى درجة كبيرة. بل إنّه لا يخفي واقعيته قطّ، فالبطل ينتشل من أعماق الكوكب القاحل، تاريخ الصراع البشريّ مع المريخ، من خلال روبوت "Pathfinder" الذي أطلقته ناسا في تسعينات القرن الماضي. تلك اللفتة العبقريّة، تجعل من صراع مارك واتني، امتدادا لما تحقق بالفعل، وتختزنه ذاكرتنا لا ذاكرة كتبنا. فهل يمكن القول إن الفيلم "علميّ" وليس "خياليّا"؟
إنني أفضل العودة دوما إلى رائد الخيال العلميّ، الفرنسي جول فيرن، فهو حين قدّم تصوّراته المستقبلية، لم يكن يبحث عن استغلال بعض الحقائق العلمية لتقديم مشهد خياليّ. بل هو سمح لخياله بالجنوح وسط الممكن العلميّ، ليقدّم مشاهدا قد تكون يوما ما واقعية. وأعتقد أن هذا ما قدّمه سكوت و وير بالفعل.

رغم كل ذلك، يجب التذكير بوقوع الكاتب في نفس المشكلة التي وقع فيها نولان في إنترستلر، حيث إن العاصفة التي تسببت في إصابة البطل وبقائه على المريخ، لا يفترض أن تُحدث له جرحا ولو صغيرا لضعف الضغط الجوّي في المريخ. وهو ذات الضعف الذي استغله الكاتب في ما بعد لإطلاق بطله في مكوك لا سقف فيه. أجل كان الكاتب يعلم تماما لا منطقية فكرته، بل وصرّح أنه كان بإمكانه افتعال انفجار أو خلل تقنيّ لكنّه فضّل الاعتماد على الطبيعة لتركيز الصراع بين مارك والمريخ. فكرة جيّدة لكنّ ذلك لا يمنع من كونها نقطة ضعف رهيبة في العمل!

5 ـ هناك دوما شخص سيء لتكتمل الدراما
حتّى حينما تواجه الأرض كارثة طبيعية، أو حينما يحاول الجميع إنقاذ شخص ما، يجب أن يكون هناك شخصية معرقلة، صاحب قرار في الإدارة، لا يحبّ ما يحدث ويريد أن يغير الأمور لصالحه. يبدو أن مدير ناسا هو من يلعب هذا الدور، لكننا مخطئون. كلّ شخص في الفيلم يحاول أن ينظر إلى الأمور من الزاوية التي تناسب طبيعة عمله. المشرف على البعثة ميتش هندرسون (Sean Bean) يهتم أكثر بإنقاذ الجميع بمن فيهم مارك. المدير، بحكم طبيعة علمه، يحاول تخفيف الأضرار قدر ما أمكن. المسؤولة عن التواصل مع الإعلام، تفكر دوما في ردود فعل الرأي العام. وهكذا. أحيانا تتناسق المواقف وأحيانا تتضادّ. يمكن أن نقول إن تمرّد الطاقم أمرٌ نمطيٌّ جدا في الأفلام الهوليوديّة، لكن مرّة أخرى يقدّم المشهد في شكل معقلن جدا.
لقد بدت ناسا في بعض الأعمال الأخرى منظمة تعتمد على رجل واحد تقريبا (عد إلى إنترستلر). لكن في هذا الفيلم تظهر الوكالة في شكلها المعقلن الواقعيّ، عمل جماعيّ، و خليط كبير من البشر من مختلف الأعراق والاختصاصات. يجعلنا الفيلم نقترب أكثر من أولئك الأشخاص العجيبين الذين يهتفون كلّما انطلق صاروخ ما. يجعلنا نفهم ماذا يفعلون، وأي إرهاق يسبّبه العمل على شاشاتهم.

6 ـ الفضاء هو عالم أمريكيّ خالص
أفلام الفضاء عموما فرصة للشوفينية الأمريكية لاستعراض مواهبها. لحسن الحظّ، فكاتب هذا الفيلم عقلانيّ إلى حدّ تجاوز تلك الصورة المهترئة. في مكاتب الوكالة، نجد هنديا مشرفا على رحلات مكوكية، وامرأة شقراء تدرس صور الأقمار الصناعية، ورجلا آسيويّا مشرفا على أحد مراكز التصنيع، وفتى أسود عبقريّ يأتي بحلّ حاسم لإنقاذ البطل.
بل إن الكاتب يهرع إلى وكالة الفضاء الصينيّة لطلب المساعدة، رغم امكانية استعمال مكوك أمريكي (لو أنه لم يفجّره). لقد اختار الكاتب مرة أخرى طريق الواقعية والاعتراف بالمشهد الفضائيّ الذي يقدّم الصينيّين كتنين جديد يجوب الفضاء الخارجيّ. لقد اختار مرة أخرى التصوّر الأنسب والأكثر منطقية لفضاء الغد. وكذلك الخيال العلميّ الحق.

7 ـ الكاتب غير راض عن الفيلم
يحدث هذا كثيرا، ليس إلى درجة الكليشيه، ولكنّه يتكرّر خصوصا مع المخرجين الكبار. لكن الكاتب عبر عن سعادته التامة بما قدّمه الفيلم. يجب التنويه بأن الكتاب يحتوي على مشاكل أكثر بكثير، ولقد اختار المخرج اختصارها إلى ساعتين وربع فقط. فهل كان العمل السينمائيّ جيدا؟
شاهدت الفيلم بتقنية الأبعاد الثلاثة، وشاهدته دونها، ولم ألحظ فارقا لافتا. لكنّ الصورة تشي بالعمل المتقن والحرفية الكبيرة لمخرج بحجم ريدلي سكوت (وتشي أيضا بحجم الأموال التي أنفقتها 20th Century). كما كان آداء الممثلين في مستوى أسمائهم الرّنانة. عموما كان العمل السينمائيّ لائقا بأحد أكثر الأعمال الأدبية رواجا هذه السنة، لكن لا يمكن الحديث عن عمل سينمائيّ مذهل. الحقيقة أن سكوت بدا قنوعا جدا وخاليا من الطموح في الفيلم. لنتخيّل فقط، أن المخرج فكّر في مسألة اختلاف الجاذبية بين الأرض والمريخ (بحيث يكون الإنسان أخف بكثير مما هو عليه على الأرض)، وحاول إيجاد الطريقة المناسبة لتصوير الفيلم بإضافة هذه اللمسة الوحيدة. ألا يمكن أن يكون بذلك المرشح الوحيد للأوسكار؟

إن رجل المريخ يمثّل تصوّرا جديدا لإنسان الغد. هو رجل صار مجاله المعرفيّ أكبر من عالمه الضيق، وأقدر على النظر بعيدا في أرجاء الكون. ليس رجلا أبيض، ولا أسود، ولا هنديّ ولا مسيحيّ، ولا ذكر أو أنثى. إنه إنسان العولمة الجديد، وهو إنسان لا يبدو أنه يحمل ملامح عربية للأسف. هذا لا يدعونا للغضب بقدرما يدعونا للقلق!


Monday, November 2, 2015

صناعة الكوميديا في فندق بودابست الكبير

حينما أبدأ بمشاهدة أيّ فيلم للمخرج الأمريكيّ وس أندرسن، يعاودني التساؤل الملحّ الدائم : من أين يأتي الرجل بأفكاره هذه؟ أيّ عبقريّ يوحي له بهذه الخيالات؟ وحين يشارف الفيلم على النهاية، يعاودني التساؤل الثاني : أين اختفى وس أندرس؟ لماذا ترك الفيلم وشرد بعيدا؟ في فيلمه الأخير : فندق بودابست الكبير، كان التساؤل الثاني غائبا.

الحقيقة أنّ مشكلة أندرسن مع مرحلة "التخلّص" القصصيّة، تثير دوما حنقي، من Rushmore إلى Moonrise Kingdom، كنت دوما أنهي الفيلم بشيء من الغيظ متسائلا ما كان سيحدث لو أنّه سطّر لكلّ شيء من البداية عوض أن يترك القصة ترسم نفسها لوحدها. أعتقد أن فندق بودابست الكبير The Grand Budapest Hotel إجابةٌ لا بأس بها لهذا التساؤل، حيث يبدو الجانب القصصيّ مخططا له بعناية وممنوعا من الاستطراد. ربّما يعود ذلك إلى طبيعة القصة التي ترتكز كثيرا على الجانب البوليسيّ الغامض فيها، إذ تفترض تلك القصص لغزا وحلاّ بعد تشويق، ودراما محكمة النسيج، وربّما يعود إلى تأثير الأسلوب السينمائيّ المستعمل على الأسلوب القصصيّ، لكنّ المؤكّد أن النتيجة ملفتة: فيلم ممتعٌ وجميل، جوائزُ أوسكار وترشيحات بالجملة لمختلف جوائز الأكاديمية والأهم كوميديا أنيقة يندر أن تجد مثلها في هذا الزمن الذي يفرّق بين الكوميديا والسينما الجادّة.

وسّ أندرسن Wes Anderson تجاوز سنّه الصغيرة نسبيا كمخرج منذ أعماله الأولى، وتجاوز كذلك ولاية تكساس مسقط رأسه، من خلال بصمة مميّزة لا يتمتّع بها إلا ندرة من المخرجين الأمريكيّين، في هذا الفيلم يتجاوز أندرسن أمريكا كلّها من خلال فيلم ينبش ببطء وثبات في كنز طمرته الحرب المميتة. كنز إسمه أوروبا الجميلة.
والحقيقة أنّه من خلال السينما التي يقدّمها، أقرب إلى أوروبا منه إلى تكساس. تلحظ ذلك من خلال جنوحه المفرط إلى تجاوز الإطار الواقعي، والتطلع إلى ما وراءه، من خلال تلك الواقعية السحريّة التي تكاد تقارب الانطباعية في ذاتيّتها. في هذا الفيلم، لا يحاول أندرسن أن يجرّب شيئا جديدا، بل هو يوغل في تلك الأشياء التي تميّزه وتجعل المرء يتعرّف عليه منذ المشهد الأول: التأطير المتناظر الذي يميّز ستانلي كيوبرك في ما مضى، والحركة البطيئة الأفقية التي تكسر التناظر، مستويات التصوير الثابتة، والحركة الكرتونية للصور التي تجعلنا نشاهد شيئا أشبه بالصور المتحركة، الكاميرا أيضا متحرّكة، في نسق سريع أحيانا، وتحوم بشكل أفقيّ ثابت، تقتفي أثر هذا أو ذاك. الحركة والصورة يشكلان هيكلا ميكانيكيّا سلسلا هو بصمة وس أندرسن المميّزة. لقد بنيت سينماتوغرافيا الفيلم بهذه السياسة تقريبا، ممّا أضفى عليه حيويّة مهذّبة وتحت السيطرة.
هل تبدو مصطنعة؟ أجل طبعا، والمخرج لا يبحث في أي لحظة من الفيلم أن يقنعنا بأن ما يحدث حقيقيّ ربما حتّى مشهد القطار الأخير، بل هو يحاول أن يفعل العكس تماما. اللّمحة الكرتونية الطاغية على المشاهد تشي بذلك، التشكيل اللونيّ الخالي من العيوب، يجعل الفضاء موغلا في الخيال، بل موغلا في الحلم. حين تشاهد فندق بودابست الكبير، فأنت لا تضحك فحسب، بل إنّك ترى عبر حركة المشاهد السلسلة، وصور الفيلم البديعة، ابتسامةَ وس أندرسن الخفيّة. موسيقى الخلفية أيضا تمارس اللّعبة ذاتها التي تمارسُها الحركة. في انسجام رهيب مع الصورة، تأتي الموسيقى خفيفة موقّعة سريعة، ثمّ كنائسيّة طاغية، ثمّ حالمة رقيقة، تحافظ كما الصورة تماما على ذات الطابع الميكانيكيّ السّلس، كأنّ وس أندرس نفسه من ألّفها. لا أحد يحتاج إلى مجهود كبير ليرشّح موسيقى الفيلم للأوسكار، وهو ما حصل بالفعل. لكن ربّما يحتاج الأمر إلى وقفة تأملية قصيرة، ليدرك هذا الانسجام الملفت بين الصوت والصورة… إنّ فندق بودابست الكبير بناء متكامل من الصوت إلى الصورة، إلى حركة الممثلين، إلى تتابع الأحداث، كأنّ الفندقَ فندقان : البناءُ الوردي الذي شكّله المخرج استلهاما من صور تعود إلى القرن التاسع عشر، وأحداثُ الفيلم نفسه.

المثير في هذا الفيلم، أنّ التجانس لم يكن على مستوى الشكل فحسب. سيشدّ انتباهك في البداية، مستويات الرواية الأربعة، فلكي نصل إلى زمن القصّة الحقيقيّ، يجب أن ننزل تدريجيا إلى قاع الزمن، نبدأ بفترة معاصرة، حيث تزورُ فتاةٌ ما، مقبرةً في أوروبا الشرقية، وتقف عند قبرِ كاتب شهير، وتبدأ بقراءة روايته "فندق بودابست الكبير". تنزل بنا هذه القراءة إلى مستوى الرواية الثاني، حيث الكاتبُ نفسه في منزله، في فترة الثمانينات، يحدّثنا عن قصته مع الفندق وصاحبه مصطفى، فينزل بنا درجة أخرى إلى المستوى الثالث، هذه المرة تطالعنا فترة الستينات، ويطالعنا لأول مرة بطل القصة السيد مصطفى صاحب الفندق، الّذي ينزل بنا إلى آخر مستوى من الرواية، أي فترة الثلاثينات، ويروي لنا وقائعَ مغامرته مع الرجل الاستثنائيّ موسيو غوستاف وكيف انتهى به الأمر إلى امتلاك الفندق بعدما كان صبيّا في بهوه. خلال هذا التدرّج، ينتقل إطار الصورة من 1.85 إلى ال1.37 ذات الطابع العموديّ، حيث يبدو أنه يعود بنا إلى الأطر المستعملة في الثلاثينات، وخصوصا أعمال المخرج الألمانيّ لوبيتش Lubitsch. ومن المؤكد أنّ الصدف بريئة من هذا الاختيار، إذ أنّ لوبيتش المعروف بأعماله الكوميديّة، كان حاضرا في الفيلم بكثافة لم ينكرها أندرسن. لقد استلهم الكثير من طرق التصوير من أعمال هذا الرجل، مثل تقنية مشهد السوسن (Iris shot)، لكنّه أيضا استلهم روح الكوميديا "اللوبيتشية".


لقطة السوسن التي اشتهر بها لوبتش

يقول المخرج بيلي وايلدر معرّفا كوميديا لوبيتش: كيف تصوّر مشهد اكتشاف أمير لخيانة زوجته مع فارسه بطريقة "لوبيتشية"؟ الإجابة بسيطة: تصوّرُ الأمير مع زوجته في غرفة النوم، وكيف يغادر الأمير الغرفة، بينما يدخل الفارس من ورائه، يكتشف الأمير أنه نسيَ حزام سيفه، يعود إلى الغرفة، لا نرى ما حدث هناك، لكن الأمير يخرج كأنه لم يحدث شيء. قبل أن تتساءل، يهتف الأمير: هذا ليس حزامي!
سوف نجد دعابة مماثلة تماما في مشهد الهروب من السجن: يضع الهاربون خطّة متكاملة متناسقة للهرب، خريطة، تهريب لأدوات الحفر والتنقيب، أضواء خفية، وليال من السهر، في النهاية، تؤدّي الحفرة إلى مكان ما، يؤدّي بالهاربين إلى غرفة الحرّاس، يتسلل الهاربون وسط الحراس في مشهد مهلك بالضحك، ثم يفتحون مدخلا لدهليز يقود إلى الخارج، يجدون مجموعة من الجنود يلعبون الورق، ينزل أحدهم بكل هدوء ليطعن الجنود دون أن يصرخ أي منهم طلبا للعون، يموت السجين وقد قتل الجميع، وكان تعليق الختام من موسيو غوستاف خير معبّر: يمكن أن نعتبر النتيجة تعادلا!

هل كان أندرسن يبحث عن السينما القديمة، أم عن أوروبا القديمة؟ لماذا تطالعنا أسماء لمدن لا وجود لها؟ لماذا يوجد فندق بودابست في دولة زوبرفكا (يبدو أنه نوع من الفودكا البولونية الشهيرة)؟ ولماذا توجد عائلة دسغوفّه أوند تاكسيس (تاكسيس إسم لعائلة توسكانيّة من عصور النهضة) في مدينة لوتس التي لا وجود لها؟ لماذا اعتمد المخرج في تصوير الجنود النازيين على علم الجستابو SS عوضا عن الصليب المعقوف؟ لماذا يحاول أندرسن جاهدا أن يوحي لنا أنه يروي قصة خياليّة لم تقعد أحداثها أبدا، رغم سلسلة العنعنة التي تنتشل لنا القصة من أعماق القرن الماضي؟ هل يقع أندرسن بذلك في شرك التناقض؟ أعتقد أن الإجابة تكمن في موسيو غوستاف، البطل الحقيقيّ لأحداث الرواية التي ينقلها لنا السيد مصطفى.


موسيو غوستاف، رجل فقير معدم، كما يبدو من غرفته الصغيرة بفندق بودابست، لكنّه خارج الغرفة يبدو شخصا آخر تماما : وسيم، أنيق، مثقف حاضر البديهة، يجعل الأرستقراطيين الذين يملؤون الفندق كحفنة همج أمامه. إن موسيو غوستاف "لمحة صغيرة من الحضارة التي بقيت وسط المجزرة البربريّة التي تسمّى إنسانية"، موسيو غوستاف هو تلك الشعلة الصغيرة التي بقيت من أوروبا الجميلة، التي تستعدّ لحفلة الخـراب القادمة. إن موسيو غوستاف هو تصوّر آخر لأوروبا في تلك الفترة الحالكة، هو محاولة من وس أندرسن لطمس معالم الحقيقة القاسية، بشيء لطيف وراق، بشيء يليق بأوروبا. هل هو هروب من الحقيقة؟ أجل هو كذلك، أو لعلّه انتصار للجمال.

ربما لم يكن هذا الفيلم ليحدث لولا ما تركه لنا لوبيتش، ولم تكن الكوميديا لتحظى بهذا الإتقان لولا قيادة أندرسن لأوركسترا من المبدعين، بدءا بمصمّمي المجسّمات (الفندق، البرج، الخ) إلى الموسيقيّ الذي رشح للأوسكار عن عملين مختلفين في نفس السنة، العبقريّ ألكسندر دبلات، وكذلك العمل المذهل لفرانسس حنون ومارك كوليه اللّذين استغرقا 5 ساعات لتحويل الممثلة تيلدا سوينسن إلى امرأة نبيلة عجوز تفوق الثمانين من العمر. وما دمنا نتحدث عن الممثلين، فنحن نتحدث عن عماد الكوميديا. بعض هؤلاء ظهروا في أدوار صغيرة في الفيلم لكنّها كانت ملفتة، مثل إدوارد نورتن، وتيلدا سوينسن، وأيضا بيل موراي الممثّل المفضّل لأندرسن. لكنّ الاستحقاق الأكبر كان حتما لـرالف فين Ralph Fiennes، وفيلام دفوي Willem Dafoe. هذان العدوّان اللّذين مثّـلا الخير والشرّ، كانا جوهر اللعبة الكوميدية، قدّما عرضا راقيا يختلف كثيـرا عمّا عوّدانا عليه. يجب التنويه هنا بحضور أندرسن الخفيّ وراء الممثّلين، لنلحظ الطرفة التي اعتمدها في اختياره لـرالف فين، وأدرين برودي Adrien Brody. فالأول الذي عرف خصوصا بدور المجرم النازي آمون غوث ( قائمة شندلر)، يلعب اليوم دور شخص نبيل يطارده النازيون، بينما ينقلب أدريان من عازف البيانو اليهودي الهارب من المحرقة في رائعة بولانسكي (عازف البيانو)، إلى ثريّ نازيّ يقتل أمه من أجل المال.

أجل إنها تيلدا سوينسن!


لقد اعتبر كثيرون أنّ الفيلم أشبه بصندوق جميل لا شيء فيه. ربّما لأنهم أخذوا بجمال الصندوق فلم يفكّروا في فتحه. وربّما لأنّ الكوميديا كصناعة سينمائية تكاد تختفي ليحلّ محلّها ما يمكن وصفه بالمجون. من خلال هذا العمل، يعيد أندرسن حياكة المشهد الكوميديّ مستعينا بأحد عباقرتها الأقدمين، وأيضا مستعينا بالمأساة التي عرفتها أوروبا في تلك الفترة. لقد كان مشهد إطلاق النار العبثيّ داخل الفندق، خير تصوّر كوميديّ للحرب التي كادت تذهب بأوروبا، ورغم أن أندرسن حاول جاهدا الانتصار على التاريخ من خلال اِنهاء الحرب بالجلوس على الطاولة وقـراءة وصية العجوز، إلا أنّه قد انحنى في النهاية لمأساة الحقيقة، حين لم يقدر على تخليص بطله من براثن النازيين في مشهد القطار الثاني. إنّ الكوميديا تعرَّف أيضا بحدودها الرفيعة مع التـراجيديا، ويبدو أن أندرسن يجيد التعرف على هذه الحدود.



Translate