Tuesday, October 31, 2017

العفاريت كما تراها كوثر بن هنيّة


بين صرخة الانتفاضة وأمل الثورة، نبتت بالوعة من فراغات التهافت. ثمّ، وكأنّها ثقب أسود، راحت تسحب النور من بين أعين التونسيّين حتّى بات الظلام متهالكا على الأفق، قريبا من اليقين، وبات اليأسُ لغة التواصل، ومشتَركا حين فرّقتهم سياسات التّوافق. لا شيء يبشّر بالجمال تقريبا، ولا شيء يعد بأفضل منه، ربّما باستثناء بعض ذلك الذي يحدث في السينما. فمع كلّ سنة من الحرّيّة، يزداد تردّد الأصوات السينمائيّة التونسيّة، في المهرجانات الكبرى، وبعد أن دوّت صورة "نحبّك هادي" لمحمّد بن عطيّة في برلين السنة الماضية، جاء دورُ المخرجة كوثر بن هنيّة لتظفر بمشاركة متميّزة في مهرجان كانّ الأخير من خلال فيلمها الجديد "على كفّ عفريت".

وبعد أن تُوجّت السنة الماضية بالتّانيت الذهبي بفضل فيلمها الروائيّ الطويل الثاني "زينب تكره الثلج"، تشارك بن هنية مرّة أخرى في مهرجان قرطاج بفيلمها الذي شارك في مسابقة "نظرة ما" Un certain regard في نسخة كانّ Cannes الأخيرة.
يستعيدُ فيلم "على كفّ عفريت" جزءا من البالوعة التي تسحب الألوان من مشاهد الحياة التونسيّة، ينبش فيها، ويعيد تشكيلها بإيقاعات أكثر حدّة من حواسّنا الرّاكدة، عسى أن يوقظ ما نام فينا، أو يحرّك ما سكن. من خامات الرعب، والقبح، واليأس كما يعيشها التونسيون، رسمت كوثر بن هنية، طريقا جديدا للإبداع ربّما لم تألفه السينما التونسيّة الغارقة في وحل التقليد منذ سنوات طويلة. فإذا اليأسُ من الوطن، أملٌ في سينماه، وإذا الكفر بنظمه، إيمانٌ بشاشته الكبيرة.

يصعب الحديث عن "على كفّ عفريت" دون التطرّق إلى العفريت، وإلى كفّه، وإلى الظروف التي دفعت "البطلة" إلى الوقوع على هذا الكفّ. لحسن الحظّ، لا ينتقص حرق الأحداث شيئا من سطوة الموقف، ولا من وقع الصدمة، فخطوط القصّة العامّة معروفة عند الشارع التونسيّ منذ أربع سنوات تقريبا، حينما تفاعل مع ما حدث لمن أطلق عليها إسم "مريم"، شابّة تونسيّة تعرّضت رفقة صديقها إلى اعتداءٍ من بعض أعوان البوليس، فقط لأنهما لقمة سائغة، في وضع ضعيف يسمح بالابتزاز، أو هكذا خيّل للأعوان.

ليست هذه المرّة الأولى التي تعتمد فيها كوثر بن هنية على مادّة مستوحاة من الواقع، فقد كان فيلمها الروائيُّ الأول مبنيّا على قصّة من عرف بـ"شلاّط تونس". لكنّ التعامل مع القصص الواقعية، يبقى أمرا نادر الحدوث في السينما التونسيّة، لا لسعة الخيال وإنّما لضعفه، فالعمل على اللامتخيَّل يتطلّب اهتماما أكبر بالكيفيّة، بالأسلوب، لأنّه، حينما تكون الدراما معدَّة سلفا، يبقى هو أهمّ مواطن الإبداع. كتبت المخرجة التونسيةُ سيناريو الفيلم انطلاقا من مذكّرات مريم بن محمّد (وهو إسم مستعار) المنشورة تحت عنوان "ذنبي أنني اغتُصبت" Coupable d'avoir été violée، لذلك كان عليها أن تشتغل على الصورة لتنقل إليها القيمة المضافة للقصّة، ولقد كان هذا العملُ جليّا منذ المشهد الأول.

تؤدّي مريم الفرجاني أوّل دور لها من هذا الحجم، لكنّها منذ اللقطة الأولى، تواجه الكامرا/المرآة بثقة تبعث على البهجة، معها صديقتُها تساعدها على الاستعداد لاقتحام سهرة جامعيّة صاخبة في تونس العاصمة. تتصرّف كأيّة فتاة حديثة العهد بهذا العالم المغوي، تتقلب بين الحماس والارتباك والدهشة والرغبة، تتبع مسارا سطّرته قمرة (كامرا) المخرجة المتسلّطة على المشهد، المسيطرة بإتقان كبير لكلّ تفاصيله. تجول بنا في أركان الفضاء بفضل لقطة متتالية (long take) من عشر دقائق، هي إحدى تسعة لقطات فحسب كوّنت الفيلم كلّه. وبفضل عمق الحقل (deep focus) الذي سمح به الفضاءُ وهندسةُ المخرجة، أمكن رؤية ما هو أبعد من رؤية البطلة نفسها. هناك عند الركن، يقف ذلك الشابّ الذي لحظت اهتمامه بها، يتحدّث مع إحدى رفيقاتها، فنعرف ـ نحن المشاهدون ـ قبل البطلة نفسها، كيف ستتعرّف عليه.
هكذا بما قلّ من الكلمات وما دلّ من الصور، صرنا داخل إطار المشهد، نتحرك خلف قُمرته الحيّة النشيطة المغرية، كأنّها تتجاوز علاقة التلصّص التي تجمع ـ عادة ـ بين المشاهد وبين الشخصيّات، إلى علاقة شراكة هي مفتاح الإثارة Thriller الذي سوف يواجهنا بعد حين.

تنتقل المخرجة من التمهيد إلى جوهر الأحداث بعنف صادم. تنقلب الوجوه، وتتغيّر العبارات، ويفقد الفضاء موسيقاه المرحة. في المشهد/اللقطة المتتالية الثانية، يتمُّ تجاهل الحدث القادح، أو يتمُّ حجبه بشكل مستفزّ، ولا نفهم وقوعه إلا بشيء من التأخير. كما في رائعة كاغيموشا Kagemusha لا نحضر المعركة، ولكن تطالعنا أوجه الجرحى ورائحة الموت فنفهم كلّ شيء. رسمت مريم الفرجاني على ملامح شخصيّتها ما نحتاج إليه من رعب، وصدمة عصبية، وإحساس بالضياع لندرك ما حلّ بها، فالاغتصاب هو الاغتصاب أينما كان في بلاد الدنيا، أما ـ ما تلا الاغتصاب ـ فهو شيء تونسيٌّ فريدٌ يجب أن نعيشه من وراء الشاشة لنشعر به، ونفهمنا.

في ثمانية لقطات متتاليات يتراوح طولها بين الثمانية والثمانية عشر دقيقة، نجول مع مريم ويوسف (غانم الزرلّي) بين المستشفيات ومراكز البوليس وشوارع العاصمة، نحمل ثقل المذلّة والمهانة التي يحملان، ويعترينا شعور بالإثم عظيمٌ مع كلّ نظرة إدانة في وجه شخصٍ يُفترض منه المساعدة. وكأنّنا في محاكمة كافكا التي لم تلتئم، يضيع وسط البيروقراطية كلُّ إحساس بالتّكافل، والرحمة والإشفاق، وتسود اللامبالاة. فأمام حالة الضحيّةِ الرثّة، تجدُ موظّفة الاستقبال بالمصحّة وقتا للحديث عن الشاي والسكّر. ويُرفع شعار القانون الذي لا يلتزم به أحد منهم: لا يمكن قبول المريضة بدون هويّة رسمية. لا يمكن قبول طالبة في المبيت بعد العاشرة. لا يمكن أن تركب سيارة أجرة دون أن تدفع ثمنا كاملا… كأنّنا في زمن الاشتباك لغسان كنفاني، يبدو مشهد الناس في قسم "الاستعجالي" في المستشفى مرعبا، يشتبكُ الناس ويتهافتون كلٌّ من أجل حياته، لا أحد ينظر إلى الآخر تقريبا، كأنّنا في فيلم زومبي.

لقد استعاد يوسف هذه الاستعارة وهو يتحدّث عن حياته. يشعر أنّه البشر الوحيد الباقي وأنّ الجميع من حوله يريد أن يعضّه ويخلّصه من إنسانيّته. ربّما لذلك يبدو لوهلة أنّه البشريُّ الوحيد من حولها، الشخص الذي صمّم أن يطالب بحقّه من العدالة، فزرع فيها ذات العزيمة. لكنّنا نكتشف تباعا، أن يوسف ليس وحيدا، فهناك بعض أمارات الإنسانيّة في بعض هؤلاء الناس، ربّما مثلا تلك الممرّضة التي وكأنّها إذ تتابع قصّة مريم، تتابع مسلسلا تركيّا، وربّما الدكتور البحروني (الطبيب الشرعي) الذي ـ في ممارسته لمهنته بمثل ما يُفترض منه أن يفعل ـ بدا شخصا خارقا، ولكن خصوصا عون البوليس الذي استعاد دوره كعون أمن يحمي الضحيّة قبل أن تُطبق عليها كفُّ العفريت.

ولكنّ استعارة الزومبي تتجلّى بشكل أبرز هناك، في جبّ العفاريت، حين يطاردُ المعتدون ضحيّتهم. مرة تحتمي منهم بالكلاب (ربّما في إشارة إلى استعارة أخرى)، ومرّة بالهراوات، ومرّة بالاختباء وراء باب مغلق. لا يمكن أن نُخطئ خلوَّ هذه المطاردات من كلّ داعٍ دراميِّ حقيقيِّ، ولا يمكن أن نغفل عن حركات ثلاثتهم السخيفة والمبالغ فيها. من قال إنّ الموتى الأحياء لا يمكن أن يظهروا في دراما واقعيّة؟ بين جدران مراكز الأمن، تخطو كوثر بن هنيّة على حافّة أفلام الرعب، ورهاب الأماكن المغلقة، وحتّى عند الخروج إلى الشارع الخالي الفسيح، لا يزال الاختناق سمة المكان. كأنّ البلاد كلّها ثكنة بوليس كبيرة، مهمّة أعوانها الأساسيّة حفظ نمط ثقافيّ يقدّس الذكرَ ويختزل المرأة في أنوثتها، أو ما يُعرف اصطلاحا بثقافة النظام الأبويّ (Patriarchy).

لقد عملت كوثر بن هنيّة على النبش في مفاصل النظام الأبويّ، فكان حاضرا على حافّتيْ الدراما كسكّة تقودها. منذ البداية، تجنّبُ علاقةَ مريم بيوسف من التقاليد المألوفة. لا يهرع الشابُ إليها، ولا تتمنّعُ، بل تتوجّهُ إليه وتعرض عليه الخروج من دون أن تعرف إسمه. لكنّ خيارها لا يخيب إذ يتّضح ـ فيما بعدُ ـ أنّه "الرجلُ/المثالُ".
وخلال رحلتهما، تنثرُ المخرجةُ الكثير من الأفكار الرّائجة في مجتمعات النظام الأبويّ. فالمرأة المغتصَبة مدانة مسبقا، ربّما من قِبَل النساء قبل الرجال. لقد كانت النساءُ أكثر قسوة في تعاملهنّ مع البطلة، فموظّفة الاستقبال في المصحّة الخاصّة، اتّهمتها بمحاولة الكيدِ لشخص ما، والصحفيّةُ "المحترفة" فضّلت مواصلة النوم على أن تهتمّ لأمرها، فهي لا تعدو أن تكون قصّة للنشر، ولكنّ أقسى الأحكام، أطلقته عليها الشرطيّةُ التي أسأنا فهم هدوئها. فمع أوّل اختلاف برزت تلك الفكرةُ المخفيّةُ جانبا، قالت لها بنظرة اتّهام لا غبار عليها : عاهرة.
لقد ظلّت هذه المشاهدُ ثانويّةً لأحداث القصّة، وظلّ تأويلها مضمَّنا لا صريحا، ولم تحاول كوثر بن هنية أن تخلق أية مواجهة إيديولوجيّة، ما جعل الصورة تصل ببلاغة لم أعهد مثلها في السينما التونسيّة. لم تتوقّف كوثر بن هنيّة عند القمع الذكوريِّ للمرأة، بل ذهبت إلى القمع الذكوريِّ للرجلِ أيضا. فكان ما تعرّض إليه يوسف من ضروب الإذلال أقسى وأعنف. فأسقطت عنه "الرجولة" لأنّه عجز عن حمايتها، وفي كلّ مرة حاول فيها عون بوليس استفزازه، كانت هي الوسيلة. حتّى عند خلافه مع سائق سيارة الأجرة، كانت إهانة السائق تمرّ عبر الفتاة :"إذا كنت مفلسا، لماذا تُتعب بنت الناس معك؟".

لقد ربط "على كفّ عفريت" بخفّة عبقريّة، بين النظام الأبويّ والنظام البوليسيّ. فبالنسبة لكوثر بن هنيّة، لا يعدو الثاني إلاّ أن يكون تمظهرا للأوّل. لا ديمقراطيّة مع نظام بوليسيٍّ، هكذا بدت المواجهة بين يوسف والأسعد (المحقّق الأول)، لكن أيضا، لا يمكن التخلصّ من النظام البوليسيّ مع الإبقاء على النظام الأبويّ، وهكذا بدا بورتريه Portrait أعوان البوليس في الفيلم. يقفون متجاورين، كأنّهم يحشدون التِّسْتُسْتِيرون، يأخذ أحدهم موقع الزعامة، ربّما بفضل شاربه الطويل، ينفخ صدره قدر ما يستطيع، يمارسون الوصاية على المرأة، يسمّونها "الوليّة"، "الصبيّة"، أو ربّما بنعوت سوقيّة أخرى. لا يتبنّى العنفُ البوليسيُّ ثقافة الـPatriarchy فهو وليدُها، وتجلّيها، لذلك يمتزجان بشكل مكثّف في عبارات الترهيب والتخويف النمطية: "نكلّمو بوك"، "فضيحتك على كل لسان"، "شكون باش يرضى بيك؟"… بدون الوقوع في تمطيط مملّ، أو تكرار لما يعرفه الجميعُ، استعاد الفيلمُ أهمّ تقنيات البوليس التونسيّ، وطرقه لمغالطة المواطنين والتلاعب بهم وبأعصابهم. إنّهم عكس مريم المواطنة، يحفظون القانون جيّدا، يخفونه حين يدينهم، ويتلونه في خشوع حين يخدم مصالحهم. يسهل عليهم وضع الضحيّة في موضع الجاني، الوقت في صالحهم كما ذكر الشاذلي (أداء مميّز من الشاذلي العرفاوي)، والنظام يحميهم لأنّهم عمادُه.

وكما ربط الفيلم بين السلطة البوليسية والسلطة الأبوية، ربط أيضا بين ثورة الحرّيّة وجهاز البوليس. بين شباب القصبة وأعوان القمع، فلا ننسى أنّ كوثر بن هنيّة ابنة سيدي بوزيد. فأحدث استعمالُ عبارة "على كفّ عفريت" في خطاب الشاذلي، مقاربةً بين مريم وتونس، الأولى المعنيّة بعنوان الفيلم، والثانية المعنية بعبارة المحقّق (البلاد على كفّ عفريت وأنت تحب تشكي؟). كلاهما ضحيّة والجاني واحد يأخذ شكل بطل يحمي الحمى من الإرهاب.

إنّها المرة الأولى التي يخرج فيها فيلمٌ تونسيٌّ بهذه الجرأة في الشكل وهذا الاندفاع والوضوح في المضمون. لكنّه مع ذلك لم يخلُ من الهنّات خصوصا على مستوى الآداء. فرغم عمل مريم الفرجاني المميّز في شخصيّة مريم، إلا أنّها عرفت بعض لحظات الضعف خصوصا في مشهد المستشفى الأوّل (لا ما تصوّرنيش!)، كما كان الكثير من الأدوار الثانويّة هشّ الآداء، فالممرّضة في المستشفى لم تكن تنظر إلى الممثلين تقريبا، وأداء المعتدين الثلاثة كان أحيانا أقرب للهزل منه للرّعب، أمّا المحقق سي الأسعد، فلم أسمع عن محقّق ألطف منه. لقد دفعه يوسف بالفعل، ومع ذلك لم يمسّه بسوء، بل أبدى ثقافة عالية تجعلني أتساءل كيف لشخص يجيد الاستعارات الميثيقية أن يتصرّف بتلك الرّداءة؟ لقد كان مثال يوسف النجار ومريم العذراء و"ما عندناش منه في القرآن" سيّئا بقدر ما كان مثال الزومبي ناجحا.
ويبقى خطأ شاشة الهاتف السوداء حين تظاهر الشاذلي بأخذ رقم الأب منه، أسوأ الأخطاء التقنية. لكنّ هذه الأخطاء وإن أثّرت بعض الشيء على جودة العمل، فهي لم تسلب منه قوّته، ولا مساحة الإبداع فيه، ليبقى برأيي أحد أهم التعبيرات السينمائيّة التونسيّة ودليلا على أنّ رياح الحريّة قد بدأت تنحت بصماتها.

العنوان : على كفّ عفريت
السنة : 2017
المخرج: كوثر بن هنيّة
الصنف : دراما، اجتماعي، إثارة
المدّة : 100 دقيقة
البطولة : مريم الفرجاني، غانم الزّرلّي

No comments:

Translate