Monday, July 13, 2015

ستانلي كيوبرك يرتدي الباروكة

قدّمت السينما أسماء خالدة و لاتزال مع كلّ جيل جديد من المخرجين. و سيظل الجدل حول أعظم شخصية سينمائية قائما باختلاف النظرة للسينما كفنّ، و اختلاف زاوية النظر إليها. و هناك مجموعة من الأسماء ستجدها حاضرة في كلّ قائمة محترمة. يعود ذلك ربّما إلى إنجازاتها و جوائزها أو إلى ما أضافته من تجديد لعالم السينما. فغيتس لانغ، بيلي وايلدر، كوروزاوا، تشارلي تشابلن، سكورسيزي، سبيلبرغ، بيرغمان، هي بعض هذه الأسماء. لكنّ الإسم الأهمّ برأيي، هو ستانلي كيوبرك. أعتقد أن المرء يمكن أن يعجب بأعمال الرجل و يمكن أن لا ينجذب إليها، لكنّه في الحالتين، يجب أن يعترف بالحالة العبقرية و الأهمية السينمائية اللّتان يمثلهما هذا الرجل.

لقد تخصّص تشابلن في الكوميديا، و قدّم كوروزاوا بورتريه لليابان في مختلف تجلياتها، بينما اقترن سكورسيزي بعالم الجريمة الإيطالية في أمريكا، الخ، أما كيوبرك فلو أن هناك شيئا يصلح لتصنيفه، فهو السينما في حدّ ذاتها. كيوبرك تخصّص في السينما كفنّ الصورة المتحركة. و هنا تحديدا تكمن أهمّيته.
لقد وضع كيوبرك ثلاثة عشر فيلما قصصيا، لا يكاد اثنان منها يصنّفان من نفس النوع، و أهمّ أعماله على الإطلاق، هي أصناف سينمائية مختلفة تماما، كأن الرجل يزور كلّا منها (الأصناف) ليدلي بدلوه و يرحل عنها بعد أن قدّم لها إضافة نوعية، أحرجت كلّ من تخصّص فيها. يعود ذلك أساسا إلى رؤية فذّة للسينما كفنّ مرئيّ في مفهومه، في زمن طغى فيه الأثر القصصيّ على السينما و جعل الصورة تحلّ ثانية داخل العمل السينمائي. و أعتقد أن ذلك هو السبّب الذي جعل علاقة كيوبرك كمخرج مع كلّ الكتّاب الذين ترجم أعمالهم إلى السينما، علاقة متوتّرة دائما (فلاديمير نابوكوف، أرثر كلارك، و خصوصا ستفين كينغ)، إذ لا يمكن للسينما أن تكتفي ببثّ تلك الأشياء التي يمكن للذهن أن يتخيلها و هو يتصفّح كتابا، لأنّها فنّ بذاته، و يجب أن تقدّم الأشياء وفقا لأدواتها.

كمثال على أثر هذا الاختلاف المفهوميّ، أدعوكم لمشاهدة فيلمه "بَارِي لِنْدُنْ" Barry Lyndon، الذي أخرجه سنة 1975، و ظفر من خلاله على أربع جوائز أوسكار. هذا الفيلم، هو تقريبا أفضل فيلم تاريخيّ شاهدته في حياتي. و أعتقد أن السبب الرئيسيّ وراء إنجازه، كان يعود إلى تذمّر كيوبرك من الأفلام التاريخيّة الموجودة آنذاك. و قد صرّح خلال حديثه عن مشروع الفيلم، أن ندرة من المخرجين توصّلوا إلى تقديم أفلام تاريخية حقيقية.

تضع السينما التاريخية كلّ اهتمامها في الأحداث التاريخية، لذلك يكون الفيلم التاريخيّ مقترنا دوما بحدث تاريخيّ مهمّ، أو بشخصية تاريخية مهمة : قصة كليوبترا و يوليوس قيصر في "كلوبترا" 1963، الحرب الأهلية الأمريكية في "ذهب مع الريح" Gone with the wind 1939، الثورة العربية الكبرى في "لورنس العرب" 1962. لذلك يركّز السينمائيون أغلب العمل على هذه الأحداث، و محاولة تأويلها من خلال تفكيك الشخصيات و تحليلها. هذا العمل هو تقريبا ما يميّز الرواية التاريخية، لذلك تبدو الترجمة السينمائية أشبه بتلك الصور التي نجدها في صفحات الرواية نفسها، مجرد عمل مساعد للعمل الفنّيّ الأصليّ. لقد توصّل كيوبرك إلى هذه الحقيقة، لينتقل بالسينما التاريخية من المدرسة الوضعية التي تهتمّ بالتحقيق في الأحداث التاريخية، و بالتاريخ السياسيّ بشكل عامّ، إلى السينما البنيوية، التي تتجاهل كلّ ذلك تماما، و تهتمّ بالبنى التحتية التي تشكّل المشهد التاريخيّ... كيوبرك عبر هذا الفيلم إذا، يساير تطوّر العلوم الإنسانية ليحفر ذلك في اللاوعي البشريّ كما ينبغي للفنّ الحقيقيّ أن يفعل.

لهذا السبب، لا يمكن أن يكون اختيار كيوبرك لقصّة الفيلم محض صدفة محضة. لم يذهب إلى البحث عن حدث تاريخيّ شهير، أو سيرة شخصية معروفة. لم يعد إلى كتب التاريخ ليصوغ منها السيناريو الذي يريد. لقد صاغ مادّته انطلاقا من مصدرين أساسيّن : رواية من القرن التاسع عشر، و لوحات من القرن الثامن عشر. فأما الرواية، فهي للكاتب البريطاني "وليم ثاكري" بعنوان "مذكرات باري لِندن" و أمّا اللوحات فأغلبها للفنان تُومَسْ كِنْسْبورُكْ Thomas Gainsborough. لقد أعاد كيوبرك صياغة الرواية بالشكل الذي يناسبه، مثلما أعاد تشكيل اللوحات كمشاهد سينمائية ساحرة، مؤكدا بذلك على قيمة الصورة في أعماله، و محوريّتها.
و إذا كان الغرض من اختيار هذه اللوحات واضحا، فإن اختيار الرواية يعود بنا إلى الفكرة السابقة. فرواية ثاكري لا تروي سيرة سياسيّ بريطانيّ مهم، و لا تاريخ حدث ذي أثر على البشر، و إنّما تروي سيرة رجل إيرلندي استطاع أن يكسب لقبا نبيلا وسط المجتمع الإنكليزي، و ما لقيَه الرجل بسبب اللقب من مشاكل. مجرّد رجل آخر، مجرّد قصة أخرى تحدث في ذلك الزمن مثلما يمكن أن تحدث في أي زمن آخر. مجرّد أشخاص عاديين، لا يتميّزون بأي شكل تقريبا. و ما يميّز رواية ثاكري، هو أنّ بطلها باري لندن، يعتبر في الأدب الإنكليزيّ أوّل نقيض للبطل anti hero في عمل روائي. 

لقد كان ما يهمّ كيوبرك من القصة، هو العالم الذي تسبح فيه : المجتمع البريطانيّ، و علاقة الانكليز بالإيرلنديين، علاقة البريطانيين بأوروبا (حرب السبع سنوات)، الطبقات الاجتماعية، العادات و التقاليد، مكانة الدين، تربية الأطفال، التسلية، الحرب، مكانة المؤسسة العسكرية، الشعر و التشكيل و الموسيقى، الخ. باري لِندن، هو بهذا، فيلم تاريخيّ نموذجيٌّ ربما لا سابق له. خصوصا و نحن نعرف هوس هذا الرجل بالتفاصيل. و حديثنا عن التفاصيل يذهب بنا إلى قيمة الفيلم نفسه، و لماذا هو أحد أجود الأعمال السينمائية.
لقد كان باري لندن، أول عمل لكيوبرك بعد تحفته الخالدة "2001، أوديسا الفضاء". و في عمله ذلك، كان يحاول تجاوز فكرته السلبية عن سينما الخيال العلمي، التي تفتقر للدقة العلمية و التكنولوجية، فاستعان بالناسا و خبرائها لتقديم أفضل تصوّر ممكن في ذلك الوقت للمستقبل، و للآلة، و لتقديم تصور فني يعتمد على مادّة معرفية دقيقة و عميقة. بذات المنهج أقدم كيوبرك على السينما التاريخية، كان هاجسه الأول، أن يعود بالمشاهد إلى الحقبة الباروكية بكامل تفاصيلها، و هو ما يعني، بحثا دقيقا مضنيا في كل شيء تقريبا. و حينما فاز الفيلم بأوسكار أفضل تصميم أزياء، صرّحت المصممة ميلانة أنهم استعملوا أحيانا أزياء حقيقيّة من الحقبة الباروكية حصلوا عليها بالمزاد العلني. كما أنّ هوس كيوبرك بلغ حدّ أنه حلق شعر يدي الممثل "ريان أونيل" حتى لا يختلفا كثيرا عن يديْ بديله خبير لعب الورق! لم يجنّبه هذا الهوسُ وقوعَه في أخطاء سينمائية مختلفة ترصّدها المترصّدون، لكن لا يختلف الخبراء حول دقّة الصورة التي قدّمها كيوبرك للعصر الباروكي. 

يقول كيوبرك إنّ أكثر ما يعيب الأفلام التاريخية، هو زيف الإضاءة المستخدمة في تصويرها. لذلك مارس الرجلُ دقته و واقعيته حتى في الإضاءة. و حاول خلال ساعات الفيلم الثلاث، أن يستخدم إضاءة طبيعية خلال التصوير، ليجعل المشاهد في قلب المشهد الباروكي. من هنا، ولدت أسطورة فيلم Barry Lyndon، و هنا أيضا تجلت عبقرية كيوبرك. لقد قرر الرجل أن لا يستعمل إضاءة في المشاهد التي تظهر فيها الشموع، لأنّ الإضاءة تزيّف الصورة تماما و تجعل الفضاء مضاء بطريقة لا تعكس أثر الشموع. كان الأمر مستحيلا بالتقنيات المألوفة، لأن الشمع لا يمكن أن يقدم للكاميرا إضاءة كافية. هنا يقرّر كيوبرك استعمال عدسات F0.7 التي تستعملها الناسا في أقمارها الصناعية. كان ذلك يعني أن التحكم في العدسات سيكون صعبا جدا، كما أن حركات الممثل يجب أن تكون محسوبة بدقة بالغة حتى لا يخرج جزء منه عن دائرة التقاط العدسة الحرج، و الذي يحدث أن يغيّره ضوء الشموع حينما تتحرّك شعلتها بسبب الريح. عمل جبار تحصل بفضله جون الكوت على أوسكار أفضل سينوغرافيا، و تحصّل المشاهد على صور سينمائية على غاية من الجمال.

لكنّ الصورة ما كانت لتعنيَ شيئا دون المحتوى الذي تقدمه. صحيح أن سيرة باري لندن، تكاد تكون عادية، و صحيح أن ما كان يعني كيوبرك أساسا هو سياق القصة و ليست القصة بحد ذاتها. لكنّ ذلك لم يكن يمنعه من استعمال القصة أيضا كجزء من بنائه الدقيق لتلك الحقبة.
غيّر كيوبرك شخصية الراوي، فتحوّل من ضمير المتكلم الأول، إلى الغائب المفرد، و بدا صوته هادئا ساكنا متناسقا مع الموسيقى الكلاسيكية، و هو يعلن ببرودة دم قاتلة عن الأحداث القادمة في كل مرة، كأنه يقول : ما سيحدث ليس مهما أبدا، بل المهم، كيف سيحدث. في باري لندن، يعرف المشاهد ما سيحدث منذ البداية، و مع تقدم الأحداث، يطرأ صوت الراوي ليحرق المزيد منها، تأكيدا لفكرة كيوبرك عن لا أهمية الحدث، و ترسيخا لفصل المشاهد عن الشخصيات، و دعوةً له أن يأخذ مسافة منهم، مثلما يفعل كيوبرك تماما، حتّى يفهم ـ ربما مثله ـ بنية النظام الحقيقيّ الذي يصنع الأحداث.

إنّ الإنسان في "باري لندن" مجرّد لعبة خشبية، تمارس أحداثا لم تصنعها، و تقدم على قرارات لم تخترها تماما. هذا ما يفسر إفراغ الشخصيات من إنسانيتها، هي مجموعة من العواطف و السلوكات الظاهرية فحسب، التي تتحرك في فضاء يصنعها، و يصنع العلاقات بينها، و يحدّد مصائرها. يتساءل الراوي كثيرا خلال الفيلم، عن ماذا يمكن أن يحصل لو حصل كذا لردمون باري، أو لشخصية أخرى، مقرّا من خلال تساؤلاته، أن احتمالية ما لم يحدث مساوية تماما لاحتمالية ما حدث، و أن مصير الشخصية لم ترسمه ذاتها الواعية، بقدر ما رسمه الفضاء الذي تنشط فيه. و هو فضاء ساخر، ثقيل، كثير اللهو، و ربما كثير السادية. إنه الفضاء الذي حدّد أضلع حياة باري لندن من خلال نزالات لا قرار فيها إلا للحظ. فقد عاش يتيما لأن الحظ لم يكتب لوالده أن يربح في نزاله. و قد كانت شرارة مغامرته في أوروبا، فوزُه في نزال مع غريمه الجنديّ، و كانت نهاية حياته كنبيل، بخسارته في نزال آخر.
و النزال عنوان الحظّ و رمز العبثية في الفيلم، لكنّه ليس مصدر الحظ الوحيد في هذا الفضاء، و هو أيضا ليس سلاح الفضاء الوحيد. إن أبرز ما شدني في رحلة باري لندن، هو علاقته بالنساء. فهو لم يختر التقرب من ابنة عمّه نورة، لقد كانت المبادرة، و لم يكن صغر سنه و اندفاعه يسمحان له بالحكمة و التروي إزاء ذلك. فكان اندفاعه وراء حبّه و طلبه النزال، قرارا آخر من الفضاء، لا يمكن أن يحسب عليه، و خلال هروبه إلى بروسيا، يجد الفلاحة الهولندية الجميلة، لتنتقل بمداركه إلى مرحلة أخرى لم يفكّر فيها و لم يقرأ لها حسابا. تحول دون أن يختار، من مراهق عاشق، إلى شاب فضوليّ يجرّب الحبّ في شكله المنتصر. ليس خفيا هنا، أنه تقمّص دور الجنديّ الذي افتكّ منه حبيبته الأولى. بعد ذلك، يصبح لندن، الرجل المتمرّس الذي لم يعد الفضول يشغله و لا الحبُّ، صارت علاقته بالنساء نفعية، معقلنة، و الأمر مرة أخرى يعود إلى تجربته الثرية مع الفارس الإيرلنديّ على موائد القمار. لم يختر باري لندن العيش مع هذا الكهل، و لم يختر مساعدته في التحيل خلال لعب الورق. كان فقط جاهزا بعد كل هذه التجارب، ليمارس تحيّله على هونوريا لندن زوجة السير تشارلز.

لقد رسم كيوبرك من خلال حياة رجل عادي في القرن الثامن عشر، حياة الإنسان التي تحدّدها قوى أكبر من قدرته على رؤيتها و تبيّنها، رسم عبر تفاصيل حقبة زمنية غابرة، تواصل العبث الإنسانيّ باختلاف شكله، في فضاء، مرح، هادئ، ساخر، عبّر عنه بالموسيقى الكلاسيكية ذات النسق البطيء التي رافقت باري لندن في حروبه، و في مآسيه.

هناك حقا أشياء أخرى كثيرة يمكن قولها بخصوص باري لندن. و ليس من الغريب أن الفيلم فور خروجه لم يحظ بحماس النقاد، و كان تقييمه في الصحافة الانكليزية سلبيا، فكذلك كان حظّ أوديسا الفضاء و البرتقالة الميكانيكية. و يبدو أن أفلام هذا الرجل على دسامتها، لا يمكن أن تهضم من أول مرة. يقول وودي آلن إنه حين شاهد أوديسا الفضاء لأول مرة، بدا له فيلما عاديا أقرب للسوء منه إلى الحسن. و قد احتاج إلى سنتين قبل أن يعيد مشاهدته و يدرك أبعاد عظمته. إن باري لندن، ليس أكثر الأفلام التاريخية تسلية، لكنه ربما الأكثر دسامة و الأكثر عمقا، و الأكثر جمالا.

 

Translate