Sunday, March 26, 2017

رحلة البحث عن شبح داخل القشرة

لايزال يُنظر إلى جنس الخيال العلميّ على أنّه من درجة ثانية، حاملةٌ فنيّة للميزانيات الضخمة، والمؤثرات البصريّة المبهرة. وليس من الصدفة أن يقترن بالرعب بالأكشن. والأكيد أنّ أيقونات سينمائية مثل أوديسا الفضاء 2001، وبلايد رانر Blade Runner لم تحصل على حقّها من التقدير إلاّ بعد مرور وقت طويل على عرضها، كأنّها من الصعوبة والتعقيد بحيث تستعصى على أهل عصرها. ويعتبر جنس الصور المتحرّكة أقل جدّية بما أنه ينسب آليّا للأطفال. ورغم هذا السياق المُحبط ظهر فيلم الأنيمي اليابانيّ "شبح داخل القشرة" Ghost in the Shell كطفرة نوعيّة في جنس الخيال العلميّ والصور المتحرّكة، وكان عليه أن ينتظر بعض الوقت ليتّخذ مكانته التي يستحقّ.





عالم Ghost in the Shell
كأغلب أعمال الانيمي الياباني، يعود أصل "شبح داخل القشرة" إلى قصة مصوّرة يابانية Manga لمؤلّفها ماساموني شيروو Masamune Shirow. أصدر ماساموني ثلاث قصص مختلفة انطلاقا من سنة 1989 إلى حدود سنة 1997، وجميعها تحت عنوان "الشرطة المدرّعة لمكافحة الشغب" Kōkaku Kidōtai مع انفراد كلّ قصّة بعنوان خاصّ، فكان نصيب القصّة الأولى (ظهرت حلقاتها بين 1989 و1990) إسم "الشبح داخل القشرة" وهو ما اعتمده مامورو أوشيي Mamoru Oshii كعنوان للفيلمين اللّذين أخرجهما سنتي 1995 و2004 وأثار بهما الانتباه إلى هذا العالم.


تلى الفيلمَ الأول أعمال أخرى كثيرة للسينما والتلفاز وألعاب الفيديو ومجلاّت القصص المصوّرة، لعلّ أبرزها الجزء الثاني سنة 2004 بعنوان Ghost in the Shell 2.0 : Innocence ومسلسل بجزئين بين 2002 و2005 بعنوان GITS : Stand alone complex.  وانتهى الأمر هذا العام إلى التبييض أو لنقل إلى الأمركة، من خلال فيلم حيّ من بطولة النجمة الهوليوديّة سكارلت جونسون Scarlet Johanson، ولكن لنترك هذا لوقت آخر.


ما يعنينا في هذا الحديث هو الفيلم السينمائيّ الأول الذي أخرجه مامورو أوشي سنة 1995 وأدار به الرقاب مرّة أخرى للأنيمي اليابانيّ كحاملة ملهمة للخيال العلميّ، وذلك بعد النجاح العظيم الذي حقّقه فيلم أكيرا Akira سنة 1988.
غير أنّ فيلم أوشي يذهب بصنف السايبر بانك Cyberpunk إلى مستويات أبعد ممّا جاء به أكيرا، بل وأبعد من فيلم Blade Runner (سنة 1982) الذي أسّس بشكل ما هذا الصنف من الخيال العلميّ. واستطاع بفضل جمعه بين الجماليّات البصريّة والمادّة الفكريّة الثقيلة والشكل السرديّ المعقّد أن يرفع مستوى الخيال العلميّ عموما، وأن يؤثّر بشكل واضح في السينما العالميّة على مدى قصير. ولأنّ عالم Ghost in the Shell ليس عالما بسيطا على غير المهووسين بالسايبر بانك، فقد ارتأيتُ أن أبدأ كتابتي عن الفيلم بشرح قصّته الملتبسة.


سيناريو ملتبس بين الحوار ومشاهد الحركة

يمكن اعتبار GITS من أعقد الأفلام على مستوى السيناريو، ولا يعود ذلك إلى بنية سرديّة غير خطيّة، ولا إلى استعمال أساليب سردية مثل الاسترجاع الفنيّ (flashback)، فالقصّة تتقدّم وفق نسق سرديّ خطيّ بسيط. لكنّ أوشيي لا يقدّم لنا إلا المعلومة التي يعرفها أبطال الرواية (فريق القطاع التاسع Section 9)، أي أنه يفرض علينا مشاركة الفريق في عمليّة تحليل المعلومات وتأليفها لفهم ما يحدث.
لكنّ التعقيد لا يتوقّف عند هذا الأمر، إنّ أبطال الفيلم لا يدلون بتلك المعلومات المهمّة إلا في أسوأ الأوقات وعلى مساحة زمنية محدودة لا تلبث مشاهد الأكشن أن تبتلعها وتشتّت انتباهك بحيث لا تجد الوقت الكافي لاستيعابها. وهو أحد عيوب الفيلم لأنّه لم يستعمل ذات الأسلوب في مشاهد الحوارات الفلسفية التي لا تؤثّر مباشرة على السيناريو.


أما آخر مستويات التعقيد، فهو أنّ المشاهد يُحمل على هذه المهمّة في الوقت الذي يحاول فيه التعرّف على العالم الذي وجد فيه. فلا مقدّمات كثيرة هنا، ويجب عليك أن تتعلّم من بين تفاصيل المشهد أنّك في عالم المدينة الفاسدة (Dystopia)، حيث يسبح كل شيء بما فيه الجريمة في الفضاء السايبري (Cyber) الذي تتجرّد فيه الأشياءُ من كيانها الماديّ وتصبح كيانات معلوماتيّة بحتة (نحن اليوم في عصر انترنت الأشياء IoT بالفعل). عليك أن تدرك أيضا أن الذكاء الصناعيّ بات طاغيَ الحضور، وأنّ تغيير أعضاء الجسد بقطع الكترونية أكثر نجاعة بات ثقافة شعبية تقريبا. وبفضل أسلوب التعزيز (Augmentation) أمكن توصيل الدّماغ بالعالم السايبيري ليتماهى بشكل ما الذكاءُ الطبيعي والصناعيّ في بحر السايبر المعلوماتيّ اللامحدود... وفي وسط كل هذا يعمل القطاع التاسع Section 9 بشكل سريّ، لينجز تلك المهام القذرة التي لا يمكن أن تعلق بسجلات الدولة. يرأسُ القطاع التاسع المديرُ أراماكي Aramaki ويشرف على وحدة التدخل الرائدُ موتوكو كوساناغي Motoko Kusanagi وهي شخصية الفيلم الرئيسيّةُ وتضمّ الفرقةُ فيمن تضمّ باتوو Batou وتوغوسا Togusa.
تقوم قصّةُ الفيلم على قضيّة محرّك الدمى (Puppetmaster) القرصان الذي يخترق مستويات أمنية عالية، ويفرض على وحدة الرائد موتوكو التدخل، ما يجعلها تكتشف تورّط بعض أجهزة الدولة في ممارسات لا قانونية، انجرّ عنها ميلاد كيان جديد في عالم السايبر، ينشد أن يحقّق ذاته من خلال الاندماج مع بطلتنا.
على هذا الرّابط وضعتُ شرحا كاملا للقصّة، حتّى لا أطيل هنا في الحديث عنها، وأنتقل إلى عملية القراءة.


قشرة جمالية تغلّف محتوى عميقا

كانت عناية مامورو أوشي بالصورة بالغة الدقّة، وتتسرّب إلى أطرافها وتفاصيلها الصغيرة، ولقد ذهب في ذلك حتّى التطرّف في الفيلم الثاني. صحيح أنّه لا يمكن فهم السيناريو بدون الانتباه إلى كلّ حرف من الحوار، ولكنّ الصورةَ تحمل جزءا كبيرا من المعنى، وبعيدا عن سيناريو الفيلم، فإنّ أوشيي فكّك شخصيّة الرائد كوساناغي عبر الصورة أكثر من أي شيء آخر، وبفضل عملية التفكيك Deconstruction هذه، اكتسب Ghost in the Shell قيمته الفنية العظيمة.


وقبل التطرّق إلى شخصيّة موتوكو، يجب الاهتمام أولا بالعالم الديستوبيّ الذي لا يدرَك إلاّ من خلال المَشاهد. فالقصة لا تشرح أيّ شيء عنه، والحوار يكتفي بتسمية التقنيات في أغلب الأحيان دون يشرح وظائفها. وحدها الصورة تسمح لنا بفهم كلّ ذلك. لقد فهمنا تقنية التمويه بمجرد أن استعملتها الرّائد موتوكو في بداية الفيلم، وفهمنا أنّها تقنية لا تتاح إلاّ للخاصّة، انطلاقا من ردّة فعل مدير القطاع السادس. كذلك أسلوب الغطس Diving الذي يسمح لشبح/روح الغطّاس بالتدفّق عبر السايبر ومواجهة الأشباح الأخرى أو الحلول في قشرة/جسد آخر. كما استعملت تقنيات أخرى كثيرة دون أي شرح أو تلميح لبداهتها، ولأنّها في سياق زمنها ليست خارقة للعادة يمكن للشخصيات أن تتحدّث حولها، مثل الصور الهولوغراميّة المستعملة في كلّ مكان، والدماغ المعزَّز Augmented بحيث يمكنه التواصل بشكل مباشر على قنوات اتصال خاصّة، وتلك الوصلات خلف رقاب أعضاء القطاع التاسع التي تمكّنهم من الاتصال المباشر بالأشياء.
إنّ عدم حاجة أوشي لشرح كلّ ذلك الكمّ من المصطلحات والتقنيات يدلّ على نجاحه في تصميمها وفي دمجها بالمشهد دون أن يؤثّر ذلك على فهم المُشاهد.


يقرب هذا العالم كثيرا من ذلك الذي صمّمه ريدلي سكوتّ لبلايد رانر Blade Runner، الذي استوحاه بدوره من فيلم ميتروبوليس Metropolis، حيث يتميّز بالمقابلة الحادّة بين البناءات الشاهقة المتطوّرة والحياة السردابيّة underground البدائيّة والمتوحّشة والبائسة، بين كثرة الأضواء المنبعثة من المغازات والإعلانات وإشارات المرور من جهة، والجوّ الليليّ المظلم المخيّم على المشهد من جهة أخرى. في هذا العالم، تكون مراكزُ القرار، ومقرّاتُ أجهزة الدولة، ومقابلاتُ المجرمين الكبار في الأعالي، بينما يوجد المجرمون الصغار، والخراب الناتج عن قرارات الكبار، في الأسفل. لقد كان واضحا أنّ ما يحدث في الأعلى ينعكس دائما سلبا على الأسفل في مقاربة خفيّة مع شخصيّة محرّك الدمى الغامض. لا ننسى هنا أنّ الدمى كانت دائما في الأسفل.




تحاول الرائد موتوكو كوساناغي أن تتخذ موضعا أعلى من المتحكّمين بهذا العالم، وهو ما تعبّر عنه بداية الفيلم المثيرة. تقف فوق قمّة المدينة وتتواصل مع فريقها بحسّ مرح يكشف جزءا من شخصيّتها، قبل أن تتجرّد ببساطة من ملابسها وتقفز من علٍ. ظلّ ذلك المشهد المثيرُ علامة مسجّلة لـ Ghost in the Shell، تباعا لمشهد الخلق العظيم. حيث يراوح أوشي في شارة البداية بين أسماء أعضاء الفريق وبين عمليّة صنع السايبورغ الذي سيصبح الرّائد كوساناغي، وذلك على خلفية موسيقى فريدة من نوعها ابتدعها العبقريُّ كنجي كواي Kenji Kawai انطلاقا من الفولكلور البلغاريّ. تبدو المقاربةُ في مشهد الخلق بين تصنيع كوساناجي وتكوّن الجنين وولادته كبيرة جدا. فإذا كان الثاني ينطلق من نطفة، فإنّ الأول ينطلق من الخلايا العصبيّة التي يعزّزها دماغ الكترونيّ. تختلف التأويلات وتكثر بشأن طبيعة دماغ كوساناجي، بعضهم يعتبره مخّا طبيعيّا وبعضهم يقرّ بأنه صناعيّ تماما وأنّها ليست بذلك كائنا بشريّا. الأرجح أنّ الدماغ كان مخّا بشريّا معزّزا Augmented بشرائح إلكترونيّة تدفع بقدراته وتسمح له بالتواصل مع السايبر وبالتحكم في الأعضاء الالكترونيّة للسايبورغ. ثم إنّ الجسم وقد اكتمل قوامه يتّخذ وضعا شبيها بوضع الجنين، يسبح في ماء كأنه سائل أمينوسيّ، ثمّ يرتفع شيئا فشيئا نحو السطح، فيخرج الرأس أوّلا، ثمّ يمعن الرسّام في المقاربة فتتفتّت القشرة البيضاء وتنجلي عن بشرة آدميّة كأنّها قشرة بيضة.
في المشهد الموالي تماما، نرى الرائد موتوكو في غرفتها، تفتح عينها كأنّها كانت نائمة، تحرّك أصابع يدها، كأنما تحاول التيقّن من أنّها على قيد الحياة، لكنّنا نفهم أنّ المشهد السابق كان حلما أو ذكرى بعيدة...
ومن الواضح أنّ المشهد من البساطة والثراء ما دفع الأختين واشوسكي (أخوان آنذاك) إلى استعماله في الماتركس. والحقيقة أنهما لم يقتصدا كثيرا في استعارتهما من Ghost in the Shell، ويمكن الإشارة بشكل خاصّ إلى استعمال حركة الرموز الخضراء على خلفية سوداء لتشكيل عناوين شارة البداية، ولتشكيل عالم السايبر، حيث أصبحت بعد أربع سنوات فحسب سمة فيلم الماتركس المميّزة.





لا يمنح السايبر بانك مساحة كبيرة لإبداع بيئة القصّة، فعناصر المشهد في الغالب مكرّرة ومعروفة (الظلمة، البناء الشاهق، الزحمة في الأسفل، الذكاء الصناعيّ، الخ)، لكنّ Ghost in the Shell استطاع أن يضفيَ فرادة على بيئته، وأن يمتاز بفضل تصوّر عميق حتّى التفاصيل لمختلف التقنيات المستعملة، ويصبح بذلك جزءا من الثقافة الشعبية العالمية. كما اضطلعت هذه العناصر بوظيفتها الطبيعية في التعبير عن مضمون الفيلم وبشكل خاصّ عن شخصيّة الرّائد موتوكو ورحلتها الوجودية المثيرة.


موتوكو ومحرّك الدّمى

اِنبنت القصّة على مهمّة البحث عن محرّك الدّمى الغامض، ومع تقدّم الأحداث، نكتشف أنّنا في الحقيقة نشارك الرّائد موتوكو رحلة بحثها عن نفسها. إنه ذات القالب العبقريّ الذي عرفناه مع رائعة إنغريد برغمان، Persona.

يبدأ الفيلم مع ما يبدو أنّه ولادتُها، وينتهي عندما يبدو أنّه ولادة جديدة لها، في صورة هي أقرب لفكرة العود الأبدي التي قدّمها نيتشه في "هكذا تكلّم زرادشت". ليس هذا التجلّي الوحيد لفلسفته الوجوديّة، ففكرةُ الارتقاء كانت أيضا جليّة، خصوصا في المشهد الأخير، إذ تجري أحداث المعركة الأخيرة للوصول إلى الحقيقة داخل متحف قديم للبيولوجيا، ولا شكّ أنّ شجرة التطور البيولوجي لم تكن لغرض استيطيقيّ فحسب. لقد أصابت الرصاصات كلّ تلك الأنواع المنقرضة وفتحت الباب لنهاية الإنسان وبداية نوع جديد بشّر به نيتشه تحت إسم "الأرقى من الإنسان" أو الأعلى من الإنسان Übermensch. عند هذه الشجرة المبشِّرة، انصهر شبحا موتوكو ومحرّك الدمى، وولد الكيان الجديد.




بدا الكيان الجديد الذي يمثّل موتوكو أو يحمل وعيها بشكل ما، راضيا عن نتيجة هذا البحث الوجوديّ، رغم أنّه لم يصل في النهاية للإجابة عن سؤال: هل إنّ موتوكو بشر أم ذكاء صناعي؟
كان هذا السؤال شغلها الشاغل منذ بداية الفيلم حينما فتحت عينيها محرّكة أصابعها، متسائلة في قرارة نفسها إن كان مشهد الولادة جزءا من ذاكرتها أم أضغاث أحلام. ومع تقدّم بحثها عن محرّك الدمى تزداد تساؤلاتها بشأن وجودها. فأساس دماغها بشريٌّ تمّ تعزيزه وتغليفه داخل قشرة سايبورغ مصنّعة، لكنّها لم تر دماغها ولا تقدر على ذلك، كما قالت لباتوو، فما الذي يجعلها هي؟


كان هذا التساؤل هو أساس تصميم شخصية موتوكو من قبل ماساموني شيرو، فحالتها مثال عبقريّ لما تخيّله الفيلسوف الفرنسيّ رنيه ديكارت منذ كتابته مقالة المنهج سنة 1641. طرح ديكارت فكرة أنّ وعي الإنسان بذاته مستقلّ عن كل وجود فيزيائيّ، لما يمكن أن تقع فيه الحواسّ من أخطاء في التقدير، واعتبر أنّ الإنسان يدرك وجوده بصفة بديهية بمجرد التفكير فيه، ومن هنا جاءت العبارة الشهيرة "أنا أفكّر إذا أنا موجود" Cogito ergo sum.
ومع ظهور فلاسفة الوضعية، والماديّة، تمّ دحض هذه الفكرة على اعتبار أنّ عمل التفكير له أساس ماديّ سابق، وأنّه بذلك لا يسبق الكينونة، وهو ما أبرزه كيكرغارد Kiekergaard في نقده للكوجيتو، ف"أنا" التي تسبق "أفكر" تفترض وجود كينونة تمارس عملية التفكير بالفعل.
تمّ تخليص الرائد من جسدها الذي يعدّ دوما دليلا واضحا على كينونتها. ففي هذا العالم المستقبليّ، يبدو منطقيّا جدا أن يحاكي التطور الالكترونيّ حركة العضلات والأعصاب ويجعل من الجسم البشريّ أبعد ما يكون عن المعجزة، ولكنّها مع ذلك تحتفظ بوعيها بذاتها، وإحساسها العميق بكينونتها. إنّ هذا الإحساس هو ما يحدّد وجودها. وهي بذلك تنتصر لكوجيتو ديكارت.


لقد ذهب الكثيرون إلى أنّ الفيلم لم يقدّم إجابة واضحة في ما يخصّ وجود الشبح/الروح أم لا. لكنّني أرى أنّ الفيلم فعل العكس تماما وإن لم يحدّد طبيعة هذا الشبح بشكل قاطع. فلم يكتفِ ماموري أوشي بتجريد الرّائد من كيانها الماديّ، وإنما افترض امكانيّة وجود "كيان" غير مادّي مطلقا من خلال شخصيّة محرّك الدمى. إنّ الجسد البشريّ في هذا العالم لا يعدو أن يكون غير قشرة Shell لجوهر المرء. ومنذ أن كنّا نتحدّث عن عالم ميتافيزيقيّ أفلاطونيّ تسبح فيه الأرواح، صرنا في عالم سايبيريّ متكوّن فحسب من المعلومات تسبح فيه "الأشباح" سواء كانت بشريّةً أم معلوماتيّة بحتة.
لقد عزّز ماموري هذا الانفصال التامّ بين الوعي والجسد، من خلال علاقة الرّائد بجسدها. إنّ هذه العلاقة معقدة وملتبسة وعبقريّة في كلّ مشهد. يتناقض شكل جسدها الأنثويّ الفاتن مع قدراته العضلية المذهلة، وهي رغم هذا وذاك، لا تتصرّف بغلظة الذكور ولا برقّة الأناثي. بل لا يبدو أنّها تقيم وزنا كبيرا لجسدها، ففي كل مرّة تحتاج فيها إلى استعمال تقنية التمويه، تترك ملابسها جانبا بدون أيّ حرج، بل تلقي بالحرج على باتوو الذي يسارع في كلّ مرة بالغطاء. وفي المشهد الموالي لغطسها في البحر، لم يخفَ حرجُه الشديد من تبديل الرّائد لملابسها أمامه في غير مبالاة. وتمعن الرّائد في السخرية من أنثويّة جسدها بتلك المزحة التي ألقتها على باتوو منذ بداية الفيلم حين سألها عن سبب التشويش في ذهنها :"لا بدّ أنه وقت عادتي الشهرية"!
لكنّ الرّائد لا تشعر بجنسها كأنثى بحسب، بل إنّها لا تشعر بجسدها كلّه، ولقد أثبتت ذلك بدون تردّد في المعركة الأخيرة ضدّ المدرّعة، حين استنفرت قواها لاجتثاث رأس المدرّعة، واستهترت تماما بحدود جسدها السايبورغي الذي يبدو أنه غير مجهّز بلاقطات ألم، فتمزّقت أطرافه بقسوة.




لقد أسّس كلُّ ذلك لقطيعة واضحة بين وعي الرّائد بذاتها، ووجودها الماديّ المتمثّل في قشرة لا معنى لها، يمكن الحلول في غيرها ببساطة كما حدث في مشهد تبادل الأجساد في النهاية مع محرّك الدمى، أو المشهد الأخير حين حلّت في جسد طفلة صغيرة. وهذه القطيعة تناقض تماما فلسفة نيتشه الوجوديّة التي تضع الجسد كجوهر في حدّ ذاته. ولكنّها في الآن نفسه تتفق معه في جانب آخر، فرغم رفض الفيلم لطبيعة الكينونة الماديّة، لم يبحث أن يحدّد لها طبيعة ميتافيزيقيّة أيضا. فتمّ استبدال مفهوم الروح بمفهوم تقنيّ يسمّى "الشبح" ليجمع بين الكينونة البشريّة والكينونة المصنّعة، إذ أنّ له قدرة على التدفق على بحر المعلومات مثل برامج الذكاء الصناعيّ، ومثل محرّك الدمى الذي وعى بوجوده دون أن يكون له حلول ماديّ. لقد أقرّ الفيلمُ فعلا بوجود الشبح، وأقرّ ببعض خصاله وقدراته، ولكنّه لم يحدّد أبدا ماهيّته بل وأكساه دوما طابعا غامضا محيرا، كما ورد على لسان موتوكو حينما سئلت عن سبب ترجيحها افتراضا دون آخر :" إنها همسة سمعتها داخل شبحي"، وهذا الهروب من التحديد هو الفكرة الرئيسية لGhost in the Shell.


كان واضحا منذ البداية أن الرّائد كوساناغي تبحث عن إثبات كينونتها وطبيعتها البشريّة لنفسها. في البداية من خلال تلك المقاربة بين تكوّنها وبين عملية الولادة الطبيعية كما تقدّمت بالتّبيين. ثمّ مع تلك الأسئلة التي تفرضها عليها عملية البحث عن محرّك الدمى: إنّها حتما ليست ذلك الجسد الذي تخسره بمجرّد حلولها على التقاعد، وهي ليست ذاكرتها التي يمكن أن تكون مزيّفة كما أثبتت ذلك حادثة عامل النظافة الصّادمة (وهي ذات الفكرة التي قدّمها فيلم Blade Runner بشكل عبقري أيضا). وهي أيضا ليست ما يتحدّد عبر الآخر مثلما قال لها باتوو "أنت تُعاملين على أنّك إنسان، فتوقّفي عن هذا القلق"، فلا أحد يعترف بكينونة محرّك الدمى رغم إصراره على ذلك.
هكذا افتقدت كينونتُها لامتدادها في الماضي ولحلولها في الحاضر، ولم يبق لها من فضاء لتتحدّد فيه سوى المستقبل. أدركت الرّائد كوساناغي في النهاية أنّ كلّ محاولة لتحديد الماهيّة، ليست إلا عمليّة حدّ لها ولقدراتها العظيمة على التطوّر. إنّ كيانها يتشكّل بصفة متواصلة، والخيارات المتاحة عظيمة ـ كما ذكرت في عبارة الختام "الشبكة (السايبر) واسعة ولا حدود لها" ـ وكلّ محاولة للحصر هي في النهاية محاولة للتقليص من هذه الخيارات. بقبولها الاندماج مع محرّك الدّمى، أعلنت الرّائدُ رفضها لهذا التحديد، وتخلّصت من خطيئة البحث عن نفسها، من أجل فضيلة خلق نفسها والارتقاء بها.


إنّ احتفاء الفيلم بعملية التطوّر الارتقاء عظيمة فعلا. يقترح الفيلم أنّ تطوّر الحياة أعمق أثرا مما نلحظه من تطوّر فيزيولوجيّ، إنّه تطوّر للبرنامج الأساسيّ الذي ينبثق عنه الكيان المادّيّ، أي الحامض النووي، أي أنه في النهاية تطوّر للمعلومة ليس إلاّ، وهو بذلك يفتح بابا لنوع من التطوير الرقميّ.
لا تأخذُ الحياةُ قيمتَها إلاّ بفضل الموت، فالموتُ يمنحُ الإنسان الفرصة إلى خلع نسخته (version) القديمة وانتحال نسخة معدّلة، وهو جوهر التطوّر. إلاّ أنّ هذا لا ينتج عن عمليّة نسخ أمينة (copy) وإنما عبر عمليّة تأليفيّة تنتج شيئا جديدا، وتسمّى التكاثر. لقد كان محرّك الدمّى يعي بكل ذلك وهو يستدرج الرّائد موتوكو إلى الخاتمة، كانت فكرته النهائيّةُ هي أن يثبت وجودها بشكل كامل من خلال عملية تكاثر، تنتج شيئا جديدا. أليس هذا رومانسيّا؟
يمكن بشيء من المرونة رؤية القصّة على أنّها قصة حبّ فريدة بين موتوكو ومحرّك الدمى، كان كلّ منهما يبحث عن الآخر في ذاته، أو يبحث عن ذاته في الآخر. عبّرت عن ذلك لقطات موتوكو العديدة أمام سطح عاكس (مرآة، سطح الماء، بلوّر…) ومقابلتها بلقطة النهاية حيث يتواجه الوجهان كانهما انعكاس لبعضهما البعض.
شبحان/روحان يبحثان عن بعضهما البعض طيلة الفيلم كأنّهما نصف يبحث عن نصفه الآخر، يحلّان في قشور (أجساد) مختلفة متنوّعة، حتّى ينتهيا إلى التقابل في عالم السايبر، تماما كتلك الصورة الأفلاطونية الطوبويّة، وتنتهي حياتهما بالاندماج وإنجاب/إنتاج كيان جديد سيواصل الرحلة. لا صدفة إذا أنّ موسيقى مشهد الولادة، هي موسيقى زفاف بالأساس!

 
لكنّ Ghost in the Shell في ثمانين دقيقة فحسب، ينثر أسئلة أكثر من هذه بكثير في أرجاء المشاهد والحوارات، وفي تفاصيل القصّة البسيطة الحبكة، والمعقّدة السرد. لذلك فهو يستحقّ عن جدارة مكانته كأحدث أعظم أفلام الأنيمي على الإطلاق، وأهمّ أفلام الخيال العلميّ والسايبربانك خصوصا رغم كل اللامبالاة التي تلقاها هذه الأصناف من قبل النقاد.

شبح داخل القشرة : شرحُ القصّة كاملة


تبدأ أحداث الفيلم مع تدخّل الرائد موتوكو لمنع مبرمج كمبيوتر من طلب اللجوء إلى دولة أجنبية، وذلك بطلب من القطاع السادس التابع لوزارة الخارجية. لكن الفيلم يتجاوز هذه الحادثة تماما لتبدو كأنّها مدخل لا غير.

كانت المهمّة الأساسية للفريق اقتفاء أثر "محرّك الدّمى"، قرصان كمبيوتر مجهول الهوية، اكتشفت محاولاته لاختراق عقل مترجمة وزير الخارجية، في الوقت الذي يستعدّ فيه الوزير لمقابلة وفد من حكومة دولة Gavel الديمقراطية الجديدة التي جاءت تنشد الدعم. نحن نعلم مسبقا أنّ وزارة الخارجية على اتصال بالزعيم السابق لGavel (إسمه Malles) الذي طلب اللجوء السياسيّ. كان هذا يعني أن محرّك الدمى قد يحاول السيطرة على المترجمة لإفساد الاجتماع لصالح Malles أو بالعكس، لإيهامهم بأنّ Malles يريد إثارة المشاكل.

يتمكّن ثلاثيُّ القطاع التاسع من التوصّل إلى مصدر الإشارة: عامل نظافة بسيط تمّ التلاعب بذاكرته تماما بحيث يمارس عملية الاختراق عبر الموزعات الآلية التي يمرّ بها، ظنّا منه أنه يقرصن حساب زوجته الوهمية ليكشف خداعها. ولقد قادهم في غمرة جزعه إلى المجرم الذي لقّنه عملية الاختراق، لكنّ المجرم نفسه كان إحدى دمى المحرّك الخفيّ أيضا.

في القسم الثاني من الفيلم، نرى امرأة عارية تتعرّض لحادث بالطريق السيارة، وتنقل إلى القطاع التاسع عندما يتّضح أنّها جسم آليّ مفرغ تماما من كلّ برنامج تحكم ما يجعل حركتها التلقائية أمرا مستحيلا.

وتتعاظم الحيرة بعد تحليل الدماغ حيث يتبيّن للخبراء وجود آثار لما يسمّى الشبح (ذلك الجانب اللامادّيّ الذي يميّز الكائن الحيّ على السايبر) رغم عدم وجود خلايا دماغية حيّة. نعرف هنا أنّ أجزاء السايبورغ التي يملكها أعضاء الفريق، مصنّعة من نفس الشركة التي صنعت هذه الدمية، كما نعرف بشكل واضح أن الرائد كوساناغي تملك جسد سايبورغ خالص ولا يتجاوز جزؤها البشريّ تلك الخلايا الدماغيّة التي سمحت بوجود "شبحها". تقرّر الرائد أن "تغطس" داخل السايبر لملاقاة شبح الدمية المحيّر.

في الأثناء كان على المدير آراماكي أن يستقبل مدير القطاع السادس رفقة رجل أمريكيّ قيل أنه مشرف على اقتفاء أثر محرّك الدمى. يطلب الزائران تسليمهما الدمية العارية على اعتبار أنّ ما بداخلها هو شبح محرّك الدمى الذي "غطس" داخلها قبل أن يفقد جسده الحقيقيّ. كما أنّ القطاع السادس كان يدير مشروعا يعرف ب2501 للقبض على القرصان.

لكنّ محرّك الدمى تكلم عبر تلك الدمية المهشمة، مكذّبا كلام القطاع السادس، ومعلنا أنّه لم يكن يوما يملك جسدا، وإنما هو كائن حيّ جديد خلق وسط السايبر بفعل المعلومات المتراكمة، وأنّه في لحظة ما كسب وعيا بنفسه سمح بتكوين "شبح" حقيقيّ، وأنّه كان جزءا من المشروع 2501 وليس هدفا له. ولكن لأنّه لم يكن يستطيع مغادرة MegaTech بسبب حائط النار (Firewall) فقد ارتأى الهرب عبر النفاذ إلى قشرة مادية (الدمية العارية).

لكنّ مدير القطاع السادس كان مصحوبا بمدد خفيّ يستعمل تقنية التمويه غير المرخّصة لقطاعه (ألهمته الرائد كوساناغي فكرة استعمالها حين التقيا أول الفيلم في قضية اغتيال الديبلوماسيّ) لخطف القشرة والهروب بها، وكان فريق القطاع التاسع في المطاردة.

كان على الرائد أن تواجه مدرّعة آليّة للوصول إلى محرك الدمى، ولقد استنزفت جسدها السايبورغيّ في ذلك وكادت تهلك لولا وصول باتوو Batou في الوقت المناسب. أخيرا تقرر الغطس داخل السايبر ومواجهة شبح محرّك الدمى. يسرّ إليها الكائنُ أن أصله يعود إلى مشروع 2501، برنامج جوسسة وضعه القطاع السادس يقوم بتنصيب برامج في أدمغة الضحايا للسيطرة عليهم. وحين خلق وعي لهذا الكائن، ظنّه المبرمجون (كان مبرمج حادثة اغتيال الديبلوماسي أحدهم) علّة في البرنامج (bug) فتمّ عزله عن شبكة الاتصالات بسجنه في قشرة سايبورغ.
ثم إنّ محرّك الدمى طلب من الرائد أن يندمجا، ذلك أنّها الوسيلة الوحيدة بالنسبة له أن يتكاثر مثل كلّ كائن حيّ وهو ما حصل في النهاية قبل أن تُجهز طائرات القطاع السادس على قشرة الرائد ومحرّك الدمى.




في المشهد الأخير كان نجاح الدمج واضحا من خلال القشرة الجديدة التي أوجدها باتوو Batou لما يفترض كونه الرائد. كانت قشرة طفلة صغيرة توحي أنّها ثمرة هذا الاندماج.

Translate