Saturday, March 12, 2016

الصنبة والمنڤالة

في هذا الوقت العصيب الذي تُختبر فيه صلابة الدولة وتماسكها عبر بوّابة مدينة بن ڤردان الحدودية، تبدو خزينة الدولة أكثر من أي وقت مضى عزما على اقتطاع ما يلزم من المال لتنفيذ رؤية سيادة رئيس الجمهورية لمدينة الغد : إنّها ـ تعريفا ـ المدينة التي عاد إلى وسطها تمثال بورقيبة المقلوع، أي أنها المدينة التي تشبه ماضيها.

لا أحد ينكر قيمة أن يعترضه نصبٌ ما وسط كلّ مدينة عند أهمّ مفترقاتها. وربما لذلك عزمت الدولة على تمويل هذه المشاريع بصفة عاجلة بينما تركت أمر الاهتمام بعائلات شهداء الجيش الذي يخوض حربا ويدافع عن البلاد، إلى التبرعات الشعبية العشوائية.
حسبة الدولة كالعادة ذكيّة وتثير الاحترام، ويبدو أنّ الرقم الذي قُدّم بخصوص استعادة تمثال العاصمة ليس من وحي الخيال. ستة مائة وخمسون ألف دينار، أو ما يفوق ثلاثمائة ألف دولار هو رقم متواضع جدّا بالمقارنة مع عظمة الإنجاز (وعظمة الرشاوي وكثرة الوظائف الوهميّة التي ستنجرّ عنه).

لكنّني لا أحبّ أن أتوقّف طويلا عند هذه المسائل الماديّة. أنا إنسان رومانسيّ جدّا كما تعلمون، ولستُ بذلك أشذّ عن من صرختُ مثلهم "خبز وماء وبن عليّ لا" قبل أن يذهب الخبزُ والماءُ وبن عليّ جميعا. ورومانسيّتي تحملني أن أبتلع ما بقيَ من قطعة الكرواسون، وأتأمّل بشكل أعمق في رمزيّة هذه العمليّة.

لقد كان بورڤيبة شديد التأثر بالحضارة الفرنسية، وخلافا عن غيره من المصلحين التونسيين، كان أعمق إدراكا للحضارة، وأبعد من اختزالها في المظاهر التي وقع في شراكها مصلحون كبار كأحمد باي. مع ذلك، لم يستطع الرجلُ مقاومة زهوّه بنفسه وبما قدّم لوطنه، فرأى أنّه يمثّل حريّة تونس بذات القدر الذي يمثّل به جول فيري Jules Ferry احتلالَها، وهكذا حُقَّ له أن يغيّر تماثيلَ مدبّر الاستعمار بتماثيلِه التي صوّرته في أشكال مختلفة (على صهوة حصان أو واقفا ينظر إلى الأفق بشموخ، وأشياء من هذا القبيل).
 إن من المعلوم أنّ الثقافة التونسية بحكم انتمائها للعالم العربيّ والإسلاميّ، لا تألف فنّ الصورة، ولا تمارسها إلا في حدود ضيقة جدا، وهذا ما جعل من التماثيل التي ركّزها الرئيس بورڤيبة في بعض المناطق (تونس، قصر هلال، منزل بورڤيبة، الخ) غير معبّرة بالمرة عن الهوية التونسيّة، كما تفعل تلك التماثيل الفرنسية المنتشرة في كل شبر من بلادهم. لقد اهتمّ بورڤيبة بتماثيله ونسيَ أن يهتمّ بفنّ النحت ويجعله أقرب إلى الجمهور وإلى الثقافة الشعبية.
لازلت أذكر ذلك التمثال الذي كان يتوسّط ساحة مدينتي، ولازلت أذكر كيف كان يبدو غريبا وباهتا، وبعيدا جدّا عن روعة التمثال الفرنسيّ الذي نصّب مكانه. لكنّه أيضا كان معبّرا عن تلك المرحلة. مرحلة الاستقلال بذات جديدة، وعنيدة، ومتحدّية رغم صغر سنّها وسذاجة معرفتها. ولازلت أذكر أيضا ذلك اليوم الذي أزيل فيه التمثال من أجل الانطلاق في مشروع جديد يحلّ محلّه، مشروع السابع من نوفمبر!

اِنتشرت ساعات بن عليّ ذات الوجوه الأربع في كل مناطق البلاد، عكس تماثيل بورڤيبة محدودة العدد، وأخذت تزحف في كلّ المفترقات، وصار المشهد واحدا تقريبا وإن اختلفت الأحجام. فلا تحظى كلّ المدن بذات التقدير ولا بذات النصيب من الأموال والرعاية. ولأنّ وسط العاصمة هو المكان الأهمّ في البلاد، فلقد حظي بأضخم ساعة كان يمكن لبن عليّ تخيّلها، كلّفت الدولة فيما أذكر نحو 18 مليون دينار (عدا الرشاوي بالتأكيد!). ولئن ظهرت بعض النّصب التذكارية المختلفة كلّما توفّرت الفرصة، فالأكيد أن الإصرار على "المنڤالة" الرديئة كان يعكسُ ما تتميّز به هذه المرحلة. لا وجه ولا روح، لا شكل ولا مضمون، تردٍّ مفزعٌ في الذوق والحسّ الجماليّ، اِنعدام تامّ للإبداع والخيال، وبراغماتية زائفة فضحها عجز كلّ تلك الساعات عن فرض الانضباط واحترام الوقت، بل إنّ تلك الساعات نفسها كانت عاجزة عن الإشارة للتوقيت السليم، وكثيرا ما تندّرنا باختلاف المواقيت في كلّ وجه من وجوهها الأربعة. كانت غاية بن عليّ من وراء الساعة بسيطة جدا، وتتلخص في السطو على مكان بورڤيبةمن دون إحلال ذاته بصفة مباشرة، فتغيّرت بعض شوارع الحبيب بورڤيبة إلى شوارع 7 نوفمبر (تاريخ انقلابه الشهير) وكذلك الساحات العامّة، أمّا التماثيل فعوّضت بالساعات، وعوّض رأس بورڤيبة في العملة بشعار الجمهورية وبذكرى الانقلاب. فكان دافع عمله الغيرة مثلما كان دافع بورڤيبة الانبهار.

ويبدو أن سيادة الرئيس فهم أغلب هذه المعاني، خصوصا وأن أوقات التأمّل في قصر قرطاج كثيرة جدّا. لقد رأى بتجارب السنين، أن ساعاتٍ غير ذات وجه، هي رمز للنظام البائد الذي ثار ضدّه التونسيون، وهي بذلك لا تعبّر عن روح الثورة بأية حال، حتّى لو أطلق على ساحاتها 14 جانفي. ولأنّه يعتقد جازما أنّ الثورة كانت ضدّ بن عليّ أساسا، ولم تكن ضدّ الهيكل المتراكم منذ 1956 ونسمّيه دولة، ولأنّه يعتقد جازما أنّ التونسيّ كان سعيدا مطلق السعادة حتّى جاء بن عليّ ليفسد كلّ شيء، فلقد عبّر عن ذلك باستعادة رمز تلك المرحلة. "نرجعو وين كنّا" هي الإجابة التقدّمية المستشرفة لتونس الغد، كما يراها السيد الرئيس ذي التسعين ربيعا. وليس انبهاره ببورڤيبة إلا جزءا من انبهار بورڤيبة بجول فيري، ولئن اختار الثاني أن يعبّر عن انبهاره بالتحدّي والتقليد، فقد اختار الأول أن يعبّر عن انبهاره كما تفعل القبائل الوثنية بأجدادها: تستحضرهم بطوطم.
الصنبة أم المنڤالة؟ أفضل التمثال طبعا، فلقد كان محاولة أولى تشجّع على المضيّ نحو شيء أفضل. أما سيادة الرئيس فلم يختر لا الصنبة ولا المنڤالة، بل اختار الطوطم المقدّس، الأب الذي قتلوه وصار ذنبه ملازما لهم حتّى العبادة.

تمثال ذكرى كارثة فرفاديت كان بمدينة فيريفيل (منزل بورڤيبة) قبل أن ينقل إلى فرنسا ويزدان وسط المدينة بتمثال  صغير للحبيب بورڤيبة
 

Translate