Sunday, December 27, 2015

على حلّة عينيّ، أغمضتهُما!

يعتبر الفيلم الروائيّ في تونس حدثا ثقافيا وطنيا لندرة مثل هذه الأعمال، وصعوبة تحقيقها. ويزداد الحدث أهمّية حينما يكون صاحب الفيلم مخرجا معروفا، أثارت أعماله السابقة مجادلات وخصوما ومؤيدين. في حالة فيلم "على حلّة عينيّ"، نجد أنّ صاحبة العمل ليلى بوزيد هي ابنة المخرج التونسي الشهير النوري بوزيد، وهو أول أعمالها الطويلة، وهو أيضا صاحب التانيت البرونزي وجوائز أخرى في أيام قرطاج الأخيرة، بل تجاوز سياقه المحلّيّ بالمشاركة في مهرجانات عالميّة كالبندقية، وحصوله على المهر الذهبيّ في مهرجان دبيّ. طبيعيٌّ إذا أن يملأ الفيلمُ المشهد السينمائيّ التونسيّ وطبيعيّ أن يرافقه ذلك التساؤل الحرج: هل يستحقّ كل ذلك؟


من الغريب أن أجيب عن السؤال منذ البداية: أجل، أي فيلم تونسيّ يستحقّ كلّ ضجة ممكنة، لا بسبب قيمته لذاته، ولكن بسبب قيمة أن يكون هناك عمل سينمائيّ في بلاد تكاد تخلو من قاعات السينما. وبقدر أهمّية أن يكون هناك أعمال سينمائيّة، من المهم أيضا التفاعل معها، بالسلب أو بالإيجاب. وهو الدافع الأساسيّ من وراء المقال. فالحقيقة أنّ الفيلم لم يثر في نفسي أيّ شيء تقريبا، ولولا أنه فيلم تونسيّ لما كتبت عنه.


أهو سيّء إلى هذا الحدّ؟ مطلقا. هو عمل على قدر لابأس به من الصنعة على مختلف المستويات. فلا تلمس خللا في الصورة، ولا في التصوير. وهو من الأفلام التونسية القليلة التي تشعرك بالعمل المضني على مستوى التركيب. ولأن الفيلم يتابع تجربة فرقة موسيقيّة، فقد كان العمل الصوتيّ من أجود ما أنتجته السينما التونسية، وقد يكون ذلك أيضا عائدا إلى تطوّر التقنيات المستعملة في الآونة الأخيرة. كما كان هناك عمل كبير على مستوى الموسيقى أشرف عليه الفنان خيام اللاميّ. أما السيناريو فهو كثيرا ما مثّل نقطة الضعف الأولى في الأعمال التونسية. لكنّه إحقاقا للحقّ، بدا في "على حلة عينيّ" واضحا متماسكا. ولو أن هناك ما يعاب على الفيلم على مستوى الإتقان والحرفيّة، فربّما بعض الهنّات في آداء الممثلين أحيانا، وفي الحوار الذي اعتمد كثيرا على الارتجال انطلاقا من نصّ أساسيّ. يجب التنويه بأنّ الفيلم يعتمد على وجوه كثيرة جديدة، لذلك فأنا أعتقد أن حضورها الأول كان إيجابيا. سأخصّ بالذكر بيّة المظفر بطلة الفيلم، فقد أثارت الدهشة والإعجاب وعبّرت عن شخصية فرح بتلقائيّة رائعة. ورغم الظهور الخجول لغالية بن عليّ (الأم) في بداية الفيلم حين استقبلت ابنتها، إلا أنها تداركت ذلك شيئا فشيئا وأقنعت في مشاهد عديدة، وكذلك الشأن بالنسبة لمنتصر عياري (برهان قائد الفرقة) وأيمن العمراني (علي). هو عمل على قدر لا بأس به من الحرفيّة، ويشي بعمل جبّار قامت به المخرجة لإنجاح فيلما الأول. لكن من قال إن الخلق الفنّيّ هو صنعة فحسب؟


تقدّم لنا ليلى بوزيد حكاية فتاة تونسية على مشارف الدخول إلى الجامعة، وكيف تحاول أن تبدأ مشوارا غنائيّا مع فرقة من الشباب الهاوي. وتدور أحداث الفيلم في صائفة 2010 والبلاد على بعد أشهر معدودات من الثورة. وعبر هذه القصة، لا يبدو أن ليلى بوزيد تناور كثيرا، فالوضوح سمة المشاهد، والأحداث، والشخصيات. لا شيء يحتمل تأويلات مربكة أو يجعل المشاهد في حيرة من مرام المخرجة. فالفرقة الموسيقيّة أنموذج لعموم الشباب التونسيّ المليء بالطاقة والإبداعات، وما حدث لهم من قمع وترهيب، هو ما يحدث لكلّ شاب تونسيّ يحاول أن يخلق شيئا جديدا، أو "يوقظ شعبه يريد صلاحه" كما قال أبو القاسم الشابي. كما أن إدانة جهاز البوليس كأداة أساسية للنظام القمعيّ لبن عليّ، مثلّت محورا أساسيّا في الفيلم، هذا عدا الكثير من الإشارات الأخرى مثل مسألة الحوض المنجميّ، والرشوة، والحرية الجنسية. نحن أمام فيلم إذا محكم الصنعة، مشبع بالقضايا "الجادّة". وهو كلّ ما يريده ويدعو إليه عموم المتكلمين في الشأن السينمائيّ والفنيّ عموما. للأسف، لا أستطيع أن ألغيَ عن الفنّ قيمته الجمالية والإبداعية وأختزله في كتلة من القضايا. لا أستطيع أن ألغي الفرق بين مشاهدة الأفلام ومشاهدة الأخبار.



أكتب هذا المقال وأنا أستمع ـ فيما أستمع ـ إلى أغنية الفيلم الرئيسية "على حلّة عيني". وهي أغنية تراوح بين اللطف والشراسة، وتشهد بعبقرية الموسيقيّ خيام اللاّمي وموهبة كاتب الكلمات غسان عمامي. للأسف لم تبد كل الأغاني التي قدّمتها الفرقة الموسيقيّة بذلك الجمال، وأحيانا شارفت على الابتذال، هذا عدا التوزيع الموسيقيّ الذي يجعلها أحيانا "تدور، تدور، تدور، تدوووور"! ولكنّني لستُ خبيرا في الموسيقى، ولا أملك حقّ إبداء رأيي في آداء بيّة المظفّر (بطلة الفيلم) الغنائيّ. أنا فقط لا أعتقد أنّ ما قُدّم خلال الفيلم يمكن أن يعبّر بدقة عن الأثر الذي تركته في النفوس آنذاك بعض أغاني بنديرمان، وفريد وغيرهما. كما لم يبدُ على أعضاء الفرقة في حياتهم اليوميّة أي تفصيل يوحي باهتمامهم بما يحدث في البلاد. هناك قصص الحبّ، وهناك البحث عن العروض، وهناك البحث عن مكان يصلح للتدريب، وهناك مشكلة إقناع الأهل بقيمة العمل الفنيّ، وهناك الجدل حول الصدام مع النظام، لكن لم يكن هناك أبدا أيّ تصوّر للنظام. لقد حمل عنوان الفيلم نفسه هذا التناقض دون أن يدري، فهو يفترض أن "فرح" كانت مغمضة العينين قبل أن يحدث لها ما حدث، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن مدى وعيها بالكلمات التي تترنّم بها (أجل أعرف أنها ليست كلماتها، وهذا لا ينفي تبنيها إياها). لقد حاولت ليلى بوزيد خلال الفيلم التأمّل في صائفة 2010 وهي صائفة شبابية بامتياز شهدت خلالها العاصمة تحركا شبابيا شهيرا عرف بإسم "نهار على عمّار" (22 أيّار)، لكن يبدو أن أعضاء الفرقة الذين ينقدون القمع لم يسمعوا بهذا النهار بعد. لقد بدا كأن المواضيع التي ينبغي أن تناقشها الفرقة، قد عوّضت جميعها بقصة حبّ تحيلنا إلى "قضيّة" أخرى.


اِشتهر النوري بوزيد بمواقفه الداعية إلى الحرية الجنسية، أو المندّدة بالقمع الجنسيّ والكبت الجنسي، وقد كان ذلك سببا في الجدل الكبير الذي يطرأ كلما أخرج فيلم. ويبدو أن ليلى بوزيد ساعية أن تقتفيَ أثر أبيها في هذا الجانب. ففكرة الفيلم أساسا تتعلق بالمشهد القمعي الطاغي على البلاد قبالة الثورة، وهو مشهد بطله الأساسيّ نظام بن عليّ، وضحيته الأساسية هي الشباب. ويأخذ القمع خلال الفيلم أشكالا أخرى غير مباشرة، كقمع الوالدين (إجباره على توجّه بعينه في الجامعة مثلا)، والقمع الطبقي (طرد الخادمة وإن كانت الرمزية عفويّة برأيي) والقمع الاجتماعيّ(عمال المناجم، النظرة الدونية للشباب الخ). على أنّ القمع الجنسيّ يبدو طاغيا في الفيلم، إلى حدّ الابتذال. إن الجنس هنا في كل مكان، وإنّ كل علاقة مختلطة هنا، تفوح منها رائحة الشهوة، فهناك علاقة البطلة وقائد الفرقة، وهناك ما حدث مع مدير أعمال الفرقة (عليّ) وهناك ما حدث مع مراقصها في الملهى، وهناك علاقة أمها بحبيب الماضي، وهناك طرق القمع الوحشية التي ينتهجها النظام، وهناك مشاهد كثيرة أخرى، لا تكاد تضيف شيئا للسيناريو، سوى أنها تثري هذا المشهد الإباحي الضخم الذي يطغى بحضوره حتّى وهو ليس المعنيّ الأساسيّ بالعمل. إنّ ما جعلني ألفت النظر إلى هذه المسألة، هو علاقة أم البطلة (غالية بن عليّ) بحبيبها السابق (يونس الفارحي). فوجود الرجل في القصة، لا تأثير له على الإطلاق، يمدّها بمعلومتين، كان يمكن أن يقوم بهما أي شخصين آخرين دون أن يغيّر ذلك من مجرى الأحداث. لكنّ ليلى بوزيد تخلق قصة كاملة من وراء ذلك، تنتهي بإقدام المرأة على إباحة نفسها من أجل ابنتها. ماذا يفترض من المشاهد أن يفهم من مشهد لا أهمية له كهذا؟ وهل من حقّنا أن نتساءل إن كانت رائحة الكبت الطاغية على الفيلم، منبعثة من المجتمع التونسيّ، بقدر ما هي منبعثة من صاحب العمل نفسه؟


إن تساؤلي ليس اتهاما، ولا أجد من المعيب أن يعانيَ المرءُ من الكبت، لكنّ العمل الفنّي يسمح باختلاجات لاواعية يجب الاستماع إليها والتأمل فيها لأنها جزء من الصورة الفنية، ولأنها أهم عناصر البناء الجماليّ. وقد يكون عدم استساغتي للعمل على صنعته، هو هذا العجز الذي لمسته من الفيلم، على خلق مشهد أكثر جمالا. أعترف أنها مسألة ذوقية بالأساس. لكن لنكن متّفقين على الجانب الواعي من العمل على الأقل. فالفيلم شأنه شأن كل عمل فنّي ذي خصائص أدبية، هو نوع من الخطاب. ولكلّ خطاب جمهور مخاطَب. ولا أعتقد أن ليلى بوزيد تجهل هذا الجمهور الذي تخاطبُه بفيلمها، ولا أعتقد أنها تجهل خصائصه الثقافية والحضارية. لذلك فقد قدّمت له صورة لطيفة عن الفنانين الشباب، والفرق الشبابية، يمكن أن يأنس إليها ويطمئن إلى أبنائه حين ينضمّون إليها. أتساءل كم شابّة سيمنعها أبواها من الغناء بعد مشاهدة العالم الذي تعيش فيه فرح؟


لأنّنا لا يمكن أن نخرج الفيلم عن سياقه، فهو فيلم جيد جدّا، ويمكن أن نهنّئ عليه أصحابه الذين يخوض أغلبهم تجربته السينمائية الأولى. ولكن لأننا نعتبر أنه من الضروريّ التطلع إلى ما نحتاج إليه، فالفيلم محبط، تذكرنا قصته بفيلم "ميكروفون" لخالد أبوالنجا، وتعيدنا أفكاره إلى ما نسمعه يوميا في وسائل الإعلام، ومشاهده أقرب إلى الوجبات السريعة التي تصلح للاستهلاك التلفزيّ لا للعمل السينمائيّ.


Sunday, December 13, 2015

ما وراء الدعاية فوق "جسر الجواسيس"

ستيفن سبيلبرغ لا يلعب بالنرد في أفلامه. كل الأمور التي يعرضها، حسب لها حسبتها، ودقق لها وجودها وصفاتها وعناصرها. لذلك فمن الطبيعي أن أتساءل عن سبب عودته إلى أجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتيّ، في هذه الفترة الحرجة بالذات من القرن الحادي والعشرين.

يقدم لنا الإبن المدلّل لهوليود فيلما تاريخيا جديدا، بعد الروائع التاريخية الشهيرة التي قدّمها وعرف بها، خصوصا "قائمة شندلر" (1993) و "إنقاذ الضابط ريان" (1996). وكعادته في أفلامه التاريخية، يركز سبيلبرغ على الصورة كأداة توثيقية حادّة وبليغة فيحتفي بتفاصيلها ويعود بها إلى خمسينات القرن الماضي بدقة لا يجيدها غيره. لا نتحدث هنا عن صندوق التلفاز أو أشكال السيارات، أو ذلك المشهد العام للشوارع الذي تعتمد الأفلام لتوحي لنا بأننا في حقبة الخمسينات. بل نحن نتحدث عن دقة أكبر في اختار نوع ذلك التلفاز، وأنواع السيارات، وأسماء الماركات التجارية. نتحدث عن قدرة سبيلبرغ على استنطاق الخلفية، وشدّ الانتباه إلى ماوراء الحدث وماوراء البطل.

لقد رفع سبيلبرغ من خلال عمله الدقيق على التفاصيل من مستوى الواقعية في "جسر الجواسيس". لكنّه دعمه بآلية ثانية لعلّها تمثّل فتحا جديدا في سينما هذا الرجل. يعرض الفيلم لنا وقائع تاريخية حقيقية عن بدايات المحامي الأمريكي جيمس دونوفان (توم هانكس) مع عالم الجوسسة في فترة الحرب الباردة. حيث يروي كيف تحوّل من محام اختير عشوائيا لإنابة جاسوس سوفياتي أمام المحكمة، إلى ممثل غير رسمي للدولة، في صفقة تبادل أسرى مع الطرف السوفياتي في برلين المقسّمة. وخلال هذه الرحلة الرهيبة، نتابع بأنفاس لاهثة ما بدا أنه فيلم أكشن عن الجوسسة، غير أنه خال من الرصاص والقذائف والغبار (الحقيقة أن الرصاص لا يمكن أن يغيب عن مشهد برلين المزري لكنني أتحدث أساسا عن الخطّ الرئيسي للقصة، فالرصاص هنا جزء من الخلفية التي تحدثت عنها). كيف استطاع سبيلبرغ أن يقاوم هوايته المحببة في إغراق الشاشة بمشاهد الحركة التي صنعت منه مخرجا فذّا والاعتماد أساسا على الحوار كوحدة بناء للقصة؟ كيف استطاع أن يتجاوز فكرته الديناميكية في التصوير، إلى الاعتماد على الأطر الثابتة؟ يبدو أن تلك كانت بصمة كتاب السيناريو ومنهم الأخوان كوين الشهيران (فارغو، لا أرض للعجائز، ليبوفسكي الكبير…) إذ قدّما لسبيلبرغ نصّا واضح المعالم، متماسك البنية، سلسا، ينبني على الحوار، وهو ما يجعلنا نفكر بـ"جسر الجواسيس" كصورة جديدة لفترة الحرب الباردة.

تتميز أفلام الحرب الباردة بأنها أفلام تعتمد أساسا على الأكشن لإبراز التفوق الأمريكي على السوفيات، حيث كانت هوليود أبرز الأسلحة الأمريكية في وجه المدّ الأحمر. في فترة الخمسينات والستينات خصوصا، كان على البطل الأمريكيّ أن يخوض نزاله الأخير مع السوفيات، وكان على المقاتل الأمريكيّ أن يخرج من الجحيم الذي أعده السوفيات. وكان على الحكومة الأمريكية أن تنقذ العالم من الخطر النووي السوفياتيّ. لقد انتشرت حمّى الخوف من الحرب النووية إلى درجة أثارت حفيظة الكثير من السينمائيّين الأمريكيين الذين عارضوا هذا التوجه فقدموا أعمالا خالدة في نقد الخوف والهوس المرضيّ بالقنبلة النووية (المرشّح المنشوريّ لجون فرانكنهايمر، الدكتور سترانجلوف أو كيف تعلمت التوقف عن الخوف وحب القنبلة لستانلي كيوبرك). لقد رأت هذه الأعمال أن الخوف المفرط من الآخر، يخلق نوعا من التطرّف الذي قد يدفع إلى الجنون. وهذا هو المنحى الذي انتحاه سبيلبرغ في "جسر الجواسيس". ليس من العبث أن يعوّل الفيلم على الحوار كبنية سردية، وآلية لدفع الأحداث، ذلك أنه يحاول أن يبرز قيمة الحوار في تفادي الكوارث. يذكر سبيلبرغ الأمريكيين، بأنّ أحد أبطالهم الوطنيين (جيمس دونوفان) قدّم لوطنه نتائج مبهرة بفضل الحوار وقدراته المتميّزة في التفاوض والإقناع.

ولئن قدّم لنا سبيلبرغ الحوار كوسيلة لتجاوز الخوف، فقد قدّم لنا أيضا ومنذ بداية الفيلم مصدر هذا الخوف. يشي المشهد الأول بعبقرية المخرج وعبقرية من معه. يتلاشى الظلام على مشهد رجل مسنّ ملامحه أقرب إلى البؤس واللامبالاة. تقدّم الكاميرا صورة الرجل في المرآة المقابلة له، ثم تتحرّك مع التفاتته إلى يمينه، لترينا صورته الثانية المنعكسة على لوحة الرسم. من خلال هذا المشهد العبقريّ، يقدم لنا سبيلبرغ نسبية المفاهيم، فصورة الجاسوس على المرآة، تمثّل التصور الأمريكيّ له، تصوّر يقوم على الظاهر أساسا، وعلى ما فعله الرجل ضدّهم، بينما تمثّل اللوحة على اليمين، تصوّره الشخصيّ عن نفسه، وهو تصوّر يقوم على الباطن، وعلى ما يعلمه الإنسان عن نفسه. إنها صورة الآخر عن نفسه. أما الرجل نفسه صاحب الصورتين، فهو يمثل الحقيقة التي تعكس التصورين، وهذه الحقيقة تولينا ظهرها فلا يراها أحد!
وخلال القسم الأول من الفيلم، يركز سبيلبرغ على دعوة المحامي جيمس دونوفان (توم هانكس) مواطنيه إلى تجاوز صورة المرآة، والالتفات قليلا إلى اليمين. وهذه الدعوة برأيي جديرة بالانتباه، لأنها تتجاوز إطارها التاريخيّ. لقد أثبت دونوفان أن الجاسوس ليس خائنا، وإنما رجلا يخاطر بحياته من أجل وطنه الذي يؤمن به، وأفكاره التي يدافع عنها، ولئن كنا نختلف في أفكارنا معه، فهل هذا يعطينا حقا لاحتقاره؟ إن إصرار دونوفان كرجل قانون على احترام الدستور حتى مع ما اعتبر عدوّا للأمة، ليحتاج منا إلى وقفة لفهم أنفسنا، يقول دونوفان لرجل المخابرات "أنا إيرلنديّ الأصل، وأنت ألمانيّ. لكن ما الذي يجعل كلينا أمريكيا؟ إنه كتاب القوانين. ذلك الذي أسميناه دستورا، واتفقنا على بنوده. ذاك وحده لا غيره ما يجعل من كلينا أمريكيا".

لكن يبدو أن دعوة سبيلبرغ هذه لم تلق آذانا صاغية عند سبيلبرغ نفسه! فالرجل رغم تركيزه على أهمية التواصل وفهم الآخر، لم يبدِ ذات الاهتمام في تصويره للاتحاد السوفياتي، بل إنه اعتمد آليات كثيرة لإجراء تلك المقارنة الدعائية السخيفة بين احترام حقوق الانسان في المعسكر الغربيّ وانتهاكها في المعسكر الشرقيّ، وكأنّ الرجلَ لم يتخلّص من ذكريات طفولته العابقة بشيطنة الآخر والخوف منه. لقد تمادى سبيلبرغ في هذا الجانب إلى حدّ البروبغندا السخيفة والطفولية (مشهد ممثل ألمانيا الشرقية حين تجاهل الأمريكيُّ يده الممدودة)، ما يجعلنا نتساءل عن مصادر تمويل الفيلم. إن علاقة سبيلبرغ بدوائر السلطة والقرار أمر بديهيّ برأيي، وآراؤه ومواقفه شدّ ما تمثل السياسات الأمريكية العامة. حينما أنهيتُ الفيلم، تذكرت فيلمه السياسيّ السابق "مونيخ" في فترة اشتدّ تساؤل العالم فيها عن أصول الإرهاب، كما تذكرت فيلمه الأسطوريّ "قائمة شندلر" عن محرقة أوشفيتز وما أقحمه في الفيلم من تلميح لحق اليهود في وطن لهم، في السنة التي أمضي فيها اتفاق أوسلو الشهير… تذكرت كل ذلك وتساءلت في براءة: أهي مصادفة أن يعيدنا سبيلبرغ إلى الحرب الباردة في هذه الفترة؟


Sunday, December 6, 2015

ما يجيده اليهود وما لا يجيده المسلمون

لازلت أتحدث عن السينما هنا، ولازلت أحاول أن أحدثكم عن تجاربي مع أفلام هذا الموسم الجديد. لكن يبدو أنه من العسير التوقف عند فيلم "إبن شاؤول" Saul Fia دون أن يأخذنا الحديث إلى المقارنات المحبطة. لكن، لعلّ تلك المقارنات هي ما نحتاج إليه لنفهم أخطاءنا، وننقذ ثقافتنا.

حين ذهبت لمشاهدة الفيلم المجريّ "إبن شاؤول"، كانت فكرتي المحدودة عنه تنقل لي انطباعا سلبيّا. فهو فيلم حائز على جائزة النقاد في Cannes، وتجري أحداثه أساسا في قلب إحدى المحارق النازيّة. أي أنه احتفاء آخر بالهولوكوست وتذكير بحرمة الطوطم اليهوديّ. أخذت أعدّد الأفلام التي شاهدتها عن المحرقة، هناك قائمة شندلر الأسطوريّ، وهناك عازف البيانو لرومان بولانسكي، و الحياة جميلة لروبرتو بينيني، فضلا عن عشرات الأفلام التي دارت أحداثها في سياق ألمانيا النازية، وتعرّضت بشكل أو بآخر للمحارق وأفران الغاز وقمع اليهود، من "القارئ"، إلى "سارقة الكتب" إلى "ضارب الطبل". حتى فيلم تارنتينو الشهير Inglorious Basterds يمكن أن يُعتبر من بين هؤلاء. يبدو لي أنني شاهدت ما يكفي من مشاهد تصوّر المحرقة، ولم يبق إلا أن أحفظ أسماء الضحايا واحدا واحدا. ماذا سيضيفه فيلم جديد عن ذات المسألة؟ ماهي المشاهد التي سيستنبطها عدا تلك المألوفة جدا والنمطيّة للبطل الألمانيّ الذي أنقذ اليهود بدافع الإنسانية، والجنديّ النازيّ الذي بلغ به التعصب حدّ الوحشية اللامبالية، وعشرات الضحايا اليهود الذين يلقون مصيرهم القاسي بلا رحمة؟ ماهي الأفكار التي سيقدمها عدا تلك المحذّرة من التعصّب، والمحتفية بالحياة ووجوب التشبّث بالأمل حتى النهاية؟

تتابعت حمّى الأفكار في ذهني وأنا أجلس في مقعدي منتظرا بداية الفيلم. أخذت الصور تتشكل في مخيلتي من قبل أن تطفأ الأنوار، هناك حتما شخص يصارع من أجل البقاء حيّا، هناك مخبأ ما، ومشهد يحبس الأنفاس يفصل فيه المخرجُ بين اليهوديّ والنازيّ بجدار رقيق، أو سقف مهترئ، أو ظلام غير متقن. ثم مشهد الحرق أو أفران الغاز، ربما يركز المخرج على حالة اجتماعية مزرية من بين الضحايا لزيادة استمالة المشاهد، وربما يركّز على نازيّ متوحّش للتدليل على قسوة الجريمة النازية.
أفكار كثيرة تراجعت كلّها بمجرد أن بدأ الفيلم، تاركة إيّاي في حالة انغماس مزمنة مع أحداثه المتواترة وحواراته النادرة. لم يكن ذلك لاختلاف سياقه عن نظرائه، وإنّما لأسلوب الصورة الغريب والمميّز. تتبع القُمرة (الكاميرا) بطل الفيلم في توتّر واضح، تاركة خلفه صورة شابحة ضبابية لأشباح تتحرّك، تضيق عيناك وتتسعان بنفس التوتّر في محاولة لفكّ الخلفية، لكنّ البطل يحملك بسرعته وعصبيّته إلى فضاءات أخرى، تضطرّ إلى تأمّل وجهه وقسماته. تفاجأ بالموت يطلّ من عينيه. هو الموت بكلّ تفاصيله، متشكلا في عينيه وحاجبيه وفمه ووجنتيه وتجاعيد أنفه. هو الموت متهيّئا لإنجاز عمله. لم يكن وجه بطلنا خاليا من المشاعر، لكنّه كان خاليا من الحياة. وجه شخص حيٍّ لكنّه مستغرق في الموت حتّى أخمص قدميه.

سريعا ما نفهم السياق. فنحن في قلب المأساة. هذه الأجساد التي يخفي عورتها المشهد الضبابيّ، ستفقد حركتها بدخولها إلى هذه القاعة الضخمة الموصدة. أمّا بطلنا "شاؤول" فهو أحد أعضاء "الوحدات الخاصّة" Sonderkommando، وهي تلك الفرق التي كوّنها النازيون من اليهود للتخلّص من جثث أفران الغاز. ومن قلب فرن الغاز، تنبت حكاية شاؤول مع جثة الطفل اليهوديّ. تطرأ على قلبه رغبة عارمة في دفنه وفق الطقوس اليهوديّة عوض رميه للمحرقة مع عشرات الأجساد الأخرى. تتعاظم الرغبة لتصبح هاجس الرجل الأول. تتوالى الأحداث لتختفي قسمات الموت المرتسمة على الرجل رويدا رويدا، وتعوّضها قسمات رجل مشرف على الغرق، يجاهد من أجل البقاء حيا. يركض هنا وهنا، يخاطر، يشعر بالخوف، يختبئ، يخفي غرضا أو يجري مبادلة سريّة، يكذب، يبتلع ريقه بصعوبة، يرجو المساعدة من هذا، ويصنع أعداء هنا وهناك، يجد نفسه أمام حفرة الموت بدون علامة انتمائه للـ sonderkommando… إنه يعود حيّا!

ثمّ إنّك تذكر أنّ الرجلَ لا يخاطرُ بحياته من أجل حياة طفل صغير، بل من أجل موته! تذكر أنّ كل هذا الذي يفعله، إنما هو من أجل تغيير طريقة تلاشي جسد الطفل البائس تحت الأرض. تنتابك الأفكار تباعا. تتساءل، ماذا ستغيّر صلوات "الربّيّ" (حاخام) في جسد الطفل؟ قد لا تغيّر تلك الطقوس كثيرا في الجسد الفاقد للحياة، لكن يبدو أنها تغيّر كثيرا في جسد شاؤول.
يحيلنا الفيلم إلى الدفن كقيمة أنثروبولوجية. إنّ الدفن هو أقدم الطقوس الدينيّة المعروفة، وهو متعلّق بالثقافة البشرية بشكل ملفت. وربما يمكن القول إنه أحد أشكال تعبير الإنسان عن نفسه، وأحد أهم السلوكات التي تميّز الإنسان. يحتفي الفيلم بهذه المفارقة الغريبة، التي تجعل من الدفن رمزا للحياة. ففي مشهد الحرب والقتل والحرق والجثث واللامبالاة، لا يمكن لشخص مثل شاؤول إلا أن يبحث في أفق رؤيته الضيق على ما يمكن أن يبقيه إنسانا، ولقد وجد ذلك في فكرة دفن طفل صغير على الطريقة اليهودية. لذلك حين يتّسع الأفق قليلا، أمكن لشاؤول أن يجد "إبنه" في حالة أفضل من الموت، وأن يبتسم أخيرا كآخر مراحل تخلّصه من صورة الموت التي كانت جاثمة على وجهه.

حين ينتهي الفيلم، تجد نفسك قد شاهدت فيلما آخر عن المحرقة، لكنّك لم تشعر بأي تكرار، ولم يبد أنّك مررت بالكليشيهات التي كنت تنتظرها. تمرّ العناوين نفسها بذهنك مرة أخرى، وتكتشف حقيقة أنها رغم تشابهها الظاهريّ، متباينة جدا. لو أنك عوّضت سياق المحرقة، بأية محنة إنسانية أخرى، وحافظت على نفس السيناريو والأسلوب والمشاهد، لوجدت نفسك أمام مجموعة من الأفلام التي لا يربط بينها أي شيء! إنها أفلام مختلفة تماما، بعضها ساخر ( Inglorious Basterds) وبعضها سوداويّ (قائمة شندلر) وبعضها شديد التشويق كأفلام الإثارة (The pianist)... بل إنها تقدم أفكارا مختلفة، وتستخرج من نفس المأساة، معانٍ عميقة ولا يشبه بعضها بعضا. تبتعد كثيرا عن المباشرتية، رغم طابعها التوثيقيّ في الكثير من الأحيان، لتلمس الإنسان، وتحتفي بالدراما قبل التاريخ. من الطبيعي أن هذه الأعمال الملفتة، تجد لها صدًى في العالم، ويحتفي بها الغرب ويرصد لها الجوائز. ومن الطبيعي أن تحقّق هذه الأعمال أغراضا موازية كتدعيم التطبيع مع اليهود، والتذكير بحرمة المحرقة، ودعم عقد الذنب تجاه اليهود، بل إنها أحيانا تذهب إلى خلق علاقة شرعية بين المحرقة والكيان الصهيونيّ، مثل ذلك الانتقال السينمائيّ المذهل والعبقريّ الذي أنجزه الأمريكيّ اليهوديّ سبيلبرغ في نهاية فيلم قائمة شندلر. إنه طبيعيّ لأن ذلك ما ينبغي أن يفعله أي شخص يحاول الترويج لقضيته. أما ماهو غير طبيعيّ، فهو ما يفعله السينمائيّون العرب.

كم عدد الأفلام العربية التي خاضت في أيام الاحتلال ووثقت لجرائم الاحتلال؟ إن أهمّ هذه الأعمال إمّا غير عربيّ (معركة الجزائر إيطالي) وإما مغرق في التوثيق والتمجيد والمباشرتية (أسد الصحراء) وفي الحالتين، فهي أعمال كبيرة من حيث الميزانية واختفت موضتها مع التسعينات. ولم يبق غير أفلام النكبة الفلسطينية التي تعتبر استثناء لأنها ليست تاريخا بقدرما هي واقع يوميّ.
كم عدد الأفلام العربية التي احتفت بالميراث الثقافي العربيّ؟ وكم عدد الأفلام التي خاضت في تاريخ الإسلام؟ لا، ليست كثيرة، بل هي فيلم واحد يتكرّر دائما، في أشكال مختلفة. إنها العناصر ذاتها سوف نجدها مرارا وتكرارا. خالية من كل بعد إنسانيّ، مفعمة بالتمجيد، وبالحذر من ارتكاب الحماقة التي ستحتجّ عليها كلّ الملل والنحل والمذاهب المختلفة. حينما حاول مصطفى العقاد كتابة سيناريو فيلم الرسالة، وجد نفسه أمام آلاف الألغام المرصودة من الهيئات الحكومية والدينية، هذا ممنوع، لا تتحدث عن هذا، لا تجسّد ذاك، في النهاية قدّم لنا فيلما عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، بطله (شخصية حمزة رضي الله عنه) قتل في وسط الفيلم!
والمشكلة أن كل أفلام السيرة وحتى الأعمال الدرامية تحافظ على ذات الحبكة التي قدمها العقاد، ربما درءا لوجع الدماغ، فلا بد من وجود هندٍ ووحشيّ وأحد، ولا بد من بلال وآل ياسر رضي الله عنهم. وحين الحديث عن صلاح الدين، أو خالد بن الوليد أو غيرهم من القادة العسكريين، نجد أنفسنا أمام ذات العناصر، كأننا أمام تقرير إخباريّ، فمن منّا يريد الاستماع إلى ذات الخبر مرّتين؟ أليس حريّا بنا اليوم، أن نتعلّم من اليهود صنعة السينما، وأن ندرك أخيرا، قيمة السينما ومدى تأثيرها في العالم؟

 

Translate