Monday, January 9, 2017

نحبّك موش هادي

إن الهدوءَ سمة المقابر ولا يمكن للحياة أن تبزُغ وتعبّر عن نفسها من دون ضجيج. كذلك يدلّ صراخ الوليد على حياته، وكذلك تدلّ الثورة على إرادة الحياة، وكذلك كان المخرج التونسيّ محمّد بن عطيّة يحبّ لبطله الشابّ "هادي" أن يكون.
لقد كان عليّ أن أنتظر نحو سنة تقريبا حتّى يتسنّى لي مشاهدة الفيلم التونسيِّ "نحبّك هادي" وأنظر فيما يبدو أنّه أقنع لجنة تحكيم البرليناله Berlinale (مهرجان برلين السينمائي) لمنحه جائزتي أفضل ممثّل (مجد مستورة في دور هادي) وأفضل عمل أوّل لمخرج (بما أنه العمل الأول لمحمد بن عطيّة).

لقد عرف الفيلم ردود فعل متباينة جدا، ولئن كان الفتور سمَة ردود الفعل التونسيّة، فإنّ الأقلام الأجنبية عانت في تقييمها من سوء فهم لم ينج منه إلاّ قليل. إن علاقة "نحبّك هادي" بالواقع التونسيّ عميقة إلى حدّ يحتاج فيه المرء إلى اطلاع أكبر من تلك المعرفة الساذجة التي تقدّمها البطاقات البريدية والنشرات السياحيّة عن تونس. مع ذلك تبقى نظرة الآخر مهمّة إلى حدّ ما، ذلك أنّ "نحبّك هادي" كسر صورا نمطيّة كثيرة في وجه المشاهد الغربيّ عن البلاد العربية. فإذا به يفاجأ بمنظومة عادات خارج إطار التطرّف الدينيّ، وبحضور طاغ وتسلطيّ للمرأة في علاقتها بالرجال وربما أيضا بتعبيرات دينيّة ذات دلالات تحرّريّة (حفلة العيساويّة المهديّة المسمّاة الحزب).

لم يبحث الفيلمُ أن يصدم المشاهد بأيّ شكل، لقد كان هادئا في أغلب دقائقه الثماني والثمانين هدوءا مستفزّا، أو ربّما هدوءا محتقنا مثل بطله "هادي"، ذلك الشابّ التونسيّ سليل العائلة القيروانيّة رفيعة المقام، المشرف على الزواج وعلى بدء حياة نموذجية هادئة. بدا أنّ كلّ شيء يُعدُّ بشكل يحلم به كلُّ شابٍّ عربيّ تقريبا، فالدار تكاد تجهز لاستقباله، والزوجة جميلة، وسعيدة وبنت حسب وذات أخلاق. وحتى المشاكل البسيطة مثل صعوبات العمل كوكيل تجاريّ لشركة سيارات في بلد يعرف أزمة اقتصاديّة خانقة، فهناك والدة نبيهة تتكفّل بها. الحقيقة أنّ والدة هادي تكفّلت بكل شيء تقريبا، وبدا من خلال مشهد الخطوبة أنّه مستسلم لمشيئة أمّه تماما.

لكنّ العين لا تقدر على الإذعان حين يذعن كلّ شيء آخر. ولقد نقل لنا مجد مستورة بشكل بديع وصادق عنف الكبت الذي يتشكّل داخله. وبملامح جدّية تتناقض بشكل مضحك مع ما يوحي به من براءة حالمة، يحاول هادي أن ينقذ عمله بالبحث عن زبائن في مدينة المهديّة الساحليّة القريبة من القيروان، حينما يتعرّف على ريم المنشّطة السياحية بأحد النزل التي تكاد تخلو من السوّاح، ويقع في هواها قُبَيْل أيّام من زواجه. وبين خيار العودة إلى الواقع والاكتفاء بالحلم، وبين تحويل الحلم إلى مشروع واقعيّ، يحدث الصّراع الدرامي الذي ينقل بطل الفيلم بهدوء عبقريّ من حالة البداية إلى حالة الختام.

ومن الواضح أن الأخوين داردان Dardenne لم يكتفيا بإنتاج الفيلم، فالجانب الاجتماعيُّ كان طاغيا على مشاهده الصامتة والبطيئة والمعبّرة. لقد أولى محمّد بن عطيّة أهميّة لمشاهد بحث هادي عن حرفاء جدد، فعبّر عن ركود قطاعي التجارة والصناعة بصور شتّى كان أكثرها طرافة وعبقرية مشهد المصنع الخالي من كل شيء تقريبا سوى كلبين يرتعان في ربوعه. وباهتمام مشابه صوّر الأوضاع المتردّية للسياحة (ووسائلها البالية لكن ربّما عن غير قصد) ودور ذلك في إحباط الكثير من الشباب التونسيّين. ربّما ربط بين أزمة السياحة وهجرة ريم إلى أوروبا عمدا، ولكنّ ما يهمّنا من الأمر، هو أنّ كل ذلك مرّر في هدوء وبساطة في خلفيّة أحداث الفيلم الدرامية، ما يساعد المشاهدَ على التأمّل فيها بشكل حرّ وبدون تحريض خانق من المخرج. نحن لسنا أمام فيلم "تناول العديد من القضايا الهادفة"، بل أمام فيلم رومانسيّ آخر عن شخص ما أحبّ في الوقت الخطإ وحاول أن يتحدّى نفسه من أجل هذا الحبّ. ولئن كانت هذه القصّة كلاسيكيّة ومألوفة، فإنّ سياقها المتشكّل في الخلفيّة أكسبها بعدا جماليّا عميقا. فبدت بذلك مشاهد الفيلم أقرب إلى اللوحات التشكيلية التي تأخذ وقتها في مكان لا يبدو فيه الوقت عاملا حاسما.

كان مشهد المقبرة أحد هذه اللوحات، ولقد استفاد المخرج من مقبرة المهديّة الشهيرة المطلة على البحر في مشهدين، أحدهما صامت (صمت القبور)، وثانيهما كان خلفيّة لحوار هادي وريم عن الثورة. ويبدو أنّ المخرج كان مصرّا على استعمال عنصر مقبرة المهدية ذلك أنّ العارف بخريطة البلاد التونسية يدرك أنّ سوسة أقرب إلى القيروان، وأكثر رمزيّة فيما يتعلّق بالسياحة في منطقة الساحل، ولا يوجد سبب مقنع للاتجاه إلى المهديّة. إن المقبرة فضلا عن موقعها الجميل، توحي بهدوء مضاعف لإشرافها على البحر، وبسكون كاذب لأنّ الماء يجاورها. تماما مثل هذا الشابّ التونسيّ الذي يحاول أن يكون كما يرتضيه منه الكبار: عاملا مجتهدا، ومشروعا لرجل مسؤول، مهتمّ بعائلته ووضعها الاقتصاديّ والاجتماعيّ. شخصا موافقا، منفّذا، لا يعارض ولا يحتجّ مادام الكبار قد أخذوا على عاتقهم المهمّة الأكبر وهي أخذ القرار.
وحين تعرّف هادي على ريم، كسر قدسيّة الصمت، وتجرّأ على الكلام أمام المقابر عن الثورة. طبعا بنفس الأسلوب المراوغ، لم يكن هادي أو ريم من الثوريين الأفذاذ أو المناضلين القدامى، ولم تكن ريم حاضرة يوم هروب المخلوع، ولم يفعل هادي آنذاك إلا مرافقة زملائه في العمل، لكنّنا نعرف أن هادي في تلك اللحظة كان يحضّر لثورته الخاصّة، ونعرف أنّ ريم هي قلب تلك الثورة.

صنعت لعبة الهدوء والضجيج إيقاعا فنيّا وأدبيّا جميلين، ورغم أنّ الهدوء الطاغي أشعر بعض المشاهدين بالرتابة والملل، فإنّ وجوده كان ضروريّا وطبيعيا حتّى تكتسب لحظات الضجيج قيمتها. لقد عبّر بن عطيّة بالصمت عن كل ماهو مزيّف في حياة هادي، وقابله بالصوت ليعبّر عن كل ماهو حقيقيّ. ربّما لذلك مثلا كان حديثه مع خطيبته خديجة يتمّ بالرسائل النصّية القصيرة، بينما تأخذ علاقته بريم شكلا حواريّا أكبر، مع الكثير من الرقص والضحك والغناء وأصوات أخرى. كذلك كان ظهوره في جامع عقبة بن نافع (قبيل توجّه أخيه لإتمام عقد القران على الطريقة القيروانية الجميلة) صامتا، بينما قابل المخرجُ ذلك بصخب حفلة الحزب (من شعائر الزواج في المهدية حيث يتخمّر الرجال، والنساء حديثا، بالرقص على وقع أناشيد العيساويّة الصوفية). وبينما يلتقي بخديجة خطيبته في سكون الليل داخل سيارته، يمضي الوقت مع ريم على الشاطئ الصاخب بالحياة وفي المقهى الحافل بالضجيج.

ويحافظ هادي على هدوئه العصيب حتى تأتي تلك اللحظات الثلاث الحاسمة التي يحتاج فيها لأن يكسر هدوءه ويثور ويعبّر عن نفسه لا عبر الرسوم كما اعتاد أن يفعل، وإنما عبر الكلمة. يحاول أن يفتكّ مصيره من بين أيدي الكبار الذين يرسمونه له، ويجرب أن يبادر. يطلب في لجظة أولى من خديجة أن تفكر في أمر هذه العلاقة الشبيهة بالقدر، ويعد في لحظة ثانية ريم بأن يتبعها إلى آخر الدنيا وأن يترك عالمه الهادئ من أجلها، ويصرخ بألم في وجه أمّه الملتاعة ويصارحها بالحقيقة.
تمثل اللحظات الثلاث تطوّر ثورة هادي من الشكّ إلى التمرّد، وهو ما يجعل القول فيها ثقيلا ـ فنيا ـ حيث يتوجب على الكلمة فيها أن تكون بليغة ومعبّرة ودقيقة، وهو للأسف ما لم أجده فيها. لقد بدا انفعال مجد مستورة خلال هذه اللحظات متميزا وصادقا (ربما عكس النساء اللاتي كنّ قبالته في كل لحظة) لكنّه ـ اي الانفعال ـ تعرّض للتلعثم بسبب اعتماد المخرج في ما يبدو على عفويّة القول عوض أن يُعدَّ سلفا بشكل دقيق. لقد أفقد التعلثم بعضا من بلاغة المشهد، وعموما لم يكن الحوار أفضل شيء في الفيلم، ولقد ساهم أحيانا في الكشف عن سذاجة بعض الممثلين (كان آداء أمنية بن غالي في دور خديجة جيدا إلى حين لحظة الحوار مع هادي حين بدا أنها لا تستطيع إيهامنا بأنها حقا لا تملك طموحا أيّا كان). ولكن يمكن القول بأنّ الآداء العام كان ممتازا خصوصا هادي وأمّه.

قامت الفنانة صباح بوزويتة بعمل رائع في دور الأم المتسلّطة، وبذات الهدوء المستفز الذي انتظم على وقعه الفيلم، مارست للّا بيّة دورها كأمّ مسؤولة عن ابنها الراشد، وعن مستقبله واختياراته وأقداره. فكانت تتحدث عنه وتحلم عنه وتخطط عنه وكان ينصاع لها من دون بوادر خوف حقيقيّة، فهي لا تكتسب سلطتها إلا من خلال حضورها المعنويّ في "الأنا الأعلى" لابنها المطيع المتخلّق. ولئن ذهب الكثير من النقاد الأوروبيين إلى الخوض في العلاقة السلطويّة بين الرجل والمرأة في العالم العربيّ التي قلب الفيلمُ معالمها بشكل صادم، فإنّ ذلك يعود أساسا إلى تعوّدهم على الصورة المعاكسة الأزليّة التي تمطرهم بها السينما المغاربيّة عادة. لقد ساهم الحكم المسبّق في إرساء نوع من سوء الفهم تجاه رمزيّة علاقة الأم بابنها، فسلطة الأم ليست طارئة في المجتمع التونسيّ، وليست استثنائيّة، وطباع هادي المطيع والمذعن ليس طباعا خارقا للعادة التونسية.
إنّ هادي ليس فقط حلم أغلب الآباء التونسيّين من الطبقة المتوسطة، بل هو أيضا تصوّر السلطة التي يملك الكبار دوما زمامها، للشباب : الطاعة، الإذعان، الرصانة، السير وفق المنهج المخطّط له في هدوء وبدون "عربدة الضوضاء". لقد كان تعامل السلطة السياسية مع الشباب يأخذ دوما شكل علاقة للاّ بيّة بابنها : تحميله مسؤولية زائفة، مسؤولية ليس فيها حريّة أو خيار. إيهامه بالمشاركة عبر منتديات حوار وهمية، وعبر مناصب سياسيّة صوريّة، ومن خلال الكلمات المنمّقة الرنّانة، بينما لا تُؤخذ آراؤه مأخذ الجدّ ولا يفهم من تعابيره الفنّيّة المحدَثة والثائرة (يعبّر عن هذا هنا من خلال قصص هادي المصوّرة) سوى شكل من الزخرفة اللطيفة الثانويّة، معلّقة ظريفة يزدان بها جدا النجاح الحقيقيّ الذي يجب على الشابّ أن يحقّقه. وبهذا المعنى كان فيلم "نحبّك هادي" أكثر الأفلام التونسيّة تعبيرا عن الثورة، وملامسة لشظاياها المتناثرة في واقع البلاد لنحو ستّ سنين. هكذا من دون أن يخوض في التفاصيل السياسية الآنيّة، ومن دون المباشرتيّة المنفعلة، وعبر مزج إيقاعيّ بين الهادئ والصاخب، وبين الشباب والكهول، وبين مدن الداخل (القيروان) ومدن الساحل (المهدية)، وبين الشباب المقيم والشباب المهاجر(هادي وأخوه أحمد)، وبين فكرة الهروب وفكرة البقاء، تتجلّى صورة عميقة وعفويّة لتونس الحاضر.

لذلك لم أرَ في نهاية الفيلم وجها للتشاؤم، بل لعلّه التفاؤل ذلك الذي غيّر قرار هادي، ودفعه للبقاء. هادي يولي ظهره للمطار ويعود ليواجه تونس وقد بدت هذه المرة صاخبة، حيّة مزدحمة، مثل تلك الأفكار التي تعتمل في عقله. إنه يعرف أن لا نهر يعود إلى الوراء، وأن عصر سلطة الكبار قد انتهى، وحان الوقت ليندفع ويفتكّ موقعه الطبيعيّ كشخص قادر على الفعل والثورة.
وبذات التفاؤل يمكن أيضا أن نعتبر عمل محمد بن عطية الأول، بداية جديدة للسينما التونسيّة، تنزع فيها عن نفسها قشرة التكلف والنمطيّة، وتهتمّ فيها أكثر بالجانب الجماليّ والقصصيّ. إنّ على السينمائيّين التونسيين أن ينظروا إلى هذا العمل بشكل جدّيّ ويهتمّوا بنقاط قوته، وأسباب نجاحه علّ ذلك يساعدهم على شقّ طريق آخر للسينما التونسية بشكل عام.


الفيلم : نحبّك هادي
السنة : 2016
النوع : دراما
المدّة : 88 دقيقة
المخرج : محمّد بن عطيّة
التمثيل : مجد مستورة، ريم بن مسعود، صباح بوزويتة، أمنية بن غالي، حكيم بومسعودي.

Translate